by | Sep 9, 2025 | أخبار العالم
منذ أن فرضت منصات البث التدفقي حضورها في المشهد الدرامي، أصبح تقديم المسلسلات التي تتناول عائلات تمثل نخبة المدينة تقليداً ثابتاً: بيوت أنيقة وحياة مثالية، لكن تحت السطح تختبئ أسرار مظلمة تكشف زيف هذه الصورة. في هذا السياق، يأتي مسلسل “الأخت الفضلى” (The Better Sister) الذي عرض أخيراً على منصة برايم فيديو، مقتبساً عن رواية الكاتبة الأميركية ألافير بيرك الصادرة عام 2019، ليقدم دراما نفسية مشوقة تستكشف تعقيدات الروابط الأسرية، وجروح الطفولة، والصدمات المتناقلة عبر الأجيال.
تدور أحداث القصة حول كلوي تايلور (جيسيكا بيل)، رئيسة تحرير مجلة مرموقة. تبدو حياتها مثالية: مسيرة مهنية متألقة، وزوج ناجح وجذاب يدعى آدم تتولى معه رعاية ابنه المراهق إيثان. إلا أن آدم هو الزوج السابق لأختها نيكي (إليزابيث بانكس)، ذات الماضي المضطرب. عندما يُقتل آدم بوحشية في منزلهما، تُجبر كلوي وفقاً لإجراءات التحقيق على إعادة التواصل مع نيكي، والدة إيثان البيولوجية، لتواجه الشقيقتان معاً حقائق مؤلمة وأسراراً طال دفنها.
منذ الحلقات الأولى، يضعنا المسلسل في مواجهة مباشرة مع الفارق بين حياة الشقيقتين. في مقابل الحياة البراقة لكلوي، تحمل نيكي الماضي الفوضوي بكل أثقاله، من صدمات الطفولة إلى الإدمان، لتبدو الجريمة ذريعةً لاستكشاف التعقيدات العاطفية، والصدمات المتراكمة، والعلاقة السامة التي تربط الأختين منذ الطفولة، مروراً بكل المراحل التي شكلت شخصيتيهما، والخيارات التي فرضتها الظروف العائلية على حياتهما. هنا، يصبح لغز من قتل آدم؟ أقل أهمية من معرفة كيف تصمد الأختان أمام إرث مشترك من الألم، وكيف تتعامل كل واحدة مع شعورها بالذنب والإخفاق، ورغبتها في السيطرة على حياتها رغم الماضي الذي يطاردهما.
يغوص سيناريو “الأخت الفضلى” في الجانب النفسي للشخصيات. يتجلّى هذا في صراع كلوي مع توقعات المجتمع والحفاظ على الثروة، وفي صراع نيكي مع الذكريات المؤلمة والإدمان. هذا التباين يخلق سرداً متشابكاً يهيمن على المشهد، ويخلق نسيجاً من العلاقات المعقدة، لكن ما يربطها جميعاً يبقى سمّية العلاقات الأسرية نفسها، التي تتسرب عبر صمت، وإيماءات ناقصة، وكلمات غير منطوقة، وقرارات، حتى ولو كانت قديمة، ما زالت تثقل كاهل الحاضر. في قلب هذا كله، نجد أن المسلسل يحاول نقل حالة الانقسام الداخلي لكلوي ونيكي، والتحولات التي تفرضها الحياة، فتصبح المواجهة بين الأختين محور السرد الفعلي وليس القضية الجنائية، إذ إن الديناميكيات الأنثوية ليست مجرد خلفية، بل هي محرك رئيسي للأحداث: العلاقات بين الشقيقات، والأمهات، والصديقات، وشكل الصراعات النفسية والعاطفية بينهن التي تتجاوز الثنائية التقليدية بين الخير والشر. وفي مقابل هذه الشخصيات النسائية الغنية، تحضر الشخصيات الذكورية باهتةً، فيطلّون خصوماً هامشيين أو شركاء غير مدركين للاضطراب الذي يسبّبونه.
تلعب الأداءات التمثيلية دوراً رئيسياً في نجاح العمل الذي يُبرز التعقيد النفسي والطبقات المتعددة للشخصيات، إذ تجسد بانكس شخصية نيكي الساخرة ببراعة، بكل ما تحمله في داخلها من انفعالات وزخم عاطفي ومرارة، بينما تقدم بيل أداء مقنعاً لشخصيتها المغلفة بالصرامة والبرود، لتظهر الكيمياء بين الممثلتين في أعلى حالاتها.
مشكلة العمل الإفراط في توظيف المؤامرات الثانوية والأحداث الفرعية، التي تتضمن زملاء آدم في المكتب، ورئيسه في العمل، والمؤامرات المتعلقة بابنه إيثان ودائرته، والمحققين المسؤولين عن القضية. هذه الخطوط، رغم أنها تضيف كثافة للقصة، تؤدي في الجزء الأوسط من السلسلة إلى الملل، وتكرار المعلومات، ومراوغة الحبكة، وإضعاف تدفق السرد، ليصبح التركيز أقل على المحورين الرئيسيين: لغز القتل والعلاقة بين الأختين. كما أن استخدام ذكريات الماضي بتكرار يبطئ من وتيرة الأحداث ويقلل من حدة التشويق، حتى وإن كان الهدف المعلن هو تعميق فهم الشخصيات، خصوصاً أن كثيراً من هذه الذكريات لا ترتبط بالضرورة بالحاضر.
في “الأخت الفضلى”، لسنا أمام جريمة غامضة بقدر ما نحن أمام ميلودراما نفسية وتشريح لعلاقة شقيقتين تواجهان إرث صدمات الطفولة؛ إذ يتشابك الألم مع الحميمية، وتلتقي الخسارة مع الرغبة في السيطرة، وينقلب الانكسار إلى محاولة للنهوض والبدء من جديد.
by | Sep 3, 2025 | أخبار العالم
السينما تقتبس الشعر. كريستوفر نولان يقتبس أوديسة هوميروس، ويصوّرها في جنوب المغرب. زار المهدي بنسعيدي، وزير الاتصال والثقافة، موقع التصوير. مخرج محدق يقتبس قصيدة حرب من شاعر أعمى. حرب أخرى في أفلام نولان. يعشق المخرجون السينمائيون تصوير الحرب، التي بحسب كلاوزفيتز “استكشاف فنّ العنف في تدمير أعدائنا”، وكسب المجد.
تبدأ ملحمة الأوديسة بطلب سرد حِيل الرجل، مُدمّر طروادة بتصميم حصان، والناجي من الغرق بخشبة. دخل بيته مُتنكراً بزي متسوّل، ليشارك في اختبار شدّ القوس. أحسنُ القصص حِيَلٌ، كما فعل أوليس. تحامق البطل كي لا يذهب إلى الحرب، لكنّه استجاب لسفير الملك مينيلاس. يُتعب سردُ الحِيَل الخصمَ، ويشوّق المشاهد. ليست صدفة أنّ المدينة، التي حصّنتها جُدرانها، غدرت بها لعبة خشبية. يثبت توجّه نولان في اقتباس الأوديسة ضرورة تدريس الأدب القديم في معاهد السينما.
لدى نولان حكاية عودة مُظفّرة من حرب بلا غنائم. تجري الأحداث بين مدينة طروادة وجزيرة إيتاكا. رحلة الكاميرا طويلة، برفقة بطل عائد يتحدّى العوائق التي تؤخّر وصوله إلى حبيبته ومملكته. في اليوم السادس، تظهر جزيرة عجيبة.. الهدف سام، والعوائق قاسية، التشويق مضمون.
هذه سمات سردية شجّعت نولان على اقتباس نصّ كبير، قديم ومعروف، لتجاوز نقد سيناريوهات أفلامه السابقة. هذه شجاعة فنية واقتصادية، تُكلّف 250 مليون دولار أميركي. العائد مضمون. جورج إيستمان، مخترع الكاميرا ورجل أعمال، يعرف أنّها آلة فنية مُدرّة للربح.
يعشق نولان تصوير الحركة. نظراً إلى أفلامه، في كل مشهد تتحرّك الكاميرا أو الممثل، وغالباً هما معاً. هذه الحركة مصدر تفوّقه الإخراجي في هذا القرن. ستجري كاميراه المسافة من مدينة طروادة المحترقة إلى جزيرة إيثاكا الساحرة والجنة الموعودة. في الطريق البحرية، غيلان وجنود وخِراف وجنّ وعواصف. هناك، يُمسخ بشر إلى خنازير، لكنّهم يحتفظون بمخّ البشري. الشكل حيواني، والوعي بشري.
وضع الراوي المحتال الغرائب في طريق بطل الرحلة. هذا يفتح الطريق إلى أسلبة بصرية.
هذا جديد نولان، بعد “أوبنهايمر” (2023، سبع جوائز “أوسكار” 2024). مع كل نجاح لأفلامه، تسري أخباره في صحف وقنوات، وبين سينيفيليين. إنّه قوة إعلامية هائلة، توفّر واجهة عرض رائعة للمغرب، حيث يُصوّر الفيلم.
بلغ خبر الاقتباس والتصوير في المغرب الإنترنت، بعد بلوغ شهرة أوليس السماء، بفضل مصائب صبّتها عليه الآلهة. سلّط خبر التصوير الهوليوودي الأضواء والكاميرات على جمال شواطئ مدينة الداخلة، وعلى الاستقرار السياسي في المنطقة. هنا، لا مكان لفوضى الصحراء الكبرى. المغرب بلد آمن، تجاوز المسائل الأمنية للتعامل مع المطالب الفنية والجمالية. يُصوّر نولان بأموال منتجين أميركيين. هذه رسالة سياسية/اقتصادية. يمكن الاستثمار في صحراء جنوبي المغرب، من دون مخاوف.
ماذا تقول الأوديسة عن العالم المعاصر؟ حروبٌ في أوروبا وأفريقيا وآسيا. كائنات بشعة تفترس البشر. شلالات دمٍ في كلّ مكان، فالعالم تحت رحمة قادة، لديهم خلل في المنظور. يمثّل نشيد بوليمفوس، ذو العين الواحدة، قمة التشويق. لديه خلل في النظر. لا تُكذِّب وقائعُ الحاضر وقائعَ الماضي.
ما الذي يجمع كل هذا؟ هوس السيطرة على السلطة والأرض.
بالنسبة إلى تفسير التاريخ، مشكوكٌ أنْ يُحمّل المخرج مسؤولية حروب القرن 21 على حقد الآلهة الإغريقية. الشر البشري سبب الحروب. سيفسّر الماضي الحاضر. يقول بَنَديتو كروتشه: “إنّ الاهتمام بالحاضر شيء وحيد يُحرّك المرء للتحقيق في وقائع الماضي”.
لماذا نصّ قديم لتفسير الحاضر؟ لاستثمار المسافة الزمنية التي تفصل المُشاهد عن زمن الأحداث، لخلق الدهشة.
صوّر نولان الباحث النووي المسالم أوبنهايمر مُهملاً، رغم حلمه بالسلام. وصوّر جوكرا مُتجهّماً (The Dark Knight، 2008) وهو يفكر في وول ستريت، ويحقّق في ما يجري، ويكشف الأقنعة، وصوّر ليوناردو دي كابريو يرى ذكرياته وأحلامه مُجسّمة (Inception، 2010).
في كلّ أفلامه، ورغم ضجيج المؤثّرات الصوتية واللعب بالمؤثّرات البصرية، يبقى البطل مُتصلاً بسياقه، هنا والآن. البطل قريب منا، وبعيد عن خوارق أبطال أفلام “مارفل”.
هذه مستويات جاذبية “الأوديسة”:
(*) اقتبس نولان نصّاً ملحمياً راسخاً، يُثبت أنّ السينما سرد أولاً. تتميّز الملحمة بسُمك الموضوع، ودقّة الوصف النفسي، وسلاسة الأسلوب ووضوحه. سيجد السيناريست المُقتبِس أشياء يُقطّعها كما يشاء.
(*) أخلاقياً، “تظهر الملحمة الجنس البشري في أعلى مراحل الرجولة”. تمتّع البطولة الجمهور. أوليس بطل مُسالم، تجرف الحرب 20 سنة من حياته. رجل مخلص يحبّ زوجته، ويتعرّض لشقاء الحرب والحرمان من حبيبته. تترجم الملحمة قِيَم شعب بكامله، في لحظة مصيرية، يرى المُشاهد نفسه جزءاً منها.
(*) أخلاقياً أيضاً، يندلع نزاع بين الآلهة بسبب الدم السائل، وبسبب نتائج حرب طروادة. هل تستحق الآلهة الإغريقية، التي سمحت بسيلان كلّ هذا الدم، الاحترام؟ سؤال يهمّ الغرب.
(*) بصرياً، يتوفّر نولان على رسوم وتماثيل ولوحات كثيرة لشخصيات الملحمة، ليستلهم المناظر.
(*) عاطفياً، تلتقي ملحمتا الإلياذة والأوديسة في أنّ كلّ من يتزوج امرأة خارقة الجمال يتعرّض للمحن. تحكي الإلياذة قصة زوجة خائنة، والأوديسة قصة زوجة مخلصة. هربت هيلانة من زوجها مع بارّيس الراعي، وانتظرت الفاتنة بينيلوب زوجها أوليس 20 عاماً.
(*) يقتبس نولان الأوديسة التي تعرض مجازر لا تُعدّ. هكذا سيجد فرصة تصوير دم يسيل بغزارة في العالم المعاصر.
(*) لماذا تفوّق اقتباس الإلياذة على اقتباس الأوديسة عددياً؟ جرت أحداث الأوديسة في 20 عاماً، وعشرات الأمكنة. بينما مدّة أحداث الإلياذة 45 يوماً. طبّقت الإلياذة القاعدة الدرامية الأرسطية: وحدة المكان والحدث والزمان. يُصعّب تشتّت الأمكنة والأزمنة المونتاج.
(*) تقدّم المغامرة في الأوديسة فاكهة النسيان. سيكون جيداً بيع هذا الدواء لنسيان تراجيديا العالم الذي نعيش فيه. أخيراً، يثبت اقتباس الأوديسة قوة الثقافة الإغريقية، وامتداد تأثيرها حتى القرن 21. يمتدّ التأثير لأنّ البشر تُحرّكهم الدوافع الروحية نفسها، قديماً وحديثاً. وظيفة الحكايات في القِدم والأفلام حالياً: مُساعدة الناس على فهم أنفسهم. تمنح التراجيديا معنى للحياة.