by | Sep 5, 2025 | أخبار العالم
تشبه علاقة فضل شاكر مع الجمهور العربي علاقة الجمهور نفسه مع الراحل زياد الرحباني، فبعد تصريح الأخير قبل سنوات عن رأيه المضادّ للربيع العربي وللثورة السورية، تحديداً، حاول إعدامه (معنوياً) محبّون وكارهون له، حيث قام هؤلاء بنشاط واضح يهدف إلى شيطنة زياد وتسفيه منجزه الفني، وتباروا بمن يتمادى أكثر في كرهه وأعماله، وكأن للرأي السياسي المستجد للفنان أثره الرجعي على الذائقة الفنية للجمهور الذي يحاول التبرّؤ من ذائقةٍ كانت مغرمةً به، كي لا يوصم بأنه غير ثوري. لكن محبّة جمهور زياد عادت بقوة مع رحيله المفاجئ في تموز/ تموز الماضي، كما لو أن الموت يجبّ ما قبله، أو ربما مآلات الثورة السورية وحالة الانحدار الفاضحة في دول الربيع العربي أعادت ضبط الذائقة الفنية إلى وضعها الصحيح.
حدث الأمر نفسه مع فضل شاكر، لكن من الطرف المقابل، إذ ثمّة تحوّل كبير حصل في شخصية شاكر خلال العقد الماضي، حين اعتزل الغناء فجأة وأعلن التحاقه بالشيخ السلفي أحمد الأسير (المفارقة أن هذا ينتمي إلى عائلة غناء وموسيقى). وحصلت أحداث صيدا (معركة عبرا) التي اتهم فضل شاكر بالمشاركة بها، فلوحق أمنياً، ثم اختبأ في مخيم عين الحلوة الفلسطيني سنوات طويلة ملاحقاً بتهم قضائية وجنائية، قبل أن يظهر على الإعلام مجدّداً عبر منصّة شاهد في فيلم وثائقي عن تحوّلاته السياسية والإنسانية. وقد لاقى هذا التحول في شخصية فضل شاكر استحساناً كبيراً لدى جمهور عربي سيبقى طويلاً يصنّف الفن نوعاً من الزندقة، وفي التوبة عنه عتقاً من النار. كما كان لموقف فضل شاكر وقتها من الثورة السورية دور كبير في استحسان تحوله، وجعل كثر ممن لم يكونوا معنيين بفنه يستعيدون أغنياته التي أعلن هو نفسه التبرّؤ منها، في مفارقة مدهشة تتيح سؤالاً آخر: هل الموقف الثوري، حتى لو كان متطرّفاً، ينتج ذائقة فنية جديدة؟
لم يكن فضل شاكر مؤدلجاً كزياد الرحباني، اليساري الشيوعي. هو ابن بيئة شعبية محافظة، ليس لديها أي حصانة فكرية أو نفسية لمقاومة خطاب ديني طائفي سياسي ينشط في الأزمات الوجودية، كحال الربيع العربي والثورة السورية، وتأثر لبنان بها. ويبدو أن الفن لم يكن كافياً له لملء فراغ روحي تشكّله أزمة هوياتية أو أسئلة وجودية لا إجابات شافية لها. كان الخطاب الديني لفنان رومانسي مثله الإجابة الوحيدة المتاحة وسط العواصف التي كانت على وشك إطاحة كل البديهيات والمسلّمات عن انتصار الحق على الباطل، وعن مساندة الخالق المظلوم ووقوفه معه. كان الواقع عكس ذلك، فالباطل هو السيد وهو المنتصر. مع شخصية مركّبة أيديولوجية، مثل زياد الرحباني، سوف يكون الالحاد تمرّداً على منطق القوة والظلم، بينما شخصية بسيطة مثل فضل شاكر سوف يكون التطرّف الديني إجابة وبحثاً عن هوية واضحة، تحافظ على الذات من التشظّي.
يبدو أن ذلك التطرف لم يكن أصيلاً في شخصيته، حيث بدا كما لو أنه أجرى مراجعة ذاتية لموقفه من الفن، فعدل عن قرار الاعتزال شيئاً فشيئاً، حتى ظهر في ألبوم “بجامل ناس 2022″، بقي صوته فيه هادئاً وحسّاساً وراقياً. وبقيت خياراته في الكلام واللحن متفوّقة على أقرانه وزملائه من اللبنانيين والعرب.
ظهر ألبومه من دون ضجيج إعلامي مرافق له (كما لو أن الإعلام العربي ما زال يخشى من اتهامه بالانحياز للتطرّف)، ومع ذلك، حصد الألبوم ملايين المشاهدات على “يوتيوب” في مدّة قصيرة جداً. ليتبعه بأغنيات متفرقة ظهرت خلال الأشهر الماضية وصورت بكاميرا عادية ظهر فيها هذه المرّة مع نجله محمد الذي ورث عن أبيه خامة الصوت الحسّاسة، كما لو أن شاكر يعلن قطيعة نهائية مع فترة التطرّف بتقديم ابنه هدية للفن والطرب. وحققّت أغنية “كيفك عفراقي” نجاحاً منقطع النظير خلال أيام قليلة من بثها على “يوتيوب”. بدا فيها فضل شاكر كما لو أنه يستفسر إن كان جمهوره قد اشتاق له، وإن كان قد سامحه عن خطيئته التي ارتكبها في حقّ الفن.
by | Sep 4, 2025 | أخبار العالم
إجراء استطلاع لمعرفة اتجاهات الرأي العام في سورية حدثٌ غير مسبوق في تاريخ الجمهورية السورية، أو على الأقل منذ أكثر من خمسة عقود، إذ لطالما كانت مثل هذه المسائل محرّمة، وتدخل في إطار قضايا الأمن القومي، ذلك أن توفر مؤشّرات ومعطيات حقيقية عن اتجاهات الرأي العام، وقراءة الجمهور الواقع، والتعبير عن رؤيته إلى المستقبل، يعدّ نوعاً من البيانات التي يجب أن لا تخرُج من ضمن أدرج المخابرات، خوفاً من أن تستغلها أطراف داخلية وخارجية ضد نظام الحكم الاستبدادي.
من هنا، يمكن قراءة الاستطلاع الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، باعتباره تجربة تستحقّ القراءة والتدقيق في النتائج التي خلَص إليها، ولا سيما أن للمركز خبرة سنوات طويلة في هذا النوع من الاستطلاعات، في إصداره “المؤشّر العربي” سنوياً، باستخدام منهجيات وتقنيات متطوّرة، بشهادة أكاديميين وأصحاب اختصاصٍ عديدين.
وتأتي أهمية الإستطلاع، من أنه يضع مادة علمية بين يدي الباحثين وصنّاع القرار يمكن الاستفادة منها في قراءة الراهن السوري والمستقبل من زوايا عديدة، بعضها جرى التعتيم عليه، أو تناوله بناء على معلومات مضلّلة إلى حد بعيد، إذ طالما انبنت التصوّرات عن الأوضاع السورية بناء على حوادث معينة أو توقّعات واستشرافات، لم تكن كافية لقراءة التوجّهات، أو عبر التركيز على زاوية معينة، وتعميم تلك القراءة قسراً على مجمل الواقع السوري الذي يتصف بالتشابك والتعقيد الشديد بين قضاياه ومشكلاته وأزماته.
النسبة الغالبة لا تؤيد قيام دولة على أساس ديني، وتفضّل بدلاً من ذلك دولة مدنية
لافتٌ في الاستطلاع حجم الأمل الكبير لدى السوريين، رغم قساوة الأوضاع الاقتصادية والخدمية والمعيشية، وهذا يعني أن لدى السوريين توقّعات مرتفعة السقف في هذا الشأن، ستشكل ضغطاً على الحكومة لترشيد سياساتها والعمل الجادّ في هذا الحقل، والراهن أن في سورية ارتباطاً كبيراً بين التوجهات السياسية والتحسّن على المستوى الاقتصادي، ولا سيما أن أغلب ما جرى إعلانه من مشاريع استثمارية مستقبلية جاء لأسبابٍ سياسيةٍ بدرجةٍ كبيرة، ومن ثم، ستبقى عرضة للتطوّر في هذا المجال، وهذا ما يجب أن تدركه الحكومة.
لا يكشف الاستطلاع فقط ثقافة لدى السوري تطلب الديمقراطية والدولة المدنية وتنبذ التطرّف، بقدر ما يكشف عن وجود وعي لدى السوريين أن هذه القضايا هي تأشيرة للدخول في العالم الجديد، أو يمكن اعتباره نوعاً من التكيّف مع مسار عالمي يحبذ هذه التوجّهات، ما يعني أيضاً أن الشريحة الكبرى من السوريين، بحكم سنوات الثورة والاغتراب والاطّلاع على تجارب الشعوب، قد تشكَّل لديها وعي سياسي واجتماعي ناضج إلى حد كبير يتطلّب من صنّاع السياسات صياغة آليات مناسبة للتلاقي مع هذا التطور الملحوظ في الوعي الجمعي.
يؤشّر الاستطلاع على المستقبل أكثر من تركيزه على الراهن، كونه ينطوي على حمولاتٍ واسعةٍ من آمال السوريين وتصوّرهم المستقبل الذي يريدونه في المجالات السياسية والاقتصادية، وعلى صعيد الوحدة الوطنية، يمكن وصفه بخريطة طريق مستقبلية يحاول السوريون صياغتها، والتمنّي على صنّاع القرار أخذها في الاعتبار، وتلك الآمال والتطلّعات روافع مهمة لسورية الجديدة تمنح صانع القرار هامشاً من المشروعية، لكن تنبهه، في الوقت نفسه، إلى أن تلك المشروعية متولّدة بدرجة كبيرة من قيادته التغيير، ومن قناعة شرائح سورية كثيرة إلى أنهم شركاء في هذا التغيير، بل صنّاعه، ومن ثم، لا بد أن تكون هناك ترجمات حقيقية لهذا الأمر من خلال مخرجات ملموسة، ولا سيما على الصعد السياسية والاقتصادية، بالنظر إلى قابليّتها للقياس والمعايرة.
وضعت آراء السوريين محدّدات تجاه تحرّكات السلطة، ولا سيما في مسألة العلاقة مع إسرائيل
من المسائل التي كشفها الاستطلاع أن سورية لم تذهب إلى حد بعيد في التطرّف الديني، إذ رغم التهويل الإعلامي، ولا سيما بعد أحداث الساحل والسويداء، والزعم أن نسبة كبيرة من السوريين تتعاطى السياسة من منطلقاتٍ دينية، فقد ثبت أن النسبة الغالبة لا تؤيد قيام دولة على أساس ديني، وتفضّل بدلاً من ذلك دولة مدنية، ورغم أن من يتصدّر المشهد في المرحلة الراهنة هم شخصيات ذات خلفية دينية، على مستوى أغلب مكوّنات المجتمع السوري، وصعود الخطاب الطائفي بدرجةٍ غير مسبوقة، يفضّل الاتجاه السوري العام الدولة المدنية، وقد يعكس ذلك إدراك السوريين أهمية هذا الأمر عاملاً للخروج من الأزمة الراهنة.
آراء السوريين، وإن بدت أنها ترغب في منح فرصة للنظام السياسي للإقلاع بالبلاد إلى أفقٍ أفضل، يتوقّعونه ويفضلونه، لا يعني ذلك تفويضاً عاماً للتصرّف بقضايا السوريين، ولا سيما المصيرية، فقد وضعت آراء السوريين محدّدات تجاه تحرّكات السلطة الحالية، ولا سيما في مسألة العلاقة مع إسرائيل والموقف من استرجاع الأراضي المحتلة، ما يُضعف هامش المناورة أمام هذه السلطة، في تفاوضها مع إسرائيل، كما أنه يكشف حقيقة مهمّة حاول الإعلام الصهيوني تزويرها من أن الجزء الأكبر من السوريين يرحب بالسلام مع إسرائيل، حتى لو كان ذلك على حساب التنازل عن الأرض المحتلة.
بقدر ما يقدّم الاستطلاع بيانات مهمة يمكن للباحثين وصُنّاع السياسات الاستفادة منها، فإنه يفرض عليهم تعديل اتجاهاتهم وزوايا قراءاتهم الواقع السوري، والتدقيق ملياً بطموحات السوريين المتطوّرة، وإلا فستتضارب أبحاثهم وسياساتهم حتماً مع المضمون الحقيقي لإرادة السوريين وتطلّعاتهم المستقبلية.