by | Sep 3, 2025 | أخبار العالم
مع تفاقم الأزمات التي تشهدها قطاعات الصحة والتعليم والنقل في تونس، وتصاعد نسبة البطالة، خصوصاً في صفوف حملة الشهادات العليا، يتردّد السؤال بشكل دائم عن الدور الاجتماعي للدولة، سيما في ظل الخطاب الرسمي الذي يعلن بوضوح أن الدولة لن تتخلى عن مجالات تدخّلها الواسعة في المجتمع والاقتصاد.
في أعقاب الاستقلال، سنة 1956، أخذت الدولة التونسية (ككل الدول المستقلة حديثا) على عاتقها إعادة بناء الاقتصاد المتهالك الموروث من الحقبة الاستعمارية. ولعبت الدولة دوراً اجتماعيّاً مفصليّاً من خلال إطلاق برنامج شامل لتنمية الاقتصاد الوطني، وجرى توجيه الجانب الأكبر من الموارد إلى قطاعات الصحة والتعليم الذي تحوّل إلى مصعد اجتماعي، خصوصاً أن غالبية الخرّيجين يلتحقون بوظائف مختلفة في أجهزة الدولة.
رغم نظامها السياسي المغلق وسيطرة الحزب الواحد طوال الزمن البورقيبي، إلا أن السلطة حينها ظلت حريصةً على ترسيخ مفهوم “دولة الرعاية”، وهو مفهومٌ للدولة، يُفترض أن يُوسّع نطاق تدخلها وتنظيمها في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. لذا، فإن “دولة الرعاية” هي التي تتولى مسؤولية تطبيق مجموعة من التدابير الرامية إلى إعادة توزيع الثروة المُنتجة داخل المجتمع، ومعالجة جميع المشكلات المجتمعية، كالمرض والشيخوخة والأمية والبطالة والفقر والمجاعة، وغيرها. لذا، تقوم “دولة الرعاية” على المبدأ الأخلاقي للتضامن بين مختلف الطبقات الاجتماعية، والسعي إلى العدالة والإنصاف الاجتماعي. وهي تُشجع على قيام دولة أكثر اجتماعية وأخلاقية، لأن همّها الوحيد هو ضمان رفاهية مواطنيها، وخدمتهم. على الأقل هذا ما كانت تبشر الدعاية الرسمية لولا الأزمات الاجتماعية الكبرى التي حصلت سنوات 1978 (المواجهة مع العمّال) و 1984 (ثورة الخبز) التي كشفت عن عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية.
يرتكز الخطاب السياسي للسلطة الحالية على رفع شعار تعزيز الدور الاجتماعي للدولة والاعتماد على الذات من دون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، في حين يرى مراقبون أنها مجرّد شعارات
وكانت التحولات المتسارعة التي شهدتها تونس وفشل الدولة في حل المشكلات الاجتماعية، وفي مقدمتها بطالة حملة الشهادات العليا وانتشار الفساد من الأسباب التي أدّت إلى اندلاع ثورة 2011 وإطاحة نظام زين العابدين بن علي. وعجزت حكومات ما بعد الثورة عن حل المشكل الاقتصادي بوصفه المصدر الذي ترتّبت عنه كل المشكلات الاجتماعية. وهكذا جرى تحميل النظام التعددي والديمقراطي مسؤولية الفشل، واتخذت البلاد طريقاً آخر في ظل مسار جويلية (25 تموز) 2021.
يرتكز الخطاب السياسي للسلطة الحالية على رفع شعار تعزيز الدور الاجتماعي للدولة والاعتماد على الذات من دون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، في حين يرى مراقبون أنها مجرّد شعارات سياسية لا تجد ترجمة فعلية على أرض الواقع وأن السياسات الاقتصادية المطبقة متناقضة مع أهداف السلطة. بل يتقلص الدور الاجتماعي للدولة بشكل واضح، كما يتجلى ذلك في ارتفاع الأسعار بشكل مستمر، ما أدّى إلى تآكل القدرة الشرائية لدى التونسيين، فضلا عن تدهور خدمات المرافق العمومية، مثل النقل والصحة والتعليم، ناهيك عن ضعف النمو الاقتصادي واستقرار معدلات البطالة بمستويات مرتفعة.
التنمية الاجتماعية والاقتصادية في جوهرها مسؤولية تقع على عاتق السلطات العامة
توضح كل التجارب التي خاضتها الأنظمة السياسية المختلفة أن التنمية الاقتصادية ورفاهية المواطنين تعتمدان بشكل كبير على التزام الدولة الجاد بتهيئة الظروف المواتية لتحفيز النمو وزيادته. وبالمثل، لا يمكن ضمان السلام والأمن الاجتماعي والحرّية والسعادة الفردية والجماعية، وهي شروط أساسية للتنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية، للسكّان إلا من خلال “دولة الرفاه” التي تحمي القوانين والحريات المدنية، بالإضافة إلى المنافع العامة.
التنمية الاجتماعية والاقتصادية في جوهرها مسؤولية تقع على عاتق السلطات العامة. أما الجهات الفاعلة التنموية الأخرى، مثل الشركاء من القطاع الخاص وحتى فئات السكان الشعبية، فلا تأتي إلا في مرتبة ثانوية مقارنةً بأسبقية دور الدولة ومسؤوليتها. الدولة هي المحرّك الرئيسي للنمو وتقدّم البلاد ورفاهية المواطنين. … على أي دولة معنية بالرفاهية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية أن تلتزم التزاماً راسخاً بدعم أي مبادرة فردية أو جماعية، عامة أو خاصة، تُسهم في ذلك وتعزيزها. لا يمكن للدولة أن تآذار هذه المسؤولية الأساسية تجاه سكانها وتجاه نفسها بالوكالة، لا من الأفراد ولا من المواطنين أنفسهم. إن مسؤولية الدولة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، على المستويين الوطني والدولي، أو في المناطق الحضرية أو الريفية، هي مسؤولية فريدة ومتميزة عن مسؤولية أي طرف آخر. المشكلة أن هذا الدور الذي كان ينبغي أن تقوم به الدولة تراجع ولم يعد يتجاوز مستوى الشعارات، أما الوقائع على الأرض فشيء آخر.
by | Aug 30, 2025 | أخبار العالم
مع بداية كل عام دراسي، تتزايد شكاوى عائلات أردنية: “أين نضع أبناءنا؟”… لم يعد السؤال عن نوع المدرسة أو مستواها، بل عن مقعد شاغر في غرفة صفّية مكتظة أصلاً، والعائلات التي كانت تشعر بالرضا والاطمئنان على البيئة والعملية التعليمة في المجمل بإرسال أبنائها إلى مدرسة خاصة “معتبرة”، اضطر عديدون منها هذا العام إلى إلحاقهم بمدارس حكومية. وقد باتت الهجرة العكسية من التعليم الخاص إلى الحكومة تتزايد في السنوات الخمس الأخيرة، فيما تئنّ المدارس الحكومية أصلاً من ضغوط ومشكلات بنيوية وأكاديمية واضحة، في وقت بات التعليم الخاص رفاهية لأردنيين كثيرين، بسبب الأعباء الاقتصادية المتزايدة المعروفة. وأصبح هذا ضغطاً غير مسبوق على المدارس الحكومية (وخصوصاً في العاصمة عمّان)، بسبب النمو السكاني المتزايد فيها، ما اضطرّ الحكومات المتعاقبة إلى اللجوء إلى المباني المستأجرة التي تشكل 15% من إجمالي المدارس الحكومية في الأردن! والتي إن أردت تقييمها فإنها لا تتمتّع بمواصفات متوسّطة للمدارس في أفضل الأحوال: أغلبها بيوت سكنية متهالكة، في أحياء مزدحمة، بعضها بجانب شوارع خطرة، لا ساحات فيها ولا بيئة تعليمية صحية، وهنا كيف نطلب من طفل أن يحلم أو يبدع وهو محشور في غرفة صفية تضم 45 طالباً، بلا مساحة للتفكير ولا حتى للحركة؟
تتحدّث الحكومة عن ضخ القطاع بمدارس جديدة بتمويل دولي، قروض ومنح ومبادرات مجتمعية، وهذا جهدٌ لا يُنكر، لكن الواقع يقول شيئاً آخر: ما زالت الفجوة كبيرة، وما زال الأهالي يشعرون بأن التعليم العام يفقد مكانته حاضنة للتنمية وصانعاً للفرص، رغم وجود أمثلة مشرقة في هذا القطاع، إلا أنها ليست متاحة لجميع الأردنيين، ولا حتى لجميع المناطق، وبخاصة التي تعاني من اكتظاظ في المدن الكبرى.
لا تقف المعضلة عند المباني، على أهميتها، بل عند ركن أساسي في العملية التعليمية؛ المعلّم الذي يئن تحت عبء ضعف الرواتب وثقل الروتين الإداري. تعكس مدارس الذكور تحديداً أزمة أعمق في السنوات الأخيرة، إذ أصبح التعليم مهنة طاردة للرجال بسبب تدنّي الرواتب، وغياب الحوافز، وثقل الأعباء الإدارية، مقابل فرصٍ أفضل في قطاعات أخرى، فالمعلمون يتركون المهنة بحثاً عن فرص أفضل، والنتيجة أن مدارس الذكور تعاني من نسب تسرّب عالية، وعنف متبادل، وتراجع خطير في التحصيل العلمي، وهو ما يفسّر قرار كثير من الأسر بإبقاء أبناءها الذكور في التعليم الخاص، بحثاً عن بيئة وليس عن تعليم أفضل فقط، والتضحية بفرص مماثلة لبناتها، بسبب التفوق النسبي لمدارس الإناث الحكومية من جهة الانضباط والتعليم والالتزام.
التعليم الحكومي ليس مجرد خدمة، إنه “الحصن الأخير” للمساواة الاجتماعية، ولا مجال للتفريط فيه
ومن هنا، جاء القرار أخيراً بتكليف معلماتٍ بتدريس الذكور في المراحل الأساسية خطوة واقعية وذكية، بل هو حل يمكن وصفه بأنه إسعافي، لكنها ليست حلاً جذريّاً يعالج أصل المشكلة: غياب استراتيجية تجعل التعليم مهنة جاذبة تقوم على التدريب المستمر، والتقدير الاجتماعي، والفرص المهنية الحقيقية، نحن بحاجةٍ إلى بيئة تجعل التعليم مهنة مرغوبة لا مهنة “اضطرارية”.
التعليم الخاص الذي يفترض أن يكون أكثر جودة، على الأقل في المنظور الأردني في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو منظور دقيق في عدة مدارس خاصة تنافس الجامعات في جودة تعليمها، ولكن من المعروف لأي طبقة اجتماعية واقتصادية هي متاحة! إلا أنه يعاني، هو الآخر، من شروط عمل مجحفة بحق المعلمين: ساعات طويلة، ورواتب متدنّية، وغياب الضمانات، والعامل الأبرز الذي يجذب بعض الكفاءات إليه هو الحرية الإدارية ومرونة بيئة العمل مقارنة بـ البيروقراطية الثقيلة في التعليم الحكومي. تكشف هذه المقارنة أن المشكلة لا تتعلق فقط بالمال، بل أيضاً بالحوكمة والإدارة والقدرة على التحفيز.
أصبح التعليم مهنة طاردة للرجال بسبب تدنّي الرواتب، وغياب الحوافز، وثقل الأعباء الإدارية
في المقابل، قد يبدو التفكير في خصخصة التعليم الحكومي أو فتحه للاستثمار الخاص (كما تردّد أخيراً) حلاً سريعاً، لكنه، في الحقيقة، يخدم مصلحة جهات مستفيدة على أكثر من صعيد، ويجب الانتباه إلى ألّا تتعدّى هذه الفكرة أبواب الغرف المغلقة، فذلك بالتأكيد يهدّد بتقويض الركيزة الأساسية للتنمية الوطنية، فالتعليم، دستورياً وأخلاقياً، مسؤولية الدولة. ومن دون إصلاح جدّي للتعليم العام، يخاطر الأردن بفقدان إحدى أهم أدوات الصعود الاجتماعي والحراك الاقتصادي، ويترك أجياله المقبلة في مواجهة مستقبل أكثر قتامة.
يبدأ الحل بالاعتراف بأن المعلم، والمنهاج، والبيئة المدرسية هي أضلاع مثلث العملية التعليمية، أي خلل في أحدها كفيل بإفشال البقية. المطلوب اليوم ليس فقط زيادة عدد المدارس، بل إعادة الاعتبار لمهنة التعليم نفسها، والاستثمار في تدريب الكوادر وتأهيلها، وتخفيف الأعباء الإدارية عن المعلمين ليتفرّغوا لدورهم التربوي. وإصلاح التعليم لا يعني بناء مدارس جديدة أو ترميم القائم منها فقط، بل إعادة الاعتبار للمعلم، وإصلاح بيئة العمل، وتقليص الاكتظاظ الذي يقتل روح التعلّم، وكل تأجيل في هذا الملف هو رصاصة إضافية، لا سمح الله، في قلب الحلم الأردني بمستقبل أفضل لأجيال بأكملها.
كان الأردنيون يفاخرون دوماً باستثمارهم في تعليم أبنائهم على مستوى المنطقة، حتى لو اضطرّوا للاستدانة، اليوم، يواجهون خياراً قاسياً: التخلي عن هذا “الاستثمار” لصالح متطلبات الحياة الأساسية، وهنا الخطر: فالتعليم الحكومي ليس مجرد خدمة، إنه “الحصن الأخير” للمساواة الاجتماعية، ولا مجال للتفريط فيه.
by | Aug 30, 2025 | أخبار العالم
بعد عامين ونيّف، على الأكثر، تنتهي مهمّة قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2790 الصادر مساء الخميس. يفترض هذا القرار أن تصفية القوة الأممية في عام 2027، يجب أن يرافقه انسحاب إسرائيلي من النقاط الخمس، فضلاً عن النقاط الواقعة شمالي الخط الأزرق الحدودي، الذي رسمته الأمم المتحدة بعيد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000. بات الجنوب اللبناني عملياً أمام آخر أيام لإحدى أطول المهمّات لقوات أممية في التاريخ، بعد الموجودة في كشمير منذ 1949، وقبرص منذ 1964، والجولان منذ 1974، وذلك إثر بدئها مهامّها في 1978 ردّاً على الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان.
مع أن “يونيفيل” لم تملأ فراغاً أمنياً في الجنوب اللبناني، خصوصاً بين عامي 1978 و2006، غير أنها ستترك فراغاً يُفترض أن يملأه الجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية. وهنا بيت القصيد. ليس في تصفية القوة الأممية في 2027 تحدّياً لها ولتقييمها بما حققته في الجنوب اللبناني، بل تحدٍّ لانتشار حقيقي للدولة اللبنانية، لا عبر قواها الأمنية والعسكرية فحسب، بل أيضاً في سياقات الإنماء الشامل. ذلك، لأن الجنوب، مثل مناطق الأطراف اللبنانية، كان مُهملاً في حقبات تاريخية، الأمر الذي ساهم في إضعاف مركزية الدولة لمصلحة لامركزيةٍ لا تناصرها، بل وجدت في قوى إقليمية ملاذاً لها. وهو ما يستوجب فعلياً مصالحة بين الدولة وناسها، وإلا فإن ألف فصيل وفصيل سيولدون في المستقبل، سواء بوجود احتلال إسرائيلي أو لا، وسيتحدّون السلطة المركزية. وما ينطبق على الجنوب لا يمكن تغييبه لا عن البقاع ولا عن الشمال.
من الجائز اليوم البدء بالتفكير بصورة أشمل عن السابق، والعمل في إطار الإنماء خارج الخوف من “الأهالي” أو “القوى المحلية”. لا تستقيم اللامركزية في لبنان إلا بأبعادها الإدارية وتسهيل الحياة اليومية بين المواطن والدولة، لا أن تتحوّل إلى حرب تُطمس فيها الانتماءات إلى لبنان أو تتشدّد، وفقاً لنوازع طائفية ومناطقية. لبنان على صغره قادرٌ على استيعاب الجميع، وإن كان هناك مرحلة انتقالية ستستوجب معها فرض مفهوم الدولة، بحقوقها وواجباتها، من الحدود إلى الحدود شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.
ليس في ذلك قصة رحبانية أو شعرٌ، بل واقع يتطلّب فهم معاني الفكر الدولتي. في ذلك أيضاً بسط لسيطرة الدولة وأجهزتها على كل شبرٍ من لبنان، لا أن تكون هناك مناطق ممنوعة عليها ومسلّحون يتبخترون بأسلحتهم بحجّة “غياب الدولة”. كذلك، من أهم واجبات الدولة ومسؤوليها التواضع قليلاً وفهم أن المواطنين، وإن تهمّهم مسألة سلاح حزب الله والفصائل الفلسطينية، فإنهم أيضاً لا يرغبون في إبقاء الأسلحة الفردية بين أيدي كثيرين. انظروا إلى سجلات قوى الأمن الداخلي اللبناني لإدراك كمّ الجرائم الفردية الحاصلة في البلاد. ومع أن رئيس الجمهورية، جوزاف عون، اعتبر في حديث تلفزيوني في إبريل/ نيسان الماضي أن “الأسلحة الخفيفة ثقافة عند اللبنانيين”، لكن خطيئة مثل هذه تتطلّب منه العمل على سحب هذه الأسلحة من أيدي المقيمين في لبنان، لبنانيين وسوريين وفلسطينيين وغيرهم. وهو يتابع أيضاً الملفات الأمنية اليومية، ويدرك تماماً خطورة الفلتان الأمني.
لا أحد يطلب من العهد الجديد حلولاً سريعة، إلا من كان في السلطة سنوات مديدة وساهم في خراب البلاد اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. ومعلوم أن حجم المشكلات الملقاة على عاتق السلطات اللبنانية هائل، لكن لا بدّ من البدء في مكانٍ ما. وإذا كانت عناوين مثل سحب السلاح والانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان طاغية، فإن المسارعة إلى تمدّد دور الدولة، وهو الحقيقة الطبيعية، على امتداد البلاد، سيسمح للمرّة الأولى منذ استقلال 1943، اعتبار الـ10452 كيلومتراً مربعاً قطعة واحدة، لا قطعاً متناثرة لطوائف ومناطق ولقوى إقليمية.
by | Aug 28, 2025 | أخبار العالم
أعلن عقلاء كثيرون قبل خمسين سنة أن تجاوز الخلافات المغربية الجزائرية في موضوعي الحدود والصحراء لن يحصل إلّا بالانخراط في مشروع الوحدة الإقليمية بين مختلف بلدانه، حيث يتحوّل اتحاد المغرب العربي إلى فضاء سياسي جديد، قطب إقليمي قادر على مواجهة التحدّيات المرتبطة بجغرافيّته وتاريخه، من قَبِيل التي تطرحها علاقاته بالاتحاد الأوروبي وبلدان المشرق العربي، وكذا علاقاته بالأفقين المتوسّطي والأفريقي. إلا أن هذا الموقف لم يستمع إليه أحد، ولم يُدرس بالعنايتين التاريخية والسياسية، القادرتين على تجاوز مختلف الحسابات التاريخية والسياسية المرتبطة بزمنٍ آخر، وبما كان يحمله من تصوّرات سياسية، بعضها مرتبط بالتركة الاستعمارية، وبعضها الآخر يرتبط بالنظام الدولي، كما رُتِّبت مبادئه بعد الحرب العالمية الثانية.
اتّجه موقف من ذكرنا نحو ما يمكن أن يؤسّس لقوة بلدان المغرب الكبير، خارج منطق التنافس الثنائي المرتبط بزمن القطبية الثنائية، وقد أصبحت متجاوزة اليوم، في عالم يتحوّل بإيقاع سريع، وتحكمه معطياتٌ جديدةٌ لا علاقة لها بمعايير القطبية التي ذكرنا ومتطلباتها، إضافة إلى مختلف ما عرفته البلدان المغاربية مجتمعةً من تحوّلات، نفترض أن تكون لها نتائج هامة، في باب بناء قطب إقليمي كبير بمساحته وموارده، قُطبٍ قادر على العمل والإنتاج، في عالم ازدادت فيه أهمية المجموعات القادرة على تطوير وتعزيز مكانتها، في عالم لم يعد يسمح بالاكتفاء ببناء التخندقات الصغيرة.
التجميد الذي لحق مؤسّسة اتحاد المغرب العربي، المؤسّس في 17 شباط/ شباط 1989، وإغلاق الحدود بين المغرب والجزائر منذ 30 سنة، ثم مرور نصف قرن على المسيرة الخضراء (1975)، التي جعلت المغرب في قلب صحرائه، وسمحت للجزائر ببناء مخيماتٍ في تندوف، المنطقة الحدودية الواقعة غرب الجزائر، شرق المغرب، حيث يجري إيواء بعض ساكنة الصحراء المغربية، وحيث أنجب بعض ساكنة هذه المخيّمات جيلاً جديداً من الصحراويين، في وقتٍ يواصل فيه المغرب مزيداً من الانخراط في تأهيل صحرائه.. فكيف نفكّر في ضوء ما أشير هنا إليه في الصراع المتواصل بين المغرب والجزائر؟ وكيف نفكر في التجميد الذي عَطَّل مؤسسات اتحاد المغرب العربي؟
لم تتمكّن بلدان المغرب العربي من بناء ما يُطوِّر أنظمتها السياسية في اتجاه توطين المشروع الإصلاحي الديمقراطي
تُطرح هذه الأسئلة ونحن نواجه تحوّلات سياسية واقتصادية جديدة، حصلت في أغلب بلدان المغرب العربي، نطرحها لنعيد النظر في الأسئلة القديمة، في ضوء التحوّلات الجارية داخل المنتظم الدولي، وانعكاساتها على بنية الحياة والإنتاج والتطور داخل هذه البلدان. ونطرحها لأن خطاب العرش الجديد، الذي ألقاه محمد السادس يوم 29 من الشهر الماضي (تموز/ تموز)، تضمّن دعوة موجهة إلى النظام السياسي في الجزائر، من أجل إعادة التفكير في الحلول المناسبة لموضوع الصحراء والصحراويين، فلم يعد من الممكن مواصلة التفكير في الخلاف الجزائري المغربي بمنطق حكام المغرب والجزائر ولغتهما في ستينيات القرن الماضي، لغة هواري بومدين (1932- 1978)، والحسن الثاني (1929- 1999)، كما يصعب التفكير فيه اليوم، وإغفال الأدوار التي يمكن أن يقوم بها اتحاد المغرب العربي المُعَطَّل. إضافة إلى ذلك، يصعب التفكير اليوم في علاقة المغرب بالجزائر من دون مراعاة أسئلة السياسة الراهن في البلدين الجارين، فالتحولات التي عاشها المغرب في صحرائه، ربع قرن من العهد الجديد، ساهمت في بناء معطياتٍ جديدةٍ مرتبطة بالمكانة التي سعى إلى بنائها في علاقته بأفريقيا والمحيط العربي وأوروبا، والولايات المتحدة، الأمر الذي نفترض أنه ستكون له انعكاسات، في موضوع الصحراء داخل دواليب مؤسسات المنتظم الدولي.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى الأدوار الجديدة التي تآذارها اليوم وسائط التواصل الاجتماعي، في موضوع توسيع مجالات الصراع، بصورةٍ تسيء إلى البلدين والشعبين، الأمر الذي يستدعي وقف عمليات التأجيج القائمة في هذه الفضاءات، واستبدالها بلغةٍ تستلهم مواقف العقلاء من البلدين الشقيقين، وذلك بالصورة التي تدفع إلى نسج خيوط المصالح المشتركة بينهما، من أجل بناء إقليمٍ قويٍّ بموارده وتجاربه، وتطلعاته الهادفة إلى تشكيل نموذج تنموي متفاعلٍ مع امتداده العروبي والأفريقي والمتوسطي، نموذج مؤسّس للاندماج والاستقرار والتنمية.
لم يعد من الممكن مواصلة التفكير في الخلاف الجزائري المغربي بمنطق حكام المغرب والجزائر ولغتهما في الستينيات
لا نملك اليوم في ضوء المتغيرات الجارية، في محيط مجتمعات بلدان المغرب الكبير، سوى أن نتحدّث عن نوع من الجمود المعطِّل لمشاريع التنمية والتقدّم في هذه البلدان، ووسط هذه المعطيات المعقدة والمركّبة، نلاحظ أن بعض القِوى الأوروبية تتجه لمحاصرة الوجود الأميركي في البلدان المغاربية. نحن نشير هنا إلى كل من فرنسا وإسبانيا، حيث تعمل كل منهما على استعادة مكانتها التقليدية في بلدان المغرب الكبير. ونتصور أن بلورة مقترحات جديدة في الموضوع، تتطلب فتح المجال أمام المناقشات الدائرة، سواء داخل مخيمات تندوف، أو في أوساط النخب السياسية الجزائرية والمغربية، حيث يتيح النقاش إمكانية بناء القواسم المشتركة، المساعِدة على تركيب مستجدّات القضية في علاقاتها بالمتغيّرات التي ذكرنا… وضمن هذا السياق، نبادر بنقد منطق الحتمية الجغرافية، الذي استندت إليه الجزائر لحظة احتضانها بعض الصحراويين، فنحن نتصوّر أن المخيمات المتاخِمة للحدود المغربية الجزائرية في منطقة تندوف لا تُعَدّ فقط مُحصِّلة إكراهٍ أملته الجغرافيا، الأمر أكبر من ذلك، ولو كان مقتصراً على مقتضيات الحتمية الجغرافية، لكان قد دفع الجزائر إلى القيام بدور الوسيط، القادر على احتضان الطرفين المعنيين مباشرة بالمشكل، بهدف محاصرته، لكن حسابات الجزائر لم تسمح لها بالقيام بهذه المهمّة، فاتخذ المشكل وضعاً زاده تشابكاً، وأصبحنا أمام ثلاثة أطراف، المغرب والبوليساريو والجزائر. وترتّبت عن ذلك نتائج أساءت إلى العلاقات المغربية الجزائرية، كما أساءت إلى مؤسّسة اتحاد المغرب العربي.
نجحت دول الاتحاد مجتمعة في التخلّي عن رسالته، وعزله عن مختلف التحوّلات والتحدّيات التي تواجهها بلدانه في علاقتها بالتحدّيات المطروحة داخل كل منها، وفي علاقتها بالمشرق العربي عموماً، وبالمؤسّسة العربية الإقليمية الأخرى. ولم تتمكّن بلدان المغرب العربي من بناء ما يُطوِّر أنظمتها السياسية في اتجاه توطين المشروع الإصلاحي الديمقراطي. كما لم تنجح في مواجهة التحدّيات التي تحول بينها وبين تحقيق ما تتطلّع إليه شعوبها من تنمية وتقدُّم. وضمن هذا السياق، لم تعد ثقافة الصمت والتأجيل مناسبة لمتطلبات المتغيرات الجديدة. نقول هذا لأننا نشعر بأن التفاف أطراف أخرى حول المشكل، قد يجعلنا نصنع اليوم بأيدينا ما نعتقد أنه من صنع الذين يدبّرون “المؤامرات” للإساءة إلينا.
by | Aug 28, 2025 | أخبار العالم
أعلن عقلاء كثيرون قبل خمسين سنة أن تجاوز الخلافات المغربية الجزائرية في موضوعي الحدود والصحراء لن يحصل إلّا بالانخراط في مشروع الوحدة الإقليمية بين مختلف بلدانه، حيث يتحوّل اتحاد المغرب العربي إلى فضاء سياسي جديد، قطب إقليمي قادر على مواجهة التحدّيات المرتبطة بجغرافيّته وتاريخه، من قَبِيل التي تطرحها علاقاته بالاتحاد الأوروبي وبلدان المشرق العربي، وكذا علاقاته بالأفقين المتوسّطي والأفريقي. إلا أن هذا الموقف لم يستمع إليه أحد، ولم يُدرس بالعنايتين التاريخية والسياسية، القادرتين على تجاوز مختلف الحسابات التاريخية والسياسية المرتبطة بزمنٍ آخر، وبما كان يحمله من تصوّرات سياسية، بعضها مرتبط بالتركة الاستعمارية، وبعضها الآخر يرتبط بالنظام الدولي، كما رُتِّبت مبادئه بعد الحرب العالمية الثانية.
اتّجه موقف من ذكرنا نحو ما يمكن أن يؤسّس لقوة بلدان المغرب الكبير، خارج منطق التنافس الثنائي المرتبط بزمن القطبية الثنائية، وقد أصبحت متجاوزة اليوم، في عالم يتحوّل بإيقاع سريع، وتحكمه معطياتٌ جديدةٌ لا علاقة لها بمعايير القطبية التي ذكرنا ومتطلباتها، إضافة إلى مختلف ما عرفته البلدان المغاربية مجتمعةً من تحوّلات، نفترض أن تكون لها نتائج هامة، في باب بناء قطب إقليمي كبير بمساحته وموارده، قُطبٍ قادر على العمل والإنتاج، في عالم ازدادت فيه أهمية المجموعات القادرة على تطوير وتعزيز مكانتها، في عالم لم يعد يسمح بالاكتفاء ببناء التخندقات الصغيرة.
التجميد الذي لحق مؤسّسة اتحاد المغرب العربي، المؤسّس في 17 شباط/ شباط 1989، وإغلاق الحدود بين المغرب والجزائر منذ 30 سنة، ثم مرور نصف قرن على المسيرة الخضراء (1975)، التي جعلت المغرب في قلب صحرائه، وسمحت للجزائر ببناء مخيماتٍ في تندوف، المنطقة الحدودية الواقعة غرب الجزائر، شرق المغرب، حيث يجري إيواء بعض ساكنة الصحراء المغربية، وحيث أنجب بعض ساكنة هذه المخيّمات جيلاً جديداً من الصحراويين، في وقتٍ يواصل فيه المغرب مزيداً من الانخراط في تأهيل صحرائه.. فكيف نفكّر في ضوء ما أشير هنا إليه في الصراع المتواصل بين المغرب والجزائر؟ وكيف نفكر في التجميد الذي عَطَّل مؤسسات اتحاد المغرب العربي؟
لم تتمكّن بلدان المغرب العربي من بناء ما يُطوِّر أنظمتها السياسية في اتجاه توطين المشروع الإصلاحي الديمقراطي
تُطرح هذه الأسئلة ونحن نواجه تحوّلات سياسية واقتصادية جديدة، حصلت في أغلب بلدان المغرب العربي، نطرحها لنعيد النظر في الأسئلة القديمة، في ضوء التحوّلات الجارية داخل المنتظم الدولي، وانعكاساتها على بنية الحياة والإنتاج والتطور داخل هذه البلدان. ونطرحها لأن خطاب العرش الجديد، الذي ألقاه محمد السادس يوم 29 من الشهر الماضي (تموز/ تموز)، تضمّن دعوة موجهة إلى النظام السياسي في الجزائر، من أجل إعادة التفكير في الحلول المناسبة لموضوع الصحراء والصحراويين، فلم يعد من الممكن مواصلة التفكير في الخلاف الجزائري المغربي بمنطق حكام المغرب والجزائر ولغتهما في ستينيات القرن الماضي، لغة هواري بومدين (1932- 1978)، والحسن الثاني (1929- 1999)، كما يصعب التفكير فيه اليوم، وإغفال الأدوار التي يمكن أن يقوم بها اتحاد المغرب العربي المُعَطَّل. إضافة إلى ذلك، يصعب التفكير اليوم في علاقة المغرب بالجزائر من دون مراعاة أسئلة السياسة الراهن في البلدين الجارين، فالتحولات التي عاشها المغرب في صحرائه، ربع قرن من العهد الجديد، ساهمت في بناء معطياتٍ جديدةٍ مرتبطة بالمكانة التي سعى إلى بنائها في علاقته بأفريقيا والمحيط العربي وأوروبا، والولايات المتحدة، الأمر الذي نفترض أنه ستكون له انعكاسات، في موضوع الصحراء داخل دواليب مؤسسات المنتظم الدولي.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى الأدوار الجديدة التي تآذارها اليوم وسائط التواصل الاجتماعي، في موضوع توسيع مجالات الصراع، بصورةٍ تسيء إلى البلدين والشعبين، الأمر الذي يستدعي وقف عمليات التأجيج القائمة في هذه الفضاءات، واستبدالها بلغةٍ تستلهم مواقف العقلاء من البلدين الشقيقين، وذلك بالصورة التي تدفع إلى نسج خيوط المصالح المشتركة بينهما، من أجل بناء إقليمٍ قويٍّ بموارده وتجاربه، وتطلعاته الهادفة إلى تشكيل نموذج تنموي متفاعلٍ مع امتداده العروبي والأفريقي والمتوسطي، نموذج مؤسّس للاندماج والاستقرار والتنمية.
لم يعد من الممكن مواصلة التفكير في الخلاف الجزائري المغربي بمنطق حكام المغرب والجزائر ولغتهما في الستينيات
لا نملك اليوم في ضوء المتغيرات الجارية، في محيط مجتمعات بلدان المغرب الكبير، سوى أن نتحدّث عن نوع من الجمود المعطِّل لمشاريع التنمية والتقدّم في هذه البلدان، ووسط هذه المعطيات المعقدة والمركّبة، نلاحظ أن بعض القِوى الأوروبية تتجه لمحاصرة الوجود الأميركي في البلدان المغاربية. نحن نشير هنا إلى كل من فرنسا وإسبانيا، حيث تعمل كل منهما على استعادة مكانتها التقليدية في بلدان المغرب الكبير. ونتصور أن بلورة مقترحات جديدة في الموضوع، تتطلب فتح المجال أمام المناقشات الدائرة، سواء داخل مخيمات تندوف، أو في أوساط النخب السياسية الجزائرية والمغربية، حيث يتيح النقاش إمكانية بناء القواسم المشتركة، المساعِدة على تركيب مستجدّات القضية في علاقاتها بالمتغيّرات التي ذكرنا… وضمن هذا السياق، نبادر بنقد منطق الحتمية الجغرافية، الذي استندت إليه الجزائر لحظة احتضانها بعض الصحراويين، فنحن نتصوّر أن المخيمات المتاخِمة للحدود المغربية الجزائرية في منطقة تندوف لا تُعَدّ فقط مُحصِّلة إكراهٍ أملته الجغرافيا، الأمر أكبر من ذلك، ولو كان مقتصراً على مقتضيات الحتمية الجغرافية، لكان قد دفع الجزائر إلى القيام بدور الوسيط، القادر على احتضان الطرفين المعنيين مباشرة بالمشكل، بهدف محاصرته، لكن حسابات الجزائر لم تسمح لها بالقيام بهذه المهمّة، فاتخذ المشكل وضعاً زاده تشابكاً، وأصبحنا أمام ثلاثة أطراف، المغرب والبوليساريو والجزائر. وترتّبت عن ذلك نتائج أساءت إلى العلاقات المغربية الجزائرية، كما أساءت إلى مؤسّسة اتحاد المغرب العربي.
نجحت دول الاتحاد مجتمعة في التخلّي عن رسالته، وعزله عن مختلف التحوّلات والتحدّيات التي تواجهها بلدانه في علاقتها بالتحدّيات المطروحة داخل كل منها، وفي علاقتها بالمشرق العربي عموماً، وبالمؤسّسة العربية الإقليمية الأخرى. ولم تتمكّن بلدان المغرب العربي من بناء ما يُطوِّر أنظمتها السياسية في اتجاه توطين المشروع الإصلاحي الديمقراطي. كما لم تنجح في مواجهة التحدّيات التي تحول بينها وبين تحقيق ما تتطلّع إليه شعوبها من تنمية وتقدُّم. وضمن هذا السياق، لم تعد ثقافة الصمت والتأجيل مناسبة لمتطلبات المتغيرات الجديدة. نقول هذا لأننا نشعر بأن التفاف أطراف أخرى حول المشكل، قد يجعلنا نصنع اليوم بأيدينا ما نعتقد أنه من صنع الذين يدبّرون “المؤامرات” للإساءة إلينا.