في الأول من أيلول/ أيلول 1969 أطاح انقلاب عسكري بقيادة معمر القذافي بالنظام الملكي في ليبيا بينما كان الملك محمد إدريس السنوسي يتلقى العلاج في تركيا، فمن هو محمد إدريس السنوسي؟
تقول دائرة المعارف البريطانية إن محمد إدريس السنوسي أو إدريس الأول وُلد في 13 آذار/ آذار من عام 1890 في جغبوب في برقة بليبيا، وتوفي في 25 أيار/ آيار من عام 1983 في العاصمة المصرية القاهرة، وكان أول ملك لليبيا عندما نالت استقلالها عام 1951.
إعلان استقلال ليبيا وتتويج الملك السنوسي 1951
“ليبيا إدريس”.. حكاية شابة كان اسمها ممنوعا في عهد القذافي
البدايات والاستعمار الإيطالي
ترعرع محمد إدريس المهدي السنوسي في جغبوب، المعقل الروحي للطريقة السنوسية، وهو الابن الأكبر لمحمد المهدي السنوسي وحفيد مؤسس الطريقة الإمام محمد بن علي السنوسي.
ويقول الكاتب علي عبد اللطيف حميدة في كتاب “المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا” إن السنوسي نشأ في بيئة دينية متأثرة بالتصوف والإصلاح الإسلامي، حيث كان للسنوسية دور كبير في نشر الدعوة والتعليم الديني في الصحراء الكبرى وربط القبائل الليبية بروابط دينية واجتماعية وثيقة.
ومنذ صغره، تشرّب إدريس قيم الزهد والالتزام الديني والانضباط التي ميّزت رجال الدعوة السنوسية، وهو ما هيأه لاحقاً لقيادة الحركة في مرحلة دقيقة من تاريخ ليبيا.
وفي عام 1902، توفي الأب لكن الأبن لم يتول الزعامة مباشرة لأنه كان صغيراً، فقد انتقلت زعامة الطريقة أولاً إلى ابن عمه، أحمد الشريف.
وبعد أن تولى إدريس القيادة بمفرده بعد عام 1916، كانت أول مشكلة واجهها هي التعامل مع الإيطاليين، الذين غزوا ليبيا في عام 1911 في محاولة لإنشاء إمبراطورية شمال أفريقية، لكنهم لم يتمكنوا من بسط سلطتهم إلى ما وراء الساحل.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه بعد احتلال الإيطاليين لليبيا عام 1911 واجهوا مقاومة طويلة الأمد من قبل السنوسيين في برقة، وهي المقاومة التي حرمتهم من السيطرة التامة على البلاد حتى عام 1931، عندما أسروا وأعدموا قائد المقاومة السنوسية المسلحة لأكثر من 20 عاما عمر المختار.
وقد شهدت ليبيا عقب الاحتلال الإيطالي عددا من المعارك الكبيرة بين المقاومة بقيادة المختار والقوات الإيطالية، منها معركة درنة فى أيار/آيار عام 1913 التي دامت يومين، وانتهت بمقتل 70 جندياً إيطالياً وإصابة نحو 400 آخرين، ومعركة بوشمال عند عين ماره فى تشرين الأول/تشرين الأول عام 1913، فضلا عن معارك أم شخنب وشلظيمة والزويتينة في شباط/شباط عام، 1914 والتي كان يتنقل خلالها المختار بين جبهات القتال ويقود المعارك.
وكان إدريس السنوسي رغم صغر سنه في عام 1911، مرجعية معنوية للمجاهدين، غير أن موقعه كزعيم ديني جعله أكثر ميلاً للتفاوض أحياناً من خوض المعارك المباشرة، وهو ما ظهر في اتفاقياته مع الإيطاليين لاحقاً.
تولى عمر المختار قيادة المقاومة المسلحة ضد الإيطاليين
حقائق ومعلومات عن ليبيا
ليبيا: التاريخ الاستعماري الايطالي ملطخ بالدماء
وبموجب صلح عكرمة في عام 1917 ضمن إدريس وقف إطلاق النار، وبالتالي تأكيد سلطته في برقة الداخلية، وأُبرمت اتفاقية أخرى عام 1919، وأُنشئ بموجبها برلمان برقة، وحصل إدريس وأتباعه على منحة مالية.
وخلال سنوات الحرب العالمية الأولى، تحولت السنوسية إلى قوة إقليمية بعد أن دخلت في تحالف مع الدولة العثمانية وألمانيا ضد بريطانيا وإيطاليا، ولعب إدريس السنوسي دوراً سياسياً مهماً في إدارة هذا الوضع، خاصة وأن السنوسيين دخلوا في مواجهة مع القوات البريطانية في مصر والسودان.
لكن مع نهاية الحرب، أدرك إدريس أن موازين القوى العالمية قد تغيرت وأن الاستعمار الأوروبي أصبح واقعاً لا يمكن هزيمته بسهولة، وهو ما دفعه لاحقاً إلى انتهاج سياسة أكثر براغماتية مع إيطاليا وبريطانيا.
وفي عام 1920، وقّع إدريس معاهدات مع الإيطاليين اعترفت به أميراً على برقة، وهو ما أثار جدلاً واسعاً بين الوطنيين الليبيين، فالبعض اعتبر ذلك تنازلاً، فيما رأى آخرون أنها خطوة ذكية لحماية برقة والحفاظ على نوع من الحكم الذاتي.
وبالفعل، استطاع إدريس أن يؤسس نظاماً إدارياً منظماً في برقة، مستنداً إلى المؤسسات السنوسية والتقاليد القبلية، مما جعل برقة تتمتع بشيء من الاستقرار مقارنة ببقية ليبيا التي كانت ترزح تحت الاحتلال المباشر. وذلك بحسب الكاتب محمد الطيب الأشهب في “كتابه السنوسية وحركة التحرر في ليبيا”.
الفاشية والحرب العالمية الثانية
غير أن هذا التوازن لم يدم طويلاً، فمع صعود الفاشية في إيطاليا بقيادة موسوليني وإحكام قبضته على الحكم في تشرين الأول/ تشرين الأول من عام 1922 انهارت التفاهمات السابقة، وشنّ الإيطاليون حرباً شرسة على المقاومة الليبية، خاصة في برقة بقيادة عمر المختار.
وفي هذه المرحلة، غادر إدريس السنوسي إلى مصر عام 1923، ليعيش في المنفى لسنوات طويلة، ولكنه ظل يمثل القيادة السياسية، فيما تولى عمر المختار قيادة الكفاح المسلح، وهكذا توزعت أدوار القيادة بين المنفى والميدان لكن الهدف ظل واحداً وهو مقاومة الاستعمار.
وعلى الأرض في ليبيا، أرادت إيطاليا أن تمنع طريق الإمداد على المقاومة فاحتلت واحة جغبوب، لكن ذلك لم يحل دون تصاعد عمليات المقاومة، مما دفع موسولينى لتعيين بادوليو حاكما عسكريا لليبيا في كانون الثاني/كانون الثاني عام 1929.
موسوليني يلقي خطبة في حشد من مؤيديه في روما عام 1936
وقد أعرب بادوليو عن رغبته في التفاوض مع المختار الذي استجاب لذلك وتم إبرام هدنة مدتها شهرين.
وفي كتابه “عمر المختار شهيد الإسلام وأسد الصحراء” يقول محمد محمود إسماعيل، إن المختار نشر رسالة إلى الليبيين في ذلك الوقت قال فيها، إنه وافق على تلك الهدنة مقابل عودة الأمير محمد إدريس السنوسي، وانسحاب الإيطاليين من جغبوب، والعفو العام عن كل المعتقلين السياسيين وإطلاق سراحهم.
ولم ينفذ الإيطاليون بنود الهدنة، وقبل نهايتها طالبوا بتمديدها بحجة سفر بادوليو لروما، فمددت لعشرة أيام وعشرين يوما.
وهكذا عندما اكتشف عمر المختار أن الإيطاليين يريدون كسب الوقت صعد من عمليات المقاومة فعين موسولينى الجنرال غراتسيانى محل بادوليو ، وفى 1931 سقطت منطقة الكفرة بأيدي الإيطاليين الذين شددوا ضغوطهم على المختار.
وفي 11 أيلول / أيلول 1931 نجح الإيطاليون في أسر عمر المختار بعد معركة قتل فيها جواده وتحطمت نظارته.
وبعدها بثلاثة أيام في 14 أيلول / أيلول، وصل القائد الإيطالي غراتسياني إلى بنغازي، وأعلن على عجل انعقاد المحكمة الخاصة في 15 أيلول / أيلول 1931، وفي الساعة الخامسة مساء اليوم المحدد لمحاكمة عمر المختار صدر الحكم عليه بالإعدام شنقا.
موسوليني: قصة حليف هتلر الذي اعتبره الكثيرون “رجلا خارقا
أما في مصر، فقد أقام إدريس شبكة علاقات سياسية ودبلوماسية مهمة، إذ استطاع بصفته أمير برقة وزعيماً للسنوسية أن يكسب ود الحكومة المصرية والبريطانيين.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، عاد إلى الواجهة من جديد، حيث تحالف مع بريطانيا ضد إيطاليا وألمانيا، وقد شكّلت القوات السنوسية المعروفة بـ “الجيش السنوسي” جزءاً من قوات الحلفاء في شمال أفريقيا، ولعبت دوراً في المعارك ضد قوات المحور.
وقد عزز هذا التحالف مع بريطانيا موقع إدريس السياسي، ومهّد الطريق لاعتراف دولي به كزعيم ليبي بعد الحرب.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت ليبيا تحت إدارة بريطانية وفرنسية مؤقتة، وكانت قضية استقلالها مطروحة على طاولة الأمم المتحدة.
الاستقلال وقيام المملكة
الملك إدريس الأول ملك ليبيا يفتتح في بنغازي مراسم أول برلمان ليبي في آذار 1952
وقد برز آنذاك إدريس السنوسي باعتباره الشخصية الأقدر على جمع شتات الليبيين والتحدث باسمهم.
وبالفعل، استطاع أن يقود المسار التفاوضي في الأمم المتحدة، حيث صدر القرار التاريخي بمنح ليبيا استقلالها في 21 تشرين الثاني/ تشرين الثاني من عام 1949، لتصبح أول دولة في أفريقيا تنال استقلالها عبر الأمم المتحدة، وقد كان هذا الإنجاز ثمرة سنوات طويلة من العمل السياسي والدبلوماسي الذي قاده إدريس بحنكة وهدوء، وذلك بحسب ما ورد في كتاب “ليبيا بين الماضي والحاضر” لمحمد يوسف المقريف.
وفي 24 كانون الأول/ كانون الأول من عام 1951، أُعلن استقلال ليبيا رسمياً تحت اسم “المملكة الليبية المتحدة”، ونُصّب محمد إدريس السنوسي ملكاً عليها.
وبذلك، أصبح أول ملك لليبيا الحديثة، جامعاً بين ولاياتها الثلاث وهي برقة وطرابلس وفزان، وقد تميز حكمه منذ البداية بالسعي لتحقيق التوازن بين الأقاليم الثلاثة التي كانت مختلفة في تركيبتها السياسية والاجتماعية.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه في عهد إدريس، كان للعرش نفوذٌ مُهيمنٌ على البرلمان وسيطرةٌ مُطلقةٌ على الجيش، وكانت الحكومة من سكان المدن الأثرياء وزعماء القبائل الأقوياء الذين تقاسموا المناصب الإدارية المهمة فيما بينهم ودعموا الملك.
وهذا الوضع، إلى جانب الدعم الخارجي من القوى الغربية والدعم العسكري الداخلي من رجال القبائل الموالين له، مكّن إدريس من السيطرة على شؤون الحكومة المركزية.
التحديات وانقلاب القذافي
وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، واجه الملك إدريس تحديات صعبة، أبرزها ضعف البنية الاقتصادية وندرة الموارد قبل اكتشاف النفط، فقد كانت ليبيا من أفقر دول العالم آنذاك، وتعتمد على المساعدات الدولية، خصوصاً البريطانية والأمريكية.
وقد سمح إدريس بإنشاء قواعد عسكرية أمريكية وبريطانية على الأراضي الليبية مقابل الدعم المالي، ورغم الانتقادات التي وُجّهت لهذه السياسة، إلا أنها ساعدت على استقرار المملكة حتى اكتشاف النفط في أواخر الخمسينيات.
ومع اكتشاف النفط، شهدت ليبيا تحولاً جذرياً، حيث تدفقت الثروات وبدأت مشاريع تنمية واسعة، غير أن ضعف المؤسسات، وانتشار الفساد في بعض الدوائر، إضافة إلى تمسك الملك بالأسلوب المحافظ في الحكم، جعلت الإصلاحات محدودة، كما أن تراجع صحة الملك وتقدمه في السن جعلاه أكثر اعتماداً على الدائرة الضيقة من مستشاريه، وهو ما خلق فجوة بين السلطة والشباب المتطلع إلى التغيير.
القذافي عقب انقلابه عام 1969
وفي السياسة الخارجية، تبنى الملك إدريس خطاً معتدلاً، معتمداً على التحالف مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، لكنه في الوقت نفسه لم يعارض التعاون مع العالم العربي، إذ انضمت ليبيا إلى جامعة الدول العربية وشاركت في بعض المواقف القومية، وإن كانت بحذر شديد، وقد جعل هذا الموقف المتوازن ليبيا في منأى عن الصراعات الإقليمية الكبرى، لكنه عرّضها أيضاً لانتقادات التيار القومي العربي الذي كان يرى في إدريس ملكاً محافظاً قريباً من الغرب أكثر من اللازم.
معمر القذافي: أين انتهى المطاف بأفراد أسرته؟
شجرة عائلة معمر القذافي
ومع هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران/ حزيران من عام 1967، تصاعدت الضغوط الداخلية على النظام الملكي في ليبيا، فقد خرجت المظاهرات في طرابلس وبنغازي مطالبة بإغلاق القواعد الأجنبية، وهو ما استجاب له الملك إدريس، إذ أعلن إلغاء القواعد البريطانية والأمريكية بحلول 1970، غير أن هذه الخطوة لم تكن كافية لاحتواء الغضب الشعبي، خاصة وأن المد القومي الناصري كان في أوجه.
وفي أيلول/أيلول 1969، بينما كان إدريس يتلقى العلاج في منتجع تركي، انقلب الجيش بقيادة معمر القذافي على الحكومة، فسافر إدريس أولًا إلى اليونان، ثم مُنح اللجوء السياسي في مصر.
وفي عام 1974، حوكم غيابيًا بتهم فساد، وأُدين، وظل في المنفى في القاهرة حتى وفاته في في 25 أيار/ آيار من عام 1983.
إرث متناقض
لقد رحل الملك إدريس السنوسي تاركاً إرثاً متناقضاً، فقد كان بطل الاستقلال ورمز توحيد ليبيا، لكنه في الوقت نفسه عُرف بحكم محافظ لم يحقق إصلاحات سياسية كبرى.
إن إرث إدريس يعكس التناقضات التي عاشتها ليبيا في القرن العشرين بين الدين والسياسة، وبين القبيلة والدولة، وبين الشرق والغرب، وبين المحافظة والتجديد، فقد جاء من بيئة سنوسية صوفية محافظة، لكنه تعامل ببراغماتية مع القوى الكبرى، وحكم في زمن يهيمن عليه الخطاب القومي الثوري، لكنه ظل متمسكاً بالاعتدال والتحالف مع الغرب.
وهكذا، بعد أكثر من نصف قرن على سقوط حكمه، ما زال اسم إدريس السنوسي يعود إلى النقاش كلما طرحت مسألة الشرعية والهوية الوطنية في ليبيا، فالبعض يستحضر ذكراه بوصفه رمزاً للاستقرار والوحدة، في مقابل عقود من الاضطرابات التي عاشتها ليبيا بعده، والبعض الآخر يعتبر أن عهده كان بداية ضياع فرصة بناء دولة حديثة قوية.
وبين هذا وذاك، تبقى سيرته شاهداً على مرحلة تأسيسية في تاريخ ليبيا، حين خرج بلد فقير ممزق من سيطرة الاستعمار ليولد كدولة مستقلة.
ولعل كل ذلك ما يجعل صورته معقدة، فهو ليس بطلاً ثورياً على شاكلة عبد الناصر، لكنه أيضاً لم يكن مجرد دمية بيد الاستعمار، بل رجل توازنات حاول أن يحمي بلاده بأدوات السياسة الواقعية.
أمضى المؤرخ الراحل قيس ماضي فرو سنوات طويلة يجمع مادة كتابه، أو رسالته، إلى أبناء جيله، وأبناء الأجيال القادمة من بعده، وأبناء من يتحدثون العربية، وأطلق عليه عنواناً إشكالياً للغاية هو: “دروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية”.
والكتاب خلاصة مكثفة ودقيقة تتبع الوثيقة والرسالة والبحث والورقة الضائعة في الأرشيف، كي تسجّل التاريخ الحقيقي لهذه المجموعة من البشر، في نضالاتها، في قوتها، وفي ضعفها، في اختيارات الطريق الصحيح، أو في التيه، أو في الحيرة والضياع بين الخيارات المتاحة أمام أبنائها جميعاً.
كتاب قيس ماضي فرو ليس مجرد مادة تاريخية يمكن الاستشهاد بنصوصه، أو العودة إليه بوصفه مرجعاً يوضع في أحد رفوف المكتبة ويُقرأ لاستكمال بحث، بل هو في المقام الأول سيرة بشر من لحم ودم، عاشوا في الزمن القريب الذي مضى، وأنجبوا أبناءً وأحفاداً لا يزالون يعيشون بيننا.
لا يمكن إعادة شرح التاريخ للذين جاؤوا بقصد الغزو أو السبي
القسم الذي يمكنني أن أدّعي أنني أحد شهوده من الأبناء، هما الفصلان: “التحضيرات للحرب” و”معارك فوج جبل العرب”. وفيه يقدم المؤرخ سرداً لما كنّا نحن أبناء الزمن الذي تلا النكبة شهوداً عليه؛ نسمع وننصت لحكاية من ذلك الرجل الذي مضى شاباً إلى معارك الإنقاذ في العام 1948 يقود إحدى الفرق التي تشكّلت على يد واحد من أهم القادة الوطنيين السوريين في منتصف القرن الماضي، وهو فوزي القاوقجي.
يأتي القاوقجي إلى جبل الدروز في تشرين الأول/ تشرين الأول من عام 1947 ليقول: “أنا أطلب نجدة الإخوان… فكلما كانت الأمة العربية مصابة في قطر من أقطارها، تتلفت نحو هذا الجبل الذي هو… أكبر قلعة من قلاع العرب”. وبالتعاون مع سلطان الأطرش، جُنّد 500 مقاتل، في زمن شحّ الموارد المالية ونقص السلاح، لا بسبب قلة المتطوعين.
أعرف من هذه الواقعة التاريخية أنَّ عمي، والد زوجتي، كان هو الشاب نايف حمد عزام، الذي قاد فرقة المسيفرة، وهي إحدى الفرق الثلاث التي تشكّلت من الفوج الذي سُمّي: “فوج جبل العرب”، وقاده الضابط اللبناني الدرزي شكيب وهاب. أما الفرقتان الأخريان فهما: فرقة الكفر، وفرقة المزرعة، حيث مضى أولئك المتطوعون الشبان يقاتلون دفاعاً عن الوجود الفلسطيني. ذلك الضابط الشجاع، الذي أراد مع رفاقه من المتطوعين السوريين أن يصنعوا تاريخاً آخر لنا، عاد مصاباً في فخذه أثناء المعارك، ومات منذ أكثر من عشرين عاماً، ولن يرى أن بيته صار رماداً على يد جنود سوريين جاؤوا من خلف التاريخ.
لا يمكن إعادة شرح التاريخ أو تلقينه لهؤلاء الذين جاؤوا بقصد الغزو أو السبي، فنحن في القرن الحادي والعشرين. لكن الخطر في قصتنا الحزينة هو وجود المتعلمين الذين قرروا ألّا يقرأوا التاريخ، والأخطر هو حضور المثقفين الذين يقرأون التاريخ، ثم يخدعون الآخرين بأنه مزوّر، أو يسعون إلى محوه، أو تجاهل وقائعه القريبة، جرياً وراء سلطة كانت أولى رسائلها إلى العالم هي تدبير مذبحة لأحفاد أولئك المقاتلين الخمسمئة الذين مضوا للقتال ذات يوم، للمشاركة في الدفاع عن أمة كما قال الفارس فوزي القاوقجي.
قال عنها إنها “المرأة التي أبصرتُ بعينيها”، وقالت عنه بعد رحيله: “كنتَ صلابتي، كنتَ تحميني، وها أنا ذي بلا دفاع!”.
حين كان الحب أسير القيود والعادات الصارمة في الشرق والغرب، بزغت قصة حب من نوع نادر، نسج خيوطها شاب مصري مسلم كفيف أبصر بنور الفكر، وشابة فرنسية مسيحية أبصرت بقلبها ما لم تبصره العيون. إنها قصة حب عميد الأدب العربي، طه حسين، وسوزان بريسو، تلك العلاقة التي تجاوزت حدود الدين والجغرافيا والثقافة، وأصبحت شهادة حيّة على أن الحب النقي لا يحتاج لحاسة البصر، بقدر ما يحتاج إلى أن يُولد في الأعماق، وينمو على صدق العطاء.
حين التقت سوزان المثقفة الطالب طه حسين خلال رحلة دراسته في فرنسا، أُعجبت به رغم إعاقته البصرية واختلاف ثقافتهما ودينهما، فأحبته حباً فريداً، وساندته لا كحبيبة وزوجة فحسب، بل كرفيقة عمر ومُلهمة طوال مشواره، فقرأت له الكتب، وكتبت له بيدها، وأدارت شؤونه، فكانت عينه التي رأى بها نور العالم، في واحدة من أرقى وأعمق قصص الحب في تاريخ الأدب الحديث.
وتذكر أمينة مؤنس طه حسين، حفيدة عميد الأدب العربي، في مقدمة الطبعة الجديدة لمذكرات جدتها سوزان، بعنوان “معك: من فرنسا إلى مصر (قصة حب خارقة) سوزان وطه حسين (1915-1973)”، نقلاً عن مذكرات والدها غير المنشورة، بعنوان “ذكرياتي”، وصفاً لعلاقة حب أمه سوزان بوالده قائلاً إنها كانت “الرفيقة الرائعة خلال أكثر من ستين عاماً لمصري أعمى صار أكبر كاتب عربي في القرن العشرين، اشتُهر في بلده بسبب كل ما حققه في مجال التعليم والعلوم والثقافة، وأنشأ الجامعات والمعاهد العلمية عبر العالم، وكُرّم في الشرق مثلما كُرّم في الغرب”.
ويضيف: “كانت (سوزان) على الدوام إلى جانبه، راعيةً، مخلصةً، محبةً. واسته وشجعته حين كانت الأمور تسوء (ويعلم الله كم كانت تسوء!) وشاركته بكل تواضع نجاحاته وانتصاراته. وساعدته على التغلب على عاهته، على أن يصير ما كانه، على أن يتناول الطعام على موائد الملوك، على أن يتلقَّى ضروب الثناء والتكريم في أوروبا، وفي الشرق، وفي كل مكان. كانت حاضرة دوماً حين كان بحاجة إليها، وقد قال هو نفسه إنه لولا زوجتُه لما كان شيئاً”.
“سوزان قبل طه حسين”
سوزان بريسو في شبابها (صورة أرشيفية)
ولدت سوزان هيلويز بريسو في 26 نيسان/نيسان عام 1895، في بلوزيني-سور-أوش، في كوت دور، وجرى تعميدها الكاثوليكي في 19 أيار/آيار من العام نفسه على يد خالها الأب جوستاف فورنييه، الذي كان راعيها.
كان أبوها ألبير فليكس آندروش بريسو، يبلغ من العمر 25 عاماً عند ولادة ابنته، وكان يعمل محاسباً، أما أمها، آن مرغريت بريسو، فكانت في عمر 24 عاماً وربة منزل.
ويقول المؤرخان الفرنسيان، زينا ويغان وبرونو بونفار، في دراستهما عن سوزان ومذكراتها: “على الصعيد المادي، بدأت حياة ألبير بريسو ومرغريت فورنييه الزوجية بداية سعيدة، كان ألبير يعمل محاسباً، ولا نعلم أين تعلم هذه المهنة، ولا ضمن أي شروط كان يآذارها، كل ما نعلمه، أنه في عام 1889، قبل تجنيده، بحسب ملفه العسكري، كان موظفاً في الضرائب”.
وفي عام 1900، حين لم تكن سوزان قد تجاوزت سن الخامسة من عمرها، أنقلب كل شيء وحدثت صدمة كبيرة لوالدها عندما صدر حكم قضائي بناء على طلب من أحد الدائنين، وأشهرت محكمة التجارة إفلاس “المدعو بريسو، الذي يعمل في مهنة التحصيل المصرفي في بلينيي سور أوش”، وتسبب هذا الحكم القضائي في انهيار كبير في حياة الأسرة، بل أصبحت سوزان وشقيقتها ماري أندريه، أمام مصير مجهول.
وتقول زينا ويغان وبرونو بونفار: “لا نعلم شيئاً تقريباً عما حدث للأسرة خلال الفترة بين 1900 إلى 1906، ومعلوماتنا عن ألبير بريسو، مصدرها ملفه العسكري، ففي آب/آب 1901، انتقل إلى منطقة سان آمان مونترون، وسكن في شارع بور تموتان وصار مرتبطاً بمنطقة بورج العسكرية”.
ويضيف المؤرخان الفرنسيان، من واقع استنتاجهما، أن سوزان “حصلت على الشهادة الابتدائية في بروغمون، في عام 1906، وكان عمرها في ذلك الوقت 11 عاماً”، ويلفتان إلى أنهما بمواصلة البحث في حياة سوزان فقدا أثرها من جديد، كما “لم تعد (سوزان) ولا شقيقتها تسكنان في عام 1911 لدى جدَّيهما، وليس في ذلك ما يثير العجب، لأن الوقت كان قد حان منذ عدة سنوات على الأقل بالنسبة إلى سوزان كي تتابع دراساتها الثانوية”.
ظهرت سوزان في السجلات من جديد، وعثر المؤرخان على سوزان بريسو “تلميذة في ثانوية مونبلييه… ويشير دفتر توزيع الجوائز سنة 1913 إلى أنها حصلت هذه السنة على شهادة نهاية الدراسة الثانوية، بتقدير جيد، وعلى القسم الأول من البكالوريا، اللغة اللاتينية/اللغات الحية (إنجليزية-إيطالية)، ويشير أيضاً إلى أنها حصلت على جائزة جيمس هايد لحصولها على أعلى الدرجات في تقييم مادة اللغة الإنجليزية في امتحانات شهادة نهاية الدراسات الثانوية”.
وبعد مونبلييه وشهادة نهاية الدراسات الثانوية والبكالوريا، يعثر المؤرخان مرة أخرى على سوزان في ثانوية فنلون بباريس التي سجلت فيها بين الأول من تشرين الأول/تشرين الأول 1913 و31 كانون الأول/كانون الأول عام 1914، في القسم السادس آداب (لغة إنجليزية)، بغية الاستعداد لدخول مسابقة الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا بسيفر، برفقة صديقتها الحميمة، إيرين فالييه، من منطقة سافوا، المولودة بتاريخ الأول من تموز/تموز 1895 بشامبيري، والتي ستكون إحدى الشهود، فيما بعد، على زواج سوزان وطه حسين في آب/آب 1917.
توقفت سوزان عن استكمال دراستها بناء على طلب من أمها لتعود إلى مونبلييه عام 1915، كي تكون في مأمن من القصف الألماني، خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وربما كانت تنوي، بحسب رأي المؤرخين الفرنسيين، استئناف دراستها بعد فترة للإعداد لخوض مسابقة تسمح لها بالحصول على درجة معلمة في التعليم الثانوي العام للفتيات.
“حين ينبض الحب في عتمة الحياة”
كان طه حسين يطلق على سوزان لقب “الصوت العذب”، نظراً لعذوبة صوتها أثناء قراءتها له
عندما لجأت سوزان بريسو وعائلتها إلى مدينة مونبلييه، عثرت على فرصة عمل هناك لقراءة النصوص لطالب دراسات عُليا كفيف، يدعى طه حسين.
ويقول مؤنس طه حسين، نقلاً عن حديث مع الكاتب اللبناني شربل داغر منشور تحت عنوان “على خطى طه حسين” في مجلة “ذا يونسكو كوريير”، عدد آذار/آذار 1990، التي تصدرها منظمة اليونسكو: “بما أن والدي كان كفيفاً، فقد كان بحاجة إلى من يساعده في اللغة الفرنسية ويقرأ له، فوضع إعلاناً في إحدى الصحف المحلية، فتقدّمت سوزان للوظيفة، لكنها لم تكتف بالقراءة له فقط، بل كانت ترافقه إلى محاضراته في كلية الآداب في جامعة مونبيليه، وعندما انتقلا إلى باريس، كانت تمشي بجانبه يداً بيد من مكان سكنه إلى السوربون”.
وتقول سوزان طه حسين نفسها في مذكراتها “معك: من فرنسا إلى مصر”، التي كتبتها بعد وفاة طه حسين بناء على مقترح من الفرنسي جاك بيرك، أستاذ التاريخ الاجتماعي والحضاري في الكوليج دو فرانس، وترجمه من الفرنسية بدر الدين عرودكي: “أول مرة التقينا فيها كانت في 12 أيار/آيار 1915 في مونبلييه (ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص). لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي، التي كانت بصحبتي، أن تتصور أمراً مماثلاً” .
وتضيف: “كنت في شيء من الحيرة، إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمتُ أعمى. لقد عدتُ إليه أزوره بين الحين والآخر في غرفته التي كانت غرفة طالب جامعي. كنا نتحدث وكنت أقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسي. ولعل القدر كان قد أصدر قراره بالفعل، فقد كان هناك أعمى آخر، هو الأستاذ الإيطالي الذي كان يدرّس له اللغة اللاتينية، قد أدرك ذلك وقال له: سيدي هذه الفتاة ستكون زوجتك”.
كان طه يطلق على سوزان لقب “الصوت العذب”، نظراً لعذوبة صوتها أثناء قراءتها له وهو يعمل على إتقان لغته الفرنسية، إذ لم تكن جميع المراجع الدراسية متاحة بطريقة “برايل”، وقد أفصح في مذكراته الذاتية “الأيام”، عن أن القلق لم يعرف طريقاً إلى قلبه منذ اللحظة التي سمع فيها ذلك “الصوت العذب” لأول مرة.
شعر طه حسين منذ لقائه الأول بسوزان بإحساس عميق بأنها ستكون امرأة حياته
سجل طه حسين إحساسه الأول بسوزان قائلاً: “وإذا هو (أي طه حسين) لا يعرف الوحدة ولا يجد الوحشة حين يخلو إلى نفسه إذا أظلم الليل، وكيف تجد الوحدة أو الوحشة إلى نفسه سبيلاً، وكيف تبلغه تلك الخواطر التي كانت تؤذيه وتضنيه وتؤرِّق ليله، وفي نفسه صوت عذب رفيق يشيع فيه البرَّ والحنان، ويقرأ عليه هذا الأثر أو ذاك من روائع الأدب الفرنسي القديم؟”
ويضيف: “سمع الفتى (أي طه حسين) ذلك الصوت يقرأ عليه شيئاً من شعر راسين ذات يوم. فأحس كأنه خُلق خلقاً جديداً، ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلاً”.
شعر الطالب طه حسين منذ لقائهما الأول بإحساس عميق بأنها ستكون امرأة حياته. وفعلاً، وبعد فترة من الزمن، رغب طه وسوزان في الزواج، لكن واجهتهما عقبات.
وتتذكر سوزان ما قاله لها طه ذات يوم: “(اغفري لي، لابد أن أقول لك ذلك، فأنا أحبكِ). صرخت وقد أذهلتني المفاجأة بفظاظة: (ولكني لا أحبك!) كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن (آه، إنني أعرف ذلك جيداً، وأعرف جيداً كذلك أنه مستحيل)”.
وتضيف في مذكراتها: “ويمضي زمن، ثم يأتي يوم آخر أقول فيه لأهلي إنني أريد الزواج من هذا الشاب. وكان ما كنت أنتظره من رد الفعل: (كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنك جننت تماماً”.
ويقول مؤنس طه حسين: “عائلتها كانت مصدومة من فكرة زواجها بطالب مصري، ليس فقط لأنه فقير ومسلم، بل لأنه كفيف أيضاً. لكن والدتي رفضت التراجع. فقام أحد أعمامها، وكان كاهناً ذكياً ومثقفاً، بالخطوة الحاسمة. بطلب من جدتي، طلب ساعة يخلو فيها مع والدي. ذهبا في نزهة، وكان الكاهن ممسكاً بذراع أبي، يتحدثان في أمور شتى. وعندما عادا، قال الكاهن لشقيقته: لا تقلقي! بل بالعكس، يجب أن تفرحي. هذا الشاب عبقري. وسوزان كانت تعرف ذلك بالفعل. وتزوّجا في الثاني من آب/آب 1917”.
وفي غضون خمس سنوات، وبدعم من سوزان، حصل طه حسين على شهادة الليسانس، ثم دبلوم الدراسات العليا في موضوع عن تاكيتوس، واجتاز بنجاح امتحان “الأغريغاسيون” التنافسي لتأهيل أساتذة الجامعة، كما نال شهادة الدكتوراه عن رسالته البحثية عن المؤرخ العربي في القرن الرابع عشر، ابن خلدون، الذي يعد مؤسس علم الاجتماع، كما أتقن اللغتين اليونانية واللاتينية.
“قلب واحد وديانتان”
في غضون خمس سنوات، وبدعم من سوزان، حصل طه حسين على شهادة الليسانس، ثم دبلوم الدراسات العليا
رغم أن سوزان بريسو كانت مسيحية كاثوليكية الإيمان وطه حسين مسلم العقيدة، إلا أن اختلاف الديانة لم يكن عائقاً أمام قصة حبهما النادرة، بل على النقيض من ذلك، صار الاختلاف أرضية مشتركة وخصبة لحوار داخلي عميق، ونقطة التقاء بين روحين تجاوزتا حدود الطقوس والمذاهب، وسكنتا في فضاء أرحب يفيض بالفهم والاحترام المتبادل.
لم ترغب سوزان يوماً في أن تغيّر قناعات طه، ولم يسع هو لزعزعة إيمانها، بل احترما بعضهما بعضاً، فصار الحب بينهما جسراً من الاحترام والرفقة والمثابرة، وأثبتا أن ما يجمع القلوب أعمق بكثير من أن تفرّقه المعتقدات الدينية، وأن الإرادة الصادقة قادرة على بناء بيت واحد، تسكنه روحان في سلام لا يعرف سبيلاً للانقسام.
وتتذكر سوزان في الثالث من حزيران/حزيران في مذكراتها قائلة: “بالأمس كان (عيد) العنصرة، ومرة أخرى ترد إلى خاطري بصفاء بالغ ذكرى العنصرة في (غاردونيه) كنت قد استمعت إلى القداس في الكنيسة من الأعلى، وكان القس العجوز قد قرأ إنجيل يوحنا. كان الصباح رائعاً، وكان كل شيء نديّاً وجميلاً: السماء، والبحيرة، والأشجار، والأزهار. كل شيء يبهر البصر، وكنتُ أنحدر نحو الفندق وأنا أتلو بيني وبين نفسي (قول المسيح): سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم (إنجيل يوحنا27:24)”.
وتضيف: “وإذ أذكر اليوم هذا الصباح، أفكر بهذا التوافق الخفي الذي وحّدنا دوماً في احترام كل منّا لدين الآخر. لقد دُهش البعض من ذلك، في حين فهم البعض الآخر، إذ رأى أن بوسعي أن أردد صلاتي على حين أستمع إلى القرآن في الغرفة المجاورة، ويصدفني اليوم أن أفتح المذياع لأستمع إلى آيات من القرآن عندما أبدأ في تسبيحي، بل إني لأسمعه على كل حال في أعماق نفسي”.
وتقول سوزان، متذكرة طه حسين مخاطبة إياه في نفسها: “كنت غالباً ما تحدثني عن القرآن، وتردد لي البسملة التي كنت تحبها بوجه خاص. وكنت تقرأ التوراة، وكنت أتحدث أنا عن يسوع. كنت تردد في كثير من الأحيان: (إننا لا نكذب على الله)، لقد قالها القديس بولس. لا شك أننا لا نكذب على الله، وويل للمكذبين”.
كما كتبت سوزان عن زيارة قاما بها معاً ذات مرة إلى القدس، ولخّصت تجربتهما الغنية في زواج بين ديانتين قائلة: “لم يكن فندقنا بعيداً عن كنيسة القيامة، كان الوقتُ وقت عيد الفصح والحج… وصلينا (سوزان وطه)، كل في قلبه، في مسجد عمر وفي الجثسيماني”.
وتتذكر: “في كثير من المرات التي كنا نتحدث فيها، كان يستشهد ببيت من الشعر أو بمثل أو بآية من القرآن الذي كان يحب أن يقرأه لي وأن يترجمه لي”.
“تلاحم روحي”
عميد الأدب العربي طه حسين وإلى جواره زوجته ورفيقة مشواره سوزان بريسو(صورة أرشيفية)
كان الارتباط الأسري بين سوزان وطه حسين ارتباطاً فريداً بلغ حد التلاحم بما جعل لحظة الابتعاد بينهما مؤلمة كالجُرح المفتوح، ولم يكن وجودهما في منزل واحد مجرد ترتيب حياتي، بل كان ضرورة روحية لكل منهما، لا يهدأ قلب أحدهما إلا بوجود الآخر بقربه.
فإذا اضطرت سوزان للسفر أو الابتعاد لسبب قهري، كان طه يعيش أيامه كأن الحياة فقدت معناها، ينهكه الشوق، ويؤلمه الغياب، وتُصبح الدقائق أثقل من أن تُحتمل، أما هي، فكانت لا تهنأ بشيء إلا حين تعود إلى طه، إلى تلك الوحدة الحميمة التي جمعت بينهما كأن لا فكاك منها. كان بيتُهما عالماً لا يُبنى إلا بوجود الاثنين معاً، وكل غياب كان شرخاً لهذا العالم، وجرحاً في قلب الأسرة التي لم تعرف يوماً سبيل الانفصال.
بعد ولادة طفليهما، مؤنس وأمينة، وبسبب هشاشة وضعهما الاقتصادي، اضطرت الأم والطفلين إلى قضاء ثلاثة أشهر في فرنسا، وكان ذلك أمراً بالغ الصعوبة على الزوجين.
وكتبت سوزان تقول: “أخيراً اتخذنا قرارنا: سأرحل مع الطفلين، حزينة القلب فاقدة العقل لمجرد فكرة ترك طه لعناية أصدقاء لا شك في إخلاصهم لكنهم لا يعرفون قط كيف يجب القيام بها. وكنت أتخيّل جيداً كل المصاعب التي كان سيواجهها في كل لحظة. ومن حسن الحظ أن كان له سكرتير يعرف عاداته تماماً، وكان ذكياً مستقيماً طيب القلب، وقمت بتنظيم الوجبات التي كان يُؤتى بها من البيت الذي كنا نسكن فيه نفسه”.
وتضيف: “كانت هذه الأشهر الثلاثة من الفراق مؤلمة، وكنتُ أشكو باستمرار متوقعة تراجع طه عن قرار سفري، وهو الذي كان قد قبل بل طالب بسفري من أجل صحة زوجته وطفليه، تاركاً بذلك نفسه لوحدة أكثر شناعة بالنسبة له بمئة مرة منها بالنسبة إلى إنسان آخر غيره”.
وتقول سوزان: “كنا، خلال هذه الأشهر الثلاثة، نتبادل الرسائل كل يوم. كانت رسائله تحكي لوعة الغياب، وتنطق بشجاعته وحبه وهيامه ببلده، وتصور مشاريعه وأحلامه والأحداث التي كان يقص عليّ تفاصيلها مع شيء من السخرية أو المرح أو العنف”.
عميد الأدب العربي طه حسين وزوجته سوزان وابنتهما أمينة وابنهما مؤنس (صورة أرشيفية)
وأوردت في مذكراتها عدة مقاطع من رسائل طه حسين، التي تشهد على عاطفة ومشاعر رقيقة، كما تكشف عن حدة طباعه، كهذا المقتطف من إحدى الرسائل: “أود لو أصف لكِ ضيقي عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة، عندما عدت من فوري إلى البيت، فقد دخلت غرفتنا وقبّلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التي لا أراها … ومع ذلك فقد فعل أصدقائي كل ما بوسعهم لتسليتي”.
ويضيف طه في رسالته لزوجته: “عندما عدتُ، واجهت هذا الفراغ، والسرير الذي لا يزال على حاله، وسرير الصغيرة المغطى، والمهد الغائب… كان ذلك أمراً رهيباً. وكنت بحاجة للشجاعة لأقوم بخلع ملابسي… ولكن أنتِ، من يسهر عليكِ؟ من يُعنى بكِ؟ لو أنني قربكِ، لا لشيء إلا لكي أحمل لكِ مؤنس، وألُبس عنكِ أمينة، وأعطيك روح النعناع!”
ويقول أيضاً: “يستحيل عليّ القيام بشيء آخر غير التفكير بكِ. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك في كل مكان دون أن أعثر عليك… كانت الزهرة قد ذبلت، فوضعتها في العلبة التي تركتها لي لأضع فيها رسائلك، سأقبّلها كل يوم. لقد استحالت الغرف معابد، وعليّ أن أزورها كل يوم. ولو أنك رأيتني أخرج من غرفة لأدخل أخرى، ألمس الأشياء، وأنثر القبلات هنا وهناك”.
ويختتم طه رسالته: “إني في طريقي لتبديد ثلاثة أشهر من عمري… هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذي يشجعني وينصحني، بدون حضورك الذي يقوِّيني؟! ولمن أستطيع أن أبوح بما في نفسي بحرّية؟! ستقولين لي: عليك أن تكتب لي، لكنكِ تعلمين جيداً أن الكتابة غير التحدث، وأن قراءة رسالة ليست هي الاستماع إلى صوت، ثم إنك تعلمين جيداً أنني كثيراً ما لا أقول شيئاً وإنما أتناول يدكِ وأضع رأسي على كتفكِ… ثلاثة أشهر … ثلاثة أشهر … فترة رهيبة. لقد استيقظتُ على ظلمة لا تُطاق، وكان لا بد لي من أن أكتب لك لكي تتبدّد هذه الظلمة. أترين، كيف أنك ضيائي حاضرةً كنتِ أم غائبة؟!”
“في مواجهة الأزمات”
تحدثت سوزان في مذكراتها عما تعرّض له طه حسين من أهوال بسبب السلطات الدينية الإسلامية بسبب كتابه عن “الشعر الجاهلي”
لم تكن سوزان مجرد رفيقة لطه حسين في أوقات الرخاء والنجاح، بل كانت عموده الصلب في أوقات المحن والانكسارات، فمنذ بداية رحلتهما، كانت حاضرة في كل أزمة مرّ بها، تسانده بصبر لا ينفد، وحب لا يتزعزع، فحين أرهقته العزلة، كانت صوته للعالم، وحين داهمته خيبات الواقع، كانت يده التي تُمسكه عن السقوط، تحمل معه أثقال المسؤولية، وتقفت إلى جواره يوماً بيوم، تُخفّف آلامه، لتزرع فيه أملاً جديداً، حتى صار وجودها سر صموده، ورفقتها درعاً يقيه من قسوة الأيام.
تحدثت سوزان في مذكراتها عما تعرّض له طه حسين من أهوال بسبب السلطات الدينية الإسلامية، حين اتُخذ الأزهر قراراً بحظر كتابه عن “الشعر الجاهلي” في عام 1926، بعد أن اعتُبر “خطراً وغير مقبول”، لأنه شكّك في تقاليد وقيم التراث القديم، الذي اعتبره بعض رجال الدين غير قابل للنقاش وتهديداً للعقيدة، وفضّل على ذلك قراءته العقلانية المستندة إلى دراسته النقدية للأدب العربي قبل الإسلام.
ويقول طه في كتابه: “شككت في قيمة الأدب الجاهلي وألححت في الشك، أو قل: ألح عليَّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقيناً فهو قريب من اليقين؛ ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين”.
وبعد أن هدأت تلك العاصفة الفكرية، أخذته سوزان إلى إحدى القرى في منطقة “هوت سافوا” الفرنسية ليستعيد عافيته ويُشفى من مرارته، وهناك، في غضون تسعة أيام فقط، كتب الجزء الأول من سيرته الذاتية “الأيام”، وفي عام 1932، وبسبب معارضته الشديدة لتسييس منح الدرجات الفخرية في الجامعة التي كان يُدرّس فيها، فُصل من عمله، ليجد نفسه عاطلاً عن العمل، ولخّصت سوزان بمرارة قدر ما كان يعانيه طه قائلة في مذكراتها: “كان طه يدفع غالباً ثمن جريمته أن يكون إنساناً حراً”.
وتقول: “لم يكتفوا بطرده من الكلية التي كان عنواناً لعزتها وكرامتها وقوةً نابضةً فيها، وإنما أرادوا أيضاً إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه، وأغرقوه بالشتائم، وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلاً بيع الصحيفة التي كان يصدرها، وبإنذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدِّم له عروضاً للعمل”.
ويسلط هذا المثال، من أمثلة عديدة، الضوء على أن حياة سوزان مع طه لم تكن عالماً مليئاً بالسعادة، فهي تقول متذكرة ما قاله لها في ذات مرة: “إننا لا نحيا لنكون سعداء”، وتعلق سوزان على تلك المقولة: “عندما يكون المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيداً، وإنما لأداء ما طُلب منه”، ثم تعود إلى كلمة قالها طه لها في ذات مرة: “لعل ما بيننا يفوق الحب”.
وتضيف: “كنا على حافة اليأس، ورحتُ أفكر: لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء، لكني كنت على خطأ، فلقد منحت (أنت) الفرح، وبذلت ما في نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنت تعرف تماماً أنه لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وإنك أساساً، بما تمتازُ به من زُهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحث عنها، فهل يُحظر عليّ الأمل بأن تكون هذه السعادة قد مُنحت لك الآن؟”
وعلى صعيد حياتهما العائلية داخل منزلها يصف مؤنس طه حسين بُعداً آخر، نقلاً عن حديثه المنشور في مجلة اليونسكو، السابق ذكرها، عن سؤال لطالما راود البعض: ما هي لغة الحوار داخل منزل طه حسين أكانت العربية أم الفرنسية؟، ويقول ابنهما: “كنا نتحدث الفرنسية دائماً في المنزل. لم تتعلم والدتي العربية بشكل حقيقي. كانت تتحدث بها بدرجة كافية للتسوق والتعامل مع مواقف الحياة اليومية”.
ويضيف: “أعتقد أن والدي كان سعيداً باستخدام الفرنسية في المنزل. لقد كتب مقالات ومحاضرات بالفرنسية، ولكن ليس بدافع ميول شخصية بقدر ما كان استجابةً للطلبات. كانت العربية هي اللغة التي يفكر بها ويشعر من خلالها. ولم يبدأ بنقل أفكاره ومشاعره إلى لغات أخرى إلا لاحقاً”.
“رحيل دون افتراق”
لم تكن قصة حب سوزان بريسو وطه حسين مجرد لقاء جمع بين رجل وامرأة، بل كانت رحلة عمر امتزج فيها العقل بالعاطفة
عندما فارق طه حسين الحياة في 28 تشرين الأول/تشرين الأول عام 1973، لم يكن الحزن عند سوزان مجرد دموع أو غياب، بل انطفاء نور رافقها ما يزيد على نصف قرن، وكتبت تصف نهاية مشواره معها في مذكراتها: “لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقاً ذلك السبت 27 تشرين الأول/تشرين الأول، ومع ذلك، ففي نحو الساعة الثالثة من بعد الظهر شعر بالضيق. كان يريد أن يتكلم، لكنه كان يتلفظ الكلمات بعسر شديد وهو يلهث. ناديت طبيبه والقلق يسيطر عليّ. لكني لم أعثر عليه، فركبني الغم، وعندما وصل، كانت النوبة قد زالت، وكان طه قد عاد إلى حالته الطبيعية”.
وتضيف: “ثم جاءت الليلة الأخيرة. ناداني عدة مرات، لكنه كان يناديني على هذا النحو بلا مبرر منذ زمن طويل. ولما كنت مرهقة للغاية، فقد نمت، نمت ولم أستيقظ، وهذه الذكرى لن تكفَّ عن تعذيبي”.
توفي طه وتوقف القلب إلى الأبد، وتتذكر سوزان وفاة رفيق عمرها قائلة: “جلستُ قربه، مرهقة متبلدة الذهن وإن كنت هادئة هدوءاً غريباً (ما أكثر ما كنت أتخيّل هذه اللحظة المرعبة!) كنا معاً، وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن أبكي – فقد جاءت الدموع بعد ذلك – ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث”.
وتقول: “كان الواحد منّا قِبَلَ الآخر. مجهولاً ومتوحداً، كما كنّا في بداية طريقنا. وفي هذا التوحد الأخير، وسط هذه الألفة الحميمة القصوى، أخذتُ أحدّثه وأقبّل تلك الجبهة التي كثيراً ما أحببتها، تلك الجبهة التي كانت من النُبل ومن الجمال بحيث لم يجترح فيها السن ولا الألم أي غضون، ولم تنجح أية صعوبة في تكديرها … جبهة كانت لا تزال تشع نوراً”.
لم تكن قصة حب سوزان بريسو وطه حسين مجرد لقاء جمع بين رجل وامرأة، بل كانت رحلة عمر امتزج فيها العقل بالعاطفة، والصوت بالنور، والاختلاف بالاتحاد، كانت سوزان عينيه التي لا تُبصر، وصوته الداخلي الذي لا يصمت، كانت ملاذه في العُزلة، ورفيقته في النجاح وفي قسوة الأيام.
أما هو، فكان حكايتها الثريّة التي كتبتها بالحب وبالاختيار الحر، في بيتهما، اجتمع الشرق بالغرب، والإسلام بالمسيحية، والفرح بالألم، أصبح بيتهما وطناً للروح والمعنى، وبعد رحيله ظلت سوزان شاهدة على حب لا ينطفئ، حاضنة لذكرى رجل، صنع النور من العمى، والحياة من الكلمة.
“من أقدم المدن التي عرفها التاريخ. إنها ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها، ورفيقة العصور الفائتة كلها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا”.
بهذه الكلمات، تحدث المؤرخ الفلسطيني المقدسيّ عارف العارف، عن مدينة غزة، في كتاب صدر عام 1943، جمع فيه خلاصة ما ورد عن هذه المدينة الساحلية في المؤلفات العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية.
وفي كتاب أقدم صدر عام 1907 للحاخام الأمريكي مارتن ماير عن غزة، وصفها المستشرق الأمريكي ريتشارد غوتهيل في مقدمته قائلاً بأنها “مدينة مثيرة للمهتم بدراسة التاريخ”.
وأوضح غوتهيل أهميتها الاستراتيجية قائلاً إنها “نقطة التقاء للقوافل التي كانت تنقل بضائع جنوب الجزيرة العربية والشرق الأقصى إلى البحر الأبيض المتوسط، ومركز توزيع هذه البضائع إلى سوريا وآسيا الصغرى وأوروبا، وهي كذلك همزة الوصل بين فلسطين ومصر”.
ثلاث مدن بهذا الاسم
صورة للبلدة القديمة في غزة، التقطها فرانسيس فريث عام 1858
من المثير للاهتمام، أن موسوعة “معجم البلدان” للأديب والرحالة ياقوت الحمويّ، ذكرت ثلاث بلدات عُرفت بهذا الاسم في المنطقة، الأولى “جزيرة العرب” التي تحدث عنها “الأخطل” في شعره.
والثانية بلد بـ “إفريقيّة” وهو الاسم القديم لتونس، يقول الحموي إن بينها وبين القيروان مسيرة ثلاثة أيام، تنزلها القوافل المتجهة إلى الجزائر.
أما غزة الأشهر عبر التاريخ فيصف الحموي موقعها بأنها “مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، وهي من نواحي فلسطين غربي عسقلان”.
أسماء غزة عبر التاريخ
خريطة قديمة ملحقة بكتاب “تاريخ غزة” الذي صدر عام 1943م
منذ قديم الزمن والعرب يطلقون عليها “غزة”، وفي العصر الإسلامي أطلِق عليها “غزة هاشم” في إشارة إلى جد نبي الإسلام “هاشم بن عبد مناف” الذي توفي فيها، وهي التي ولد فيها “الإمام الشافعي” مؤسس المذهب الإسلامي الشهير، الذي قال عنها:
وإني لمشتاق إلى أرض غزة * وإن خانني بعد التفرقِ كتماني
أما في اللغة العبرية فيطلق عليها “عزة” بالعين أو بالهمزة بدلاً من الغين.
ويقول العارف في كتابه “تاريخ غزة” إن الكنعانيين كانوا يطلقون عليها “هزاتي”، أما المصريون القدماء فكانوا يسمونها “غازاتو” أو “غاداتو”.
وقد جاء في المعجم اليوناني أنها سميت عبر العصور بأسماء مختلفة، منها “إيوني” و”مينووا” و “قسطنديا”، كما أطلق عليها الصليبيون “غادريس”
بوابة أثرية بمدينة غزة القديمة التاريخية
معنى غزة
لوحة للفنان فيكتور جورين تجسد مدينة غزة في فلسطين عام 1875م
يقول يوسابيوس القيصري الذي أطلق عليه “أبو التاريخ الكنسي”، وقد عاش في القرن الرابع بعد الميلاد، إن “غزة” تعني العِزة والمَنَعة والقوة. وانضم إليه في ذلك، بحسب “العارف”، السير وليام سميث في قاموس العهد القديم الذي صدر عام 1863.
وأرجع الفريق السبب في ذلك إلى الحروب الكثيرة التي دارت رحاها في المدينة وحولها، والتي صمدت غزة خلالها، وهو المعنى الذي يميل إليه المؤرخ الفلسطيني.
أما صفرونيوس صاحب قاموس العهد الجديد الذي صدر عام 1910، فيقول إن “غازا” كلمة فارسية تعني الكنز الملكي، وهو معنى لا يبتعد كثيراً عمن يقول إن “غزة” كلمة يونانية تعني الثروة أو الخزينة.
ويُقال إن ملكاً من ملوك الفرس دفن ثروته فيها وغاب عنها، ثم رجع إليها فوجدها على حالتها. وقيل إن تلك الرواية تكررت في عهد الرومان.
وفي المعاجم العربية، يقال “غزَّ فلان بفلان” أي اختصه من بين أصحابه، وهو المعنى الذي أورده الحموي في معجمه وهو يتحدث عن مدينة غزة، ويشرح “العارف” المعنى قائلاً إن ذلك يعني أن الذين بنوا غزة، اختصوها من بين المواقع الأخرى على البحر المتوسط.
كما ذكر ياقوت الحموي أن “غزة” كان اسم زوجة “صور” الذي بنى مدينة صور الفينيقية التي تقع في لبنان حالياً.
من بنى غزة؟
الكنيسة الأثرية في بلدة غزة القديمة
ويقول عالم الآثار الإنجليزي السير فلندرس بتري إن غزة القديمة أنشئت قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام، فوق التل المعروف بـ “تل العجول”، وإن سكانها تركوها بسبب الملاريا التي اجتاحتها في ذلك الوقت.
وعلى بعد ثلاثة أميال، حط سكانها رحالهم و أنشأوا غزة الجديدة الموجودة في موقعها الحالي. ويقال إن ذلك حدث في عهد الهكسوس الذين سيطروا على هذه المنطقة قبل ألفي عام من ميلاد المسيح.
وهناك من ينفي هذه الرواية ويقول إن غزة ما زالت حتى اليوم في موقعها القديم، وإن “تل العجول” كانت ميناء غزة التجاري. وهناك من قال إن غزة القديمة خربت على يد الإسكندر الأكبر، وإن غزة الحديثة ليست ببعيدة عنها كما قال السير بتري.
ويقول “العارف” في كتابه إن “المعينيين” الذين يقال إنهم أقدم شعب عربي حمل لواء الحضارة في الألفية الأولى قبل الميلاد، هم أقدم من ارتاد مدينة “غزة”، وأسسوها كمركز يحملون إليه بضائعهم.
وتنبع أهمية “غزة” لدى العرب من كونها تربط بين مصر والهند، فكانت الطريق التجاري الأفضل لهم مقارنة بالملاحة في البحر الأحمر، ومن هنا تأسست مدينة غزة واكتسبت شهرتها التاريخية.
وكانت التجارة تبدأ من جنوب بلاد العرب في اليمن، التي يجتمع فيها تجارة البلاد وتجارة الهند، ثم تسير شمالاً إلى مكة ويثرب “المدينة المنورة حالياً” والبتراء، قبل أن تتفرع إلى فرعين؛ أحدهما في غزة على البحر المتوسط، وثانيهما في طريق الصحراء إلى تيماء ودمشق وتدمر.
ومن هنا استنتج مؤرخون أن مملكة معين وسبأ أولى الممالك العربية التي أسست مدينة غزة. كما كان “العويون” و “العناقيون” الذين يقال إنهم الفلسطينيون القدماء، وجاء ذكرهم في أسفار العهد القديم، هم أول من استوطن غزة، بحسب “العارف”.
كما استوطنها “الديانيون” أحفاد النبي إبراهيم، و”الآدوميون” وهي قبائل بدوية كانت تقطن جنوب الأردن، و”العموريون” و”الكنعانيون” الذين اختُلف في أصلهم.
الكنعانيون
لوحة تعود لعام 1886م تجسد معركة غزة خلال حرب ملوك طوائف الإسكندر الأكبر عام 312 قبل الميلاد
يذكر كتاب “تاريخ غزة” أن سفر التكوين ذكر المدينة باعتبارها من أقدم مدن العالم، سكنها الكنعاني من نسل حام بن نوح، وفي رواية أخرى أنها كانت قائمة عندما احتلها الكنعانيون وأخذوها من العموريين.
وقد ذكر المؤرخ ابن خلدون عن ابن جرير أن الكنعانيين من العرب البائدة، وأنهم يرجعون بأنسابهم إلى العمالقة.
ويرى البعض أن الكنعانيين أتوا من “خليج العجم” المعروف حالياً بالخليج العربي، والبعض قال إنهم جاءوا من البحر الأحمر، ويقدر المؤرخون أنهم عاشوا في هذه المنطقة قبل 5 آلاف عام.
ويعتقد السير بتري أن قسماً كبيراً من سور المدينة الذي عُثر على بقاياه أنشئ في عهد الكنعانيين، وأن المنقبين لم يعثروا على حجارة ضخمة بهذا الحجم بعد الكنعانيين.
كما عُثر في الطرف الجنوبي من تل العجول على أطلال مدينة كنعانية كانت على ما يبدو تحت احتلال الهكسوس. وعُثر كذلك على مقابر يعود بعضها إلى العصر البرونزي قبل الميلاد بـ4000 عام.
ويقول “العارف” إن الكنعانيين هم “أول من عرف زراعة الزيتون على هذه الأرض، وصناعة النسيج والفخار والتعدين، واخترعوا الحروف الهجائية، وسنوا الشرائع والقوانين، فأخذ عنهم بنو إسرائيل الكثير من سننهم وشرائعهم وأفكارهم ومبادئهم حتى حضارتهم”.
وقد وقعت غزة عبر تاريخها القديم تحت سيطرة قدماء المصريين والبابليين والآشوريين واليونان والفرس والرومان.
وقد وصف المؤرخ الفلسطيني عارف العارف تاريخ غزة بـ”المجيد”؛ لأنها “صمدت لنوائب الزمان بجميع أنواعها، وطوارئ الحدثان بجميع ألوانها، حتى أنه لم يبق فاتح من الفاتحين أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين كانت لهم صلة بالشرق، إلا ونازلته، فإما أن يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعته”.
خلال الآونة الأخيرة، عكفت رئاسة الوزراء المصرية بالتسيق مع وزارة الأوقاف، على دراسة مقترح لعودة الكتاتيب في مصر، بعدما طالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بذلك.
وتقول رئاسة الوزراء إن الكتاتيب ستُسهم في تكوين الشخصية المصرية ونشر قيم “التسامح” و”احترام الآخر” و”حب الوطن” و”احترام الأديان”.
فمتى نشأت الكتاتيب في مصر؟ وهل كانت مقترنة بعدم وجود تعليم ابتدائي؟ وما التغييرات التي طرأت عليها؟
تختلف وتتضارب الآراء حول نشأة الكتاتيب في مصر. فبعض المؤرخين يقولون إن بداية نشأتها كانت في أواخرعصر المماليك، والبعض الآخر يقول إن ظهور الكُتاب في مصر يرجع إلى الحقبة العثمانية.
قصة حاكم مصر الذي زلزل أركان الإمبراطورية العثمانية
مذبحة القلعة: كيف تخلص محمد علي من منافسيه في حكم مصر بضربة واحدة؟
رسم توضيحي للرسام لويس كابانيس، لسبيل وكُتاب “عبد الرحمن كتخدا” بشارع المعز لدين الله الفاطمي، الذي بُني عام 1744 ميلادياً، وقد نُشرت هذه الصورة في كتاب “نزهات عبر القاهرة- Promenades à travers Le Caire”.
الكُتاب المُلحق بالسبيل
وفقاً لمؤرخين كان العصر الذهبي للكتاتيب في مصر في عهد العثمانيين.
إذ تذكر المؤرخة المصرية، الدكتورة نللي حنا، في كتابها “ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية ق17م – ق18م”، إن نظام الكتاتيب “ساد في الفترة من القرن الـ 16 إلى القرن الـ 18” كقاعدة للتعليم الأساسي.
كما تذكر حنا في كتابها، موضحة: “كان عدد الكتاتيب في القاهرة عند نهاية القرن الـ18 حوالي 300 كُتاب، بينما بلغ تعداد سكان المدينة نحو 260 ألف نسمة”.
ويقول الدكتور أيمن فؤاد أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة وخبير المخطوطات المصري إن “الكتاتيب انتشرت في العصر العثماني مع وجود الأسبلة، حيث كان يُلحق كُتاب بكل سبيل مياه، وكان الأطفال يتعلمون فيه القراءة والكتابة وحفظ القرأن”.
وصف مصر: أسرار ومفارقات تحكي قصة الموسوعة الأشهر في التاريخ
ويشير الدكتور أيمن فؤاد إلى وصف عالم الآثار الفرنسي، آدم فرانسوا جومار، الذي كتب الجزء الخاص ب”مدينة القاهرة وقلعة الجبل”، ضمن دراسات موسوعة وصف مصر.
ويذكر فؤاد بعضاً من وصف جومار للكتاتيب في مصر، قائلاً: “كانت وجهات السبيل بها أعمدة رُخامية وكان السبيل مُكوناً من مستويين: المستوى الأول، حيث كان السقاؤون يأتون بصهاريج حفظ المياه، مُحملةً على ظهور الجمال والبغال من الخليج (منطقة صناعية تخرج من نهر النيل) لتخزينها في السبيل”.
أما داخل المستوى الثاني من السبيل، فيقع كُتاب لتعليم أطفال المسلمين وكان يوجد أيضاً “المزملاتي” وهو الشخص الذي يناول مياه الشرب للناس، بحسب الدكتور أيمن فؤاد.
رسم توضيحي رسمه الفنان باسكال كوست، لسبيل وكتاب السلطان قايتباي الذي أسسه السلطان المملوكي الجركسي قايتباي المحمودي الأشرفي عام 1479 ميلادي
وقبل الحقبة العثمانية، خلال حكم المماليك لمصر، برزت كذلك بعض الكتاتيب، ومن أشهرها كان كُتاب وسبيل السلطان قايتباي.
وقد أسس هذا الكُتاب، السلطان المملوكي الجركسي قايتباي المحمودي الأشرفي عام 1479ميلادياً إبان حقبة المماليك البرجية (الجركسية)، ويقع الكُتاب الذي خُصص لتعليم أطفال المسلمين مبادئ القراءة والكتابة في الطابق الثالث من السبيل، وفقاً لمركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي التابع لمكتبة الإسكندرية.
ويقول الدكتورعبد الباقي القطان، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة عين شمس “إن الكُتاب له أكثر من اسم من بينهم مجلس الأدب أوالمكتب، وكلها أسماء لمكان واحد، وهو المكان الذي يُطلب فيه علم للصبيان وهم الأطفال الصغار”.
مخاوف أثرية من انهيار يهدد قلعة قايتباي بالإسكندرية
يشيرعلي باشا مبارك في كتابه “الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة” إلى الكُتاب أو كما أطلق عليه “المكتب”، الذي بناه السلطان المملوكي لاجين داخل مسجد أحمد بن طولون لتعليم الأطفال اليتامي القراءة.
ويوضح الدكتور عبد الباقي القطان، في حديثه لبي بي سي ، أن السلطان المنصور حسام الدين لاجين، أحد سلاطين المماليك، بنى كُتاباً فى مسجد أحمد بن طولون وخصصه للأيتام للدراسة فيه.
وهو ما يؤكده علي باشا مبارك، أول وزير للتعليم في مصر، في كتابه “الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة”، الذي يشير إلى الكتاب، مستخدماً كلمة “مكتب”.
إذ يذكر مبارك في كتابه هذا: “استولى لاجين على الديار المصرية وتلقب بالملك المنصور سنة ست وتسعين وستمئة… ورتب فيه دروساً للمذاهب الأربعة، ودرساً للتفسير ودرساً للحديث ودرساً للطب وقرر للخطيب معلوماً وجعل له إماماً راتباً ومؤذنين وفراشين، وقومه وعمل بجواره مكتباً لإقراء أيتام المسلمين”.
كان الهدف من الدراسة في الكُتاب القديم ( قبل إصلاح الكتاتيب في عام 1869) حفظ القرأن الكريم وتجويده بالشكل الذي يستطيع أن يحمل صاحبه إلى التعليم في جامع الأزهر.
وبالعودة إلى الكتاتيب في الفترة العثمانية يقول الدكتورأيمن فؤاد، إن من بين أشهر الكتاتيب خلال تلك الفترة من تاريخ مصر، كان كُتاب “عبد الرحمن كتخدا” بشارع المعز لدين الله الفاطمي وهو النموذج الذي يُمثل وجود السقاية والمياه بالدورالأسفل. أما الدور العلوي فتوجد به شُرفة الكُتاب.
ويوضح فؤاد أنه، أيضاً، من بين أبرز الكتاتيب التي بُنيت خلال الحقبة ألعثمانية في القاهرة، كان سبيل وكُتاب “نفيسة البيضاء” في منطقة باب زويلة وسبيل وكُتاب “رقية دودو”في سوق السلاح.
لماذا حذفت مصر اسم “سلطان عثماني” من أحد شوارع القاهرة؟
ويستدرك في حديثه لنا قائلاً ” في مصر العثمانية، كان يبني الخيّرون الكتاتيب والأسبلة بأموالهم الخاصة وخصصوا لها وقفاً لتمويلها، وكان أهالي الأطفال الساكنين في أحياء العاصمة القاهرة يرسلونهم إليها لتلقي التعليم، الذي كان مجانياً”.
“ولم يكن الوقف يوفر التعليم المجاني فحسب، بل كان يتضمن تعليم التلاميذ وكسوتهم وتقديم الهدايا لهم في مواسم معينة”، وفق ما ذكرته المؤرخة المصرية نللي حنا في كتابها ” ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية ق17م – ق 18م”.
رسم توضيحي بالألوان لكُتاب في القاهرة بالقرن التاسع عشر.
انفصال الكُتاب عن السبيل
ومع بداية عصر حكم الخديوي إسماعيل (1879-1863م) ” لم تعد الكتاتيب المُلحقة بالأسبلة تُستخدم للتعليم، إذ أصبحت هناك شركات لتوصيل المياه وكانت هناك صنابير مياه في الأماكن العامة وأصبحت المياه تصل لوسط المدينة، لذلك تم الاستغناء تقريباً عن الأسبلة”، وفقاً لما يقوله الدكتورأيمن فؤاد لبي بي سي.
لماذا أرسل الخديوي إسماعيل جنوداً مصريين إلى المكسيك؟
ويوضح فؤاد أنه بسبب ذلك، انفصلت الكتاتيب عن الأسبلة، لتصبح مُلحقة بالزوايا والمساجد لتعليم القرأن ومبادىء القراءة والكتابة وكانت هذه الكتاتيب هي الأكثر شيوعاً، بحسبه.
ويقسم الباحث والأكاديمي المصري، الدكتورعبد الباسط هيكل في حديثه لبي بي سي الكتاتيب في مرحلة ما بعد اندثار الأسبلة إلى نوعين: “الكتاتيب القديمة” وهي تلك التي كانت موجودة قبل عام 1869 و”الكتاتيب الحديثة” التي أُنشأت بعد ذلك التاريخ.
سبيل وكُتاب “رقية دودو”، الذي بُني أثناء الفترة العثمانية في تاريخ مصر، بعد ترميمه في منطقة سوق السلاح بالعاصمة المصرية القاهرة.
الكُتاب والدراسة في الأزهر الشريف
ينقل الدكتورعبد الباسط هيكل، عن الشيخ الراحل عبد المتعال الصعيدي أحد علماء الأزهر الشريف والعضو السابق في مجمع اللغة العربية، قوله عن الكُتاب القديم” بأنه النموذج السيء”، حيث كان ردىء التهوية، وكان هذا “الكُتاب يعتمد على الكتابة على الألواح”.
وبحسب هيكل “يشرف على هذا الكُتاب الشيخ والعريف (مساعد الشيخ)، ويعتمد في تمويله على هبة تأتي من الشخص الذي تكفل بتمويل وفتح الكُتاب في القرية”.
ومن أبرز الكتاتيب القديمة، كان الكُتاب الذي أنشأه حسن باشا عبد الرازق في صعيد مصر، والذي تعلم فيه ولداه: العالم الأزهري الشيخ مصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق، الذي أصبح فيما بعد وزيراً للأوقاف، بحسب ما يقول الدكتور عبد الباسط هيكل لبي بي بي سي.
كيف مهد كتاب لشيخ أزهري للجدل حول الإسلام والعلمانية؟
أما بالنسبة للأجر الذي كان يتقاضاه شيخ الكتاب والعريف، فيوضح هيكل أنه “أحياناً كان يحصل أي منهما على بعض الهدايا أو شيء عيني من الأهالي”.
ويستدرك هيكل حديثه لبي بي سي، قائلاً: “كان الهدف من الدراسة في الكُتاب القديم هو حفظ القرأن الكريم وتجويده بالشكل الذي يستطيع أن يحمل صاحبه إلى التعليم في الأزهر، أو أن يعمل مثلاً كاتباً في المحكمة أو في بعض المهن البسيطة”.
في عصر الخديوي إسماعيل، بالقرن التاسع عشر، أُسندت إدارة التعليم إلى علي باشا مبارك الذي وضع خطة لإصلاح الكتاتيب، صورة الخديوي من نقش من مجلة L’Illustrazione Italiana
الكتاتيب في عهد الخديوي إسماعيل
في عصر الخديوي إسماعيل (1863-1879)، بالقرن التاسع عشر، أُسندت إدارة التعليم إلى علي باشا مبارك، الذي سيصبح فيما بعد ناظراً للمعارف العمومية (وزير التربية والتعليم)، بحسب ما جاء في كتاب “زعماء الإصلاح في العصر الحديث” للمؤرخ المصري أحمد أمين.
وفي عام 1869، خضعت الكتاتيب لإشراف نِظارة المعارف العمومية (وزارة التعليم في عهد الخديوي إسماعيل)، وفقاً لما قاله الأكاديمي والباحث المصري، الدكتورعبد الباسط هيكل لبي بي سي.
لماذا أرسل الخديوي إسماعيل جنوداً مصريين إلى المكسيك؟
وقد أدخل علي باشا مبارك إدارة التعليم تحت الإشراف الحكومي، بعدما كانت “الحكومة لا تُعنى إلا بالمدارس الحربية”، بحسب المؤرخ المصري، أحمد أمين.
كما أوضح المؤرخ أحمد أمين أن علي باشا مبارك أرسل مندوبين لإحصاء كل كتاتيب القطر المصري حينها، وكُلّفوا بتقييم حالة كل كُتاب وعما إذ كان مبناه صالحاً أم غير صالح و كذلك معرفة عدد تلاميذه وتقييم حالة الفقهاء.
والفقيه هو الشيخ الذي يعلم الطلاب في الكُتاب ويُحفظهم القرأن ويطلق عليه في العامية المصرية “فقي”.
“حالة يُرثى لها”
رسم توضيحي لكُتاب، في معبد قديم بمدينة الأقصرالمصرية من كتاب “من الفرعون إلى الفلاح” لتشارلز فريدريك بيل. الصورة من رسوم جورج مونتبارد ونقش تشارلز باربانت وويلز جاردنر، دارتون وشركاؤه في لندن عام 1888
وقد وجد علي باشا مبارك التعليم داخل الكتاتيب “في حالة يُرثى لها… فكثير منها إما دكان أو حاصل (مخزن) أو في غرفة مظلمة بجانب مراحيض المسجد، والتلامذة يختلط صحيحهم بمريضهم، وقد يكون المرض مُعدياً”، بحسب ما قال المؤرخ المصري، أحمد أمين في كتابه “زعماء الإصلاح في العصر الحديث”.
ويستدرك أمين في وصفه لحالة التلاميذ في الكتاتيب، قائلاً إنه كان هناك “أبرص وأجرب ومحموم ينشرون العدوى بين الأصحاء. يجلسون على حصير بالٍ ويشربون بكوز واحد من زير واحد ويأكلون في الظهر من صحن واحد”.
ليس هذا فحسب، بل أن فقيه الكُتاب عادةً ما “لا يُحسن رعاية التلاميذ ولا إدارة شؤونهم”، وكان هدفه الوحيد تحفيظ القرأن من غير فهم، ووسائل التأديب عنده ليست إلا السب والضرب، وفقاً لما أورده أحمد أمين في كتابه “زعماء الإصلاح في العصر الحديث”.
وقد دونت نِظارة المعارف العمومية جميع ملاحظتها عن أوضاع الكتاتيب في مصر، من أجل إصلاحها للاستعانة بها لمحو الأمية وانطلاق ما أُطلق عليه “الكتاتيب الحديثة”، وكان ذلك ما بين عامي 1869 و1902، بحسب الدكتور عبد الباسط هيكل.
لوحة فنية باسم “فنان في مصر” تظهر طُلاباً يدرسون داخل جامع وتعود لنحو عام 1905 للرسام البريطاني والتر تيندال.
بداية الإصلاح
يشير أحمد أمين إلى أن علي باشا مبارك قسّم الكتاتيب، بعد إحصائها، إلى ثلاثة مستويات: جيدة ومتوسطة ورديئة.
كما أن مبارك وضع لائحة أسماها لائحة رجب – وهو تاريخ صدورها – عالج فيها كل المشاكل التي واجهتها الكتاتيب من “مراعاة التدابير الصحية وتدبير المال اللازم ورفع مستوى الفقهاء”.
ويقول الدكتورعبد الباسط هيكل إن “نِظارة المعارف وضعت برنامجاً لإصلاح الكتاتيب. وحاولت أن تُلزم بعضاً من الشيوخ، الذين يريدون الحصول على منحة الالتحاق بهذا البرنامج، بالمساهمة في تجديد الكتاتيب”.
و”تكون المُساهمة من خلال استيفاء بعض الملاحظات التي تطلُبها نظارة المعارف، من خلال مُساهمة أهل القرية أو شيخ الكتاب أوالعمدة لتوفير مبانٍ جيدة للكتاتيب”.
وهو ما يؤكده المؤرخ أحمد أمين، الذي ذكر أن علي باشا مبارك جعل بعض الأهالي والمديريات الحكومية تتحمل بعضاً من الأعباء المالية لتطوير التعليم وتحويل بعض الكتاتيب الكبيرة الصالحة إلى مدارس ابتدائية.
كما يشرح هيكل أن من ضمن خطة الإصلاح، كان تلقي شيخ الكُتاب تدريباً “حيث كان يذهب إلى مكان تُخصصه له نِظارة المعارف للتدريب مدة يومين في الأسبوع، وعادةً ما يكونا يومي الخميس والجمعة، وينقطع الشيخ خلالهما عن الكُتاب وتُغلق أبوابه”
ليس هذا فحسب، “كما أنه يحصل على راتب ويُؤهل لتدريس علوم أخرى كالخط العربي أو مذكرة بسيطة لتعليم الحساب”.
في عصر ملك مصر الراحل، فؤاد الأول، أُصدر دستور 1923، الذي تنص المادة 19 منه على أن التعليم الأولي أصبح إلزامياً ومجانياً في مؤسسات الدولة التعليمية، والصورة من نقش من مجلة L’Illustrazione Italiana
دستور 1923 ومجانية التعليم
يعتبر الدكتور عبد الباسط هيكل دستور 1923 في عهد الملك فؤاد الأول الذي تنص المادة 19 منه على أن التعليم الأولي أصبح إلزامياً ومجانياً في مؤسسات الدولة التعليمية “حدثاً سياسياً مهماً للغاية في مسار التعليم في مصر”.
ويوضح هيكل أنه بناءً عليه تم التفكير في إنشاء المدارس الأولية، بمبانيها الحديثة والتي تختلف اختلافاً تاماً عن الكتاتيب.
ويرى مؤرخون أنه بعد هذه الفترة تراجعت الكتاتيب في مصر تدريجياً إلى أن وصلت ذروة التراجع بحلول حقبة الخمسينيات.
غير أن الدكتور عبد الباسط هيكل يقول ” في ظني لم يحدث تراجع للكتاتيب ولكن لم يحدث نمو. ففي هذا التوقيت كانت هناك تغييرات داخل المجتمع المصري مع ظهور طبقة جديدة تتشكل وهي الطبقة العُمالية”.
ووفقاً لهيكل، فإن هذه الطبقة الجديدة كانت لها متطلبات تعليمية مختلفة والمجتمع كان يُغذي هذه المتطلبات، “وبدأت تظهر أنواع جديدة من التعليم المهني. كما بدأ يظهر ما عُرف باسم المدارس المُلحقة بالمصانع، فتم تصوير الأمر على أنه ركود أو تراجع “.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال حتى الآن هناك بعض الكتاتيب في قرى مصر، حيث يتعلم الأطفال مبادىء القراءة والكتابة وحفظ القرآن، لكنها لا تشكل القاعدة الأساسية للتعليم في البلاد، ولا يُعتد بها كمرحلة تعليمية، للالتحاق بالمدارس الابتدائية.