by | Sep 1, 2025 | اقتصاد
تُجاري المقاطعة حدة استعار الأجواء المشحونة بين الجزائر وباريس وبرود العلاقات السياسية والدبلوماسية، حيث بدأت تظهر انعكاسات ذات أبعاد اقتصادية وتجارية، إذ شنّت بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي حملات لمقاطعة المنتجات الفرنسية المتداولة في السوق الجزائرية. هذه الخطوات تأخذ أبعاداً غير رسمية تُضاف إلى تلك التي تعمل عليها السلطات الجزائرية، وإن كانت بطريقة غير معلنة، من خلال تعويض المنتجات الفرنسية في تموين السوق المحلية بسلع وبضائع من وجهات ومصادر أخرى، في إطار عمليات الاستيراد المقرّرة، بينما تلجأ الجزائر إلى تنويع شركائها في توفير مختلف المواد، حتى تلك التي كانت سابقاً تقتصر “تاريخياً” على فرنسا كالقمح.
وتتزامن هذه الحملات مع اختفاء ملحوظ للعلامات والمنتجات الفرنسية في السوق الجزائرية، أبرزها المواد الغذائية التي لاقت في وقت سابق رواجاً لدى للمستهلك المحلي، على الرغم من أنّ بعضها أصبح ينتج محلياً رغم محافظته على اسم العلامة الأم، على غرار زبادي “دانون” وحليب “كانديا”، التي دخلت سوق البلاد منذ سنوات عدّة ونافست المنتوج المحلي، لا سيّما ما يعرف بـ”حليب الأكياس” المدعم من الدولة.
وانفتاح الجزائر اقتصادياً على العديد من الخيارات الأخرى من جهة، وتفاقم الأزمة السياسية بين قصر الإليزيه وقصر المرادية (إقامة رئاسة جمهورية الجزائر بالعاصمة) من الجهة المقابلة، أدى إلى تراجع كبير لتوفّر العلامات الفرنسية بالجزائر، ولعلّ آخرها المواد الغذائية كالأجبان، المعلبات، وأنواع من الشكولاتة والبسكويت، التي أضحت تنافَس بقوة من منتوج محلي بنفس مستوى الجودة أو أفضل وبأسعار أرخص.
بدائل المقاطعة متاحة… وفرنسا خاسرة
قال الخبير في الشأن الاقتصادي الدكتور سليمان ناصر، إنّ نحو 450 شركة فرنسية تعمل في الجزائر في العديد من المجالات، أبرزها مجال البناء، والأشغال العمومية، والصناعة والأجهزة الكهرومنزلية، وكذا قطاع غيار السيارات. وأوضح أنّ في كل هذه القطاعات تملك الجزائر بدائل منها في الإنتاج المحلي، أو عبر شراكات مع شركات أجنبية أخرى تقدم نفس الخدمات، وبالتالي فإنّ هذه المقاطعة ممكنة من الناحية العملية، دون التسبب في تذبذب في السوق المحلية.
وأشار ناصر، في حديثه مع “العربي الجديد”، إلى تأثير هذه النوع المقاطعة على الشركات والاقتصاد الفرنسي، مستدلاً بالإحصائيات التي تؤكد تراجع الوجود الفرنسي باستمرار منذ بداية الأزمة، خاصة بانخراط رجال الأعمال الجزائريين مع هذا التوجه، ورفضه طريقة تعامل الطرف الفرنسي بالمقارنة مع الشركاء الآخرين، بصرف النظر عن الخيار المتخذ من السلطات على الصعيد الرسمي، بدليل تراجع حجم المبادلات التجارية بين البلدين من 12 مليار دولار إلى عشرة مليارات في بضعة أشهر، منها حوالى ستة مليارات صادرات الجزائر (معظمها من المحروقات)، وأربعة مليارات دولار صادرات فرنسية نحو الجزائر.
منافسة في الجو أيضاً
هذه المنافسة انتقلت أيضاً إلى شركات النقل الجوي للبلدين، اللذين تربطهما حركة ملاحة مكثّفة بالنظر إلى العدد الكبير من الجالية والمهاجرين الجزائريين في فرنسا، فقد كشفت شركة “آ أس أل” للخطوط الجوية الفرنسية مؤخراً عن برنامج رحلاتها لموسم الشتاء 2025-2026، الذي تميّز بزيادة قدرها 7% في عدد المقاعد المعروضة مقارنة بالشتاء السابق، ما يعكس تصميم الشركة على تعزيز حضورها في السوق شديدة التنافسية للرحلات الجوية بين فرنسا والجزائر.
وعليه اعتباراً من 26 تشرين الأول/ تشرين الأول 2025، ستقدم شركة عرضاً كثيفاً ومنتظماً للمدن الجزائرية الرئيسية، من خلال رحلات نحو مدن جزائرية عدّة كعنابة، بجاية، قسنطينة، وهران، سطيف، تلمسان، مع رحلات مغادرة من المطارين الباريسيَين بالإضافة إلى العديد من المناطق الفرنسية.
وتشكل هذه الاستراتيجية جزءاً من سياق المنافسة المتزايدة، وإلى جانب الخطوط الجوية الفرنسية، التي تقوم بتشغيل ما يصل إلى 48 رحلة أسبوعية إلى الجزائر ووهران ووجهات جزائرية أخرى من مراكزها مثل باريس أو مرسيليا أو تولوز، تظل الخطوط الجوية الجزائرية لاعباً رئيسياً، مهيمناً تاريخياً على هذا الطريق. وعلاوة على ذلك، أدى وصول وتطور شركات الطيران منخفضة التكلفة مثل ترانسافيا (التابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية) وفولوتيا إلى إحداث تغيير جذري في المشهد من خلال تقديم أسعار تنافسية، وبالتالي تحفيز الطلب على مدار العام، وتسعى الخطوط الجوية الجزائرية إلى التعامل معه، من خلال مجموعة من الحلول على غرار العروض التخفيضية والترويجية وتحسين جودة الخدمات المقترحة. وتثبت التجارب التاريخية أن علاقات الجانبين شهدت توترات مستمرة، وتعكس مقاطعة المنتجات الأخيرة استمرار عمق الخلافات السياسية والاقتصادية.
by | Aug 28, 2025 | اقتصاد
تتصاعد المخاوف في الأوساط المالية العالمية من أن تتحول الأزمة السياسية في فرنسا إلى شرارة هزة اقتصادية جديدة داخل الاتحاد الأوروبي، بعدما انعكست حالة عدم اليقين السياسي داخل فرنسا، صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في القارة بعد ألمانيا، بشكل مباشر على أسواق المال والمؤشرات الكلية. فقد سجلت السندات الحكومية الفرنسية لأجل عشر سنوات عائداً يناهز 3.5%، وهو من أعلى المستويات في منطقة اليورو، بينما اتسع الفارق مع السندات الألمانية إلى 77 نقطة أساس. وتوقع محللون من شركة كارمينياك لإدارة الأصول أن يصل الفارق إلى 100 نقطة أساس إذا تصاعدت الأزمة، وهو مستوى لم يسجل منذ أزمة منطقة اليورو قبل أكثر من عقد.
ويعد اتساع الفارق بين العائد على السندات الحكومية الفرنسية ونظيرتها الألمانية، من أبرز مؤشرات القلق في الأسواق المالية الأوروبية، وهو ما يعرف في الأسواق باسم Spreads (الفارق في العائد الذي يطالب به المستثمرون مقابل الاحتفاظ بسندات دولة تعتبر أكثر مخاطرة مقارنة بألمانيا التي تعد الملاذ الآمن في منطقة اليورو). وبحسب بيانات بلومبيرغ، وتوقعات وصول هذا الفارق إلى 100 نقطة أساس يعيد إلى الأذهان أجواء أزمة الديون الأوروبية عام 2012، عندما وصلت الفوارق بين السندات الألمانية ونظيراتها في دول الجنوب الأوروبي إلى مستويات قياسية هددت استقرار اليورو.
وتكمن خطورة هذا المؤشر في أنه لا يقتصر على رفع تكلفة الاقتراض الحكومي الفرنسي، بل ينعكس أيضاً على تكلفة التمويل للشركات الفرنسية، التي تضطر لدفع فوائد أعلى للاقتراض في ظل بيئة تتسم بانعدام اليقين. وبحسب “رويترز”، فإن هذا الوضع قد يضعف قدرة فرنسا على تنفيذ خطة الإصلاح المالي التي تستهدف خفض العجز إلى 4.6% من الناتج المحلي خلال العام المقبل، خصوصا مع ارتفاع فاتورة خدمة الدين العام الذي تجاوز 113% من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا استمر هذا الاتجاه، فإنّ الفارق مع ألمانيا قد يتحول إلى مؤشر إنذار مبكر على أزمة ثقة أوسع في منطقة اليورو، بخاصة أن فرنسا تعد ثاني أكبر اقتصاد في الكتلة الأوروبية وسابع أكبر اقتصاد على مستوى العالم.
بداية حريق مالي
وقالت صحيفة لوموند الفرنسية إن إعلان رئيس الوزراء فرانسوا بايرو عن تصويت الثقة في 8 أيلول/أيلول كان بمثابة صدمة جديدة للأسواق، إذ أعاد الاقتصاد إلى حالة من الشكوك وعدم اليقين بعد أشهر من محاولات الاستقرار. وأوضحت الصحيفة أن بورصة باريس تراجعت بشكل ملحوظ عقب الإعلان، بالتوازي مع ارتفاع متطلبات المستثمرين للعوائد على السندات الحكومية وهو ما يعكس تزايد المخاوف بشأن قدرة الحكومة على السيطرة على المالية العامة.
وأضافت الصحيفة أن وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية، المعروفة باسم بيرسي، اضطرت إلى التدخل بسرعة عبر تصريحات تهدئة ولقاءات مع المستثمرين الكبار، في محاولة لوقف ما وصفته بـ “بداية حريق مالي”. ويقصد بذلك أن حالة فقدان الثقة يمكن أن تمتد بسرعة إلى باقي القطاعات المالية، فتؤدي إلى ارتفاع تكلفة التمويل ليس فقط على الدولة، بل أيضاً على الشركات الخاصة. وأشارت “لوموند” إلى أن التجارب السابقة – مثل أزمة الديون الأوروبية عام 2012 -أظهرت أن مثل هذه الشرارات قد تنتشر سريعا عبر أسواق المنطقة، لتتحول من أزمة محلية إلى أزمة أوروبية أوسع.
وبحسب محللين نقلت عنهم الصحيفة، فإن استمرار حالة الغموض السياسي قد يدفع المستثمرين الدوليين إلى تقليص تعرضهم للأصول الفرنسية، سواء عبر خفض حيازاتهم من الأسهم المدرجة في المؤشر الرئيسي لبورصة باريس (CAC 40) أو عبر إعادة تسعير المخاطر في سوق السندات السيادية. وهذا السيناريو، وفق “لوموند”، من شأنه أن يقوض أي فرص لتعاف اقتصادي سريع في فرنسا، ويضع ضغوطا إضافية على منطقة اليورو ككل، ولا سيما إذا ما توسع الفارق مع السندات الألمانية إلى مستويات مقلقة.
ورغم أن المؤشر الرئيسي لبورصة باريس (CAC 40) تعافى بنسبة 0.4% بعد يومين من الخسائر، فإن المحللين يرون أن هذا الاستقرار مؤقت في ظل ترقب المستثمرين لتصويت الثقة الحاسم في 8 أيلول/أيلول، والذي قد يحدد ملامح السياسة المالية المقبلة. وبحسب “رويترز”، فإن حجم المخاطر الحالية لا يكمن فقط في احتمالية سقوط حكومة فرانسوا بايرو، بل في تأثير ذلك على ثقة المستثمرين، وتكلفة التمويل، وتدفقات رؤوس الأموال إلى فرنسا، ما يجعل ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو تحت مجهر الأسواق العالمية أكثر من أي وقت مضى.
تراجع خطير
تشير بيانات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا إلى أن استثمارات الشركات الفرنسية غير المالية (الشركات التي تنتج السلع والخدمات لكنها ليست مؤسسات مالية مثل البنوك) شهدت تباطؤاً ملحوظاً منذ انتخابات 2024 المبكرة، إذ انكمشت أو ظلت مستقرة في معظم الفصول الأربعة الأخيرة، ما يعني أنّ الاقتصاد الفرنسي خسر أحد أهم محركات النمو طويل الأجل، وهو الإنفاق الرأسمالي (الأموال التي تخصصها الشركات لتوسيع نشاطها أو شراء أصول جديدة).
وحذر باتريك مارتن، رئيس اتحاد أرباب العمل الفرنسي Medef (أكبر منظمة لتمثيل الشركات الفرنسية)، من أن الاستثمار في فرنسا يتراجع بشكل خطير، ما يضع البلاد في موقع متأخر مقارنة بمنافسيها الأوروبيين. ويأتي هذا التراجع في بيئة يتسم فيها النمو بالضعف (متوقع 0.7% فقط في 2025) مع عجز مالي مرتفع يبلغ 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب فايننشال تايمز، فإن استمرار هذا الاتجاه سيؤثر سلباً على معدلات التوظيف ويقلص من القدرة التنافسية للصناعة الفرنسية داخل السوق الأوروبية.
الخطر على اليورو
ويرى محللون، وفق تقارير إعلامية أوروبية، أنّ أزمة فرنسا تتجاوز حدود الاقتصاد المحلي لتتحول إلى تهديد استراتيجي لمستقبل اليورو، مؤكدين أن المعضلة الأساسية لا تكمن فقط في ارتفاع العجز أو زيادة كلفة التمويل، بل في صورة اليورو عملة احتياطية عالمية. فبحسب بيانات صندوق النقد الدولي يشكل اليورو نحو 20.5% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية في 2025، مقارنة بأكثر من 58% للدولار.، وهو ما يعني أن أي اهتزاز في ثاني أكبر اقتصاد داخل الكتلة من شأنه أن يضعف ثقة البنوك المركزية العالمية في العملة الأوروبية، ويعزز الميل نحو تنويع الاحتياطيات باتجاه الدولار أو حتى اليوان الصيني.
يُذكر أنّ دولاً مثل اليونان والبرتغال وأيرلندا كانت الحلقة الأضعف في أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو بين عامي 2010 و2012، بينما لعبت فرنسا دور الضامن إلى جانب ألمانيا. واليوم، ينعكس المشهد، ففرنسا نفسها أصبحت في مرمى الأسواق، حيث يدفع المستثمرون قسط مخاطرة أعلى للاحتفاظ بسنداتها مقارنة ببعض الاقتصادات الأصغر. وتظهر هذه المفارقة كيف تحولت الأزمة إلى تهديد هيكلي لـ”القلب” الأوروبي لا لأطرافه فقط، وهو ما يزيد من حساسية الأسواق تجاه أي مؤشرات سياسية أو مالية سلبية تصدر من باريس. وحذرت صحيفة لوموند من أن استمرار الغموض في باريس يضعف الموقف التفاوضي لبروكسل في الملفات الاستراتيجية، سواء تعلق الأمر بالطاقة أو بالسياسات الدفاعية، كما يضعف قدرة أوروبا على لعب دور مواز للولايات المتحدة في النظام المالي العالمي.
السيناريوهات المحتملة
وبحسب مسح أجرته “العربي الجديد” للتغطيات الاقتصادية الغربية للأزمة الفرنسية، أجمعت غالبية التقارير والتحليلات على أن الأزمة لم تعد مسألة سياسية فرنسية، بل أصبحت اختباراً جوهرياً لقدرة باريس على استعادة ثقة الأسواق وضبط ماليتها العامة. ومن خلال ما ورد بهذه التقارير والتحليلات، يمكن استخلاص ثلاثة مسارات رئيسية محتملة تشكل الإطار الأكثر ترجيحاً لفهم مستقبل الوضع: الأول يقوم على نجاح الحكومة في تمرير خطة الضبط المالي، والثاني على سقوطها وتشكيل حكومة ضعيفة، والثالث على الذهاب إلى انتخابات مبكرة بما تحمله من كلفة سياسية ومالية مرتفعة. هذه السيناريوهات لا تمثل توقعات يقينية، لكنها تقدم قراءة استشرافية استناداً إلى اتجاهات الأسواق وميزان القوى داخل البرلمان الفرنسي. ويمكن إيجاز هذه السيناريوهات الثلاثة المحتملة في ما يلي:
1- تمرير الثقة واستمرار خطة الضبط المالي
إذا نجحت حكومة فرانسوا بايرو في تمرير تصويت الثقة، فستكسب فرنسا مهلة زمنية لاستعادة جزء من المصداقية المالية. وسيؤدي هذا السيناريو إلى تراجع تدريجي في علاوة المخاطر على السندات السيادية الفرنسية واحتواء الفارق مع السندات الألمانية دون عتبة 100 نقطة أساس. وقد تستجيب الأسواق إيجاباً عبر خفض طفيف في تكاليف الاقتراض، مما يسهل إدارة الدين العام الذي يتجاوز 113% من الناتج المحلي. ومع ذلك، يبقى الأثر محدودا على المدى القصير نظراً لضعف مؤشرات الثقة الاقتصادية وتباطؤ النمو المتوقع عند 0.7% فقط في 2025. وهو ما يعني أن نتيجة حدوث هذا السيناريو تتمثل في حدوث “استقرار مالي نسبي دون تحسن جوهري في الاستثمار أو النمو”.
2- فشل التصويت وتشكيل حكومة جديدة ضعيفة
أما إذا فشلت الحكومة في كسب الثقة، فسيضطر الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء جديد يقود حكومة أقلية أو ائتلاف هش. ويعني هذا السيناريو إطالة أمد عدم اليقين، مع استمرار الضغوط على الأسواق، واتساع الفارق مع ألمانيا إلى نطاق 80 – 100 نقطة أساس. وفي غياب موازنة معتمدة، قد تتزايد المخاوف بشأن التصنيف الائتماني لفرنسا، وهو ما قد يرفع تكاليف الاقتراض للشركات ويضعف تدفقات الاستثمار الأجنبي. وستترتب على حدوث هذا السيناريو “ضبابية ممتدة تؤدي إلى ارتفاع فاتورة خدمة الدين وتراجع الاستثمار الخاص، مع خطر تخفيض محتمل للتصنيف الائتماني”.
3- حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة
السيناريو الأكثر كلفة يتمثل في حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة، ما يعني دخول فرنسا في فراغ سياسي يستمر لأسابيع وربما أشهر. وهذا الوضع عادة ما يؤدي إلى إعادة تسعير شامل للأصول الفرنسية، حيث يطالب المستثمرون بعوائد أعلى على السندات، وقد يتجاوز الفارق مع ألمانيا حاجز 100 نقطة أساس، وهو المستوى الذي حذرت منه شركة كارمينياك. وعند هذه النقطة، قد يجد البنك المركزي الأوروبي نفسه مضطرا إلى التلويح باستخدام أدوات غير تقليدية مثل برامج شراء السندات لدعم الاستقرار، أي أن حدوث هذا السيناريو سيترتب عليه اتساع فجوة المخاطر، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، وضعف جاذبية اليورو أمام الدولار واليوان.
ويرى خبراء أنّ شرارة التحدي تتجاوز باريس لتطاول الاتحاد الأوروبي ككل. فإذا اهتزت ثقة الأسواق في ثاني أكبر اقتصاد في الكتلة، فإنّ اليورو نفسه سيكون معرضاً لفقدان جزء من جاذبيته باعتباره عملة احتياطية عالمية، وهو ما شددت عليه “فاينانشال تايمز” باعتباره الخطر الأعمق للأزمة. ما ستكشفه الأسابيع المقبلة، بخاصة التصويت المقرر في 8 أيلول/أيلول المقبل، لن يحدد فقط مصير حكومة فرانسوا بايرو، بل قد يرسم ملامح العقد المقبل للاقتصاد الفرنسي ولمكانة الاتحاد الأوروبي في النظام المالي العالمي. والسؤال المفتوح يبقى: هل تملك فرنسا القدرة على كسر حلقة العجز والدين واستعادة ثقة الأسواق، أم أن أوروبا مقبلة على أزمة جديدة تنطلق من قلبها هذه المرة لا من أطرافها؟
by | Aug 28, 2025 | اقتصاد
تتصاعد المخاوف في الأوساط المالية العالمية من أن تتحول الأزمة السياسية في فرنسا إلى شرارة هزة اقتصادية جديدة داخل الاتحاد الأوروبي، بعدما انعكست حالة عدم اليقين السياسي داخل فرنسا، صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في القارة بعد ألمانيا، بشكل مباشر على أسواق المال والمؤشرات الكلية. فقد سجلت السندات الحكومية الفرنسية لأجل عشر سنوات عائداً يناهز 3.5%، وهو من أعلى المستويات في منطقة اليورو، بينما اتسع الفارق مع السندات الألمانية إلى 77 نقطة أساس. وتوقع محللون من شركة كارمينياك لإدارة الأصول أن يصل الفارق إلى 100 نقطة أساس إذا تصاعدت الأزمة، وهو مستوى لم يسجل منذ أزمة منطقة اليورو قبل أكثر من عقد.
ويعد اتساع الفارق بين العائد على السندات الحكومية الفرنسية ونظيرتها الألمانية، من أبرز مؤشرات القلق في الأسواق المالية الأوروبية، وهو ما يعرف في الأسواق باسم Spreads (الفارق في العائد الذي يطالب به المستثمرون مقابل الاحتفاظ بسندات دولة تعتبر أكثر مخاطرة مقارنة بألمانيا التي تعد الملاذ الآمن في منطقة اليورو). وبحسب بيانات بلومبيرغ، وتوقعات وصول هذا الفارق إلى 100 نقطة أساس يعيد إلى الأذهان أجواء أزمة الديون الأوروبية عام 2012، عندما وصلت الفوارق بين السندات الألمانية ونظيراتها في دول الجنوب الأوروبي إلى مستويات قياسية هددت استقرار اليورو.
وتكمن خطورة هذا المؤشر في أنه لا يقتصر على رفع تكلفة الاقتراض الحكومي الفرنسي، بل ينعكس أيضاً على تكلفة التمويل للشركات الفرنسية، التي تضطر لدفع فوائد أعلى للاقتراض في ظل بيئة تتسم بانعدام اليقين. وبحسب “رويترز”، فإن هذا الوضع قد يضعف قدرة فرنسا على تنفيذ خطة الإصلاح المالي التي تستهدف خفض العجز إلى 4.6% من الناتج المحلي خلال العام المقبل، خصوصا مع ارتفاع فاتورة خدمة الدين العام الذي تجاوز 113% من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا استمر هذا الاتجاه، فإنّ الفارق مع ألمانيا قد يتحول إلى مؤشر إنذار مبكر على أزمة ثقة أوسع في منطقة اليورو، بخاصة أن فرنسا تعد ثاني أكبر اقتصاد في الكتلة الأوروبية وسابع أكبر اقتصاد على مستوى العالم.
بداية حريق مالي
وقالت صحيفة لوموند الفرنسية إن إعلان رئيس الوزراء فرانسوا بايرو عن تصويت الثقة في 8 أيلول/أيلول كان بمثابة صدمة جديدة للأسواق، إذ أعاد الاقتصاد إلى حالة من الشكوك وعدم اليقين بعد أشهر من محاولات الاستقرار. وأوضحت الصحيفة أن بورصة باريس تراجعت بشكل ملحوظ عقب الإعلان، بالتوازي مع ارتفاع متطلبات المستثمرين للعوائد على السندات الحكومية وهو ما يعكس تزايد المخاوف بشأن قدرة الحكومة على السيطرة على المالية العامة.
وأضافت الصحيفة أن وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية، المعروفة باسم بيرسي، اضطرت إلى التدخل بسرعة عبر تصريحات تهدئة ولقاءات مع المستثمرين الكبار، في محاولة لوقف ما وصفته بـ “بداية حريق مالي”. ويقصد بذلك أن حالة فقدان الثقة يمكن أن تمتد بسرعة إلى باقي القطاعات المالية، فتؤدي إلى ارتفاع تكلفة التمويل ليس فقط على الدولة، بل أيضاً على الشركات الخاصة. وأشارت “لوموند” إلى أن التجارب السابقة – مثل أزمة الديون الأوروبية عام 2012 -أظهرت أن مثل هذه الشرارات قد تنتشر سريعا عبر أسواق المنطقة، لتتحول من أزمة محلية إلى أزمة أوروبية أوسع.
وبحسب محللين نقلت عنهم الصحيفة، فإن استمرار حالة الغموض السياسي قد يدفع المستثمرين الدوليين إلى تقليص تعرضهم للأصول الفرنسية، سواء عبر خفض حيازاتهم من الأسهم المدرجة في المؤشر الرئيسي لبورصة باريس (CAC 40) أو عبر إعادة تسعير المخاطر في سوق السندات السيادية. وهذا السيناريو، وفق “لوموند”، من شأنه أن يقوض أي فرص لتعاف اقتصادي سريع في فرنسا، ويضع ضغوطا إضافية على منطقة اليورو ككل، ولا سيما إذا ما توسع الفارق مع السندات الألمانية إلى مستويات مقلقة.
ورغم أن المؤشر الرئيسي لبورصة باريس (CAC 40) تعافى بنسبة 0.4% بعد يومين من الخسائر، فإن المحللين يرون أن هذا الاستقرار مؤقت في ظل ترقب المستثمرين لتصويت الثقة الحاسم في 8 أيلول/أيلول، والذي قد يحدد ملامح السياسة المالية المقبلة. وبحسب “رويترز”، فإن حجم المخاطر الحالية لا يكمن فقط في احتمالية سقوط حكومة فرانسوا بايرو، بل في تأثير ذلك على ثقة المستثمرين، وتكلفة التمويل، وتدفقات رؤوس الأموال إلى فرنسا، ما يجعل ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو تحت مجهر الأسواق العالمية أكثر من أي وقت مضى.
تراجع خطير
تشير بيانات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا إلى أن استثمارات الشركات الفرنسية غير المالية (الشركات التي تنتج السلع والخدمات لكنها ليست مؤسسات مالية مثل البنوك) شهدت تباطؤاً ملحوظاً منذ انتخابات 2024 المبكرة، إذ انكمشت أو ظلت مستقرة في معظم الفصول الأربعة الأخيرة، ما يعني أنّ الاقتصاد الفرنسي خسر أحد أهم محركات النمو طويل الأجل، وهو الإنفاق الرأسمالي (الأموال التي تخصصها الشركات لتوسيع نشاطها أو شراء أصول جديدة).
وحذر باتريك مارتن، رئيس اتحاد أرباب العمل الفرنسي Medef (أكبر منظمة لتمثيل الشركات الفرنسية)، من أن الاستثمار في فرنسا يتراجع بشكل خطير، ما يضع البلاد في موقع متأخر مقارنة بمنافسيها الأوروبيين. ويأتي هذا التراجع في بيئة يتسم فيها النمو بالضعف (متوقع 0.7% فقط في 2025) مع عجز مالي مرتفع يبلغ 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب فايننشال تايمز، فإن استمرار هذا الاتجاه سيؤثر سلباً على معدلات التوظيف ويقلص من القدرة التنافسية للصناعة الفرنسية داخل السوق الأوروبية.
الخطر على اليورو
ويرى محللون، وفق تقارير إعلامية أوروبية، أنّ أزمة فرنسا تتجاوز حدود الاقتصاد المحلي لتتحول إلى تهديد استراتيجي لمستقبل اليورو، مؤكدين أن المعضلة الأساسية لا تكمن فقط في ارتفاع العجز أو زيادة كلفة التمويل، بل في صورة اليورو عملة احتياطية عالمية. فبحسب بيانات صندوق النقد الدولي يشكل اليورو نحو 20.5% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية في 2025، مقارنة بأكثر من 58% للدولار.، وهو ما يعني أن أي اهتزاز في ثاني أكبر اقتصاد داخل الكتلة من شأنه أن يضعف ثقة البنوك المركزية العالمية في العملة الأوروبية، ويعزز الميل نحو تنويع الاحتياطيات باتجاه الدولار أو حتى اليوان الصيني.
يُذكر أنّ دولاً مثل اليونان والبرتغال وأيرلندا كانت الحلقة الأضعف في أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو بين عامي 2010 و2012، بينما لعبت فرنسا دور الضامن إلى جانب ألمانيا. واليوم، ينعكس المشهد، ففرنسا نفسها أصبحت في مرمى الأسواق، حيث يدفع المستثمرون قسط مخاطرة أعلى للاحتفاظ بسنداتها مقارنة ببعض الاقتصادات الأصغر. وتظهر هذه المفارقة كيف تحولت الأزمة إلى تهديد هيكلي لـ”القلب” الأوروبي لا لأطرافه فقط، وهو ما يزيد من حساسية الأسواق تجاه أي مؤشرات سياسية أو مالية سلبية تصدر من باريس. وحذرت صحيفة لوموند من أن استمرار الغموض في باريس يضعف الموقف التفاوضي لبروكسل في الملفات الاستراتيجية، سواء تعلق الأمر بالطاقة أو بالسياسات الدفاعية، كما يضعف قدرة أوروبا على لعب دور مواز للولايات المتحدة في النظام المالي العالمي.
السيناريوهات المحتملة
وبحسب مسح أجرته “العربي الجديد” للتغطيات الاقتصادية الغربية للأزمة الفرنسية، أجمعت غالبية التقارير والتحليلات على أن الأزمة لم تعد مسألة سياسية فرنسية، بل أصبحت اختباراً جوهرياً لقدرة باريس على استعادة ثقة الأسواق وضبط ماليتها العامة. ومن خلال ما ورد بهذه التقارير والتحليلات، يمكن استخلاص ثلاثة مسارات رئيسية محتملة تشكل الإطار الأكثر ترجيحاً لفهم مستقبل الوضع: الأول يقوم على نجاح الحكومة في تمرير خطة الضبط المالي، والثاني على سقوطها وتشكيل حكومة ضعيفة، والثالث على الذهاب إلى انتخابات مبكرة بما تحمله من كلفة سياسية ومالية مرتفعة. هذه السيناريوهات لا تمثل توقعات يقينية، لكنها تقدم قراءة استشرافية استناداً إلى اتجاهات الأسواق وميزان القوى داخل البرلمان الفرنسي. ويمكن إيجاز هذه السيناريوهات الثلاثة المحتملة في ما يلي:
1- تمرير الثقة واستمرار خطة الضبط المالي
إذا نجحت حكومة فرانسوا بايرو في تمرير تصويت الثقة، فستكسب فرنسا مهلة زمنية لاستعادة جزء من المصداقية المالية. وسيؤدي هذا السيناريو إلى تراجع تدريجي في علاوة المخاطر على السندات السيادية الفرنسية واحتواء الفارق مع السندات الألمانية دون عتبة 100 نقطة أساس. وقد تستجيب الأسواق إيجاباً عبر خفض طفيف في تكاليف الاقتراض، مما يسهل إدارة الدين العام الذي يتجاوز 113% من الناتج المحلي. ومع ذلك، يبقى الأثر محدودا على المدى القصير نظراً لضعف مؤشرات الثقة الاقتصادية وتباطؤ النمو المتوقع عند 0.7% فقط في 2025. وهو ما يعني أن نتيجة حدوث هذا السيناريو تتمثل في حدوث “استقرار مالي نسبي دون تحسن جوهري في الاستثمار أو النمو”.
2- فشل التصويت وتشكيل حكومة جديدة ضعيفة
أما إذا فشلت الحكومة في كسب الثقة، فسيضطر الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء جديد يقود حكومة أقلية أو ائتلاف هش. ويعني هذا السيناريو إطالة أمد عدم اليقين، مع استمرار الضغوط على الأسواق، واتساع الفارق مع ألمانيا إلى نطاق 80 – 100 نقطة أساس. وفي غياب موازنة معتمدة، قد تتزايد المخاوف بشأن التصنيف الائتماني لفرنسا، وهو ما قد يرفع تكاليف الاقتراض للشركات ويضعف تدفقات الاستثمار الأجنبي. وستترتب على حدوث هذا السيناريو “ضبابية ممتدة تؤدي إلى ارتفاع فاتورة خدمة الدين وتراجع الاستثمار الخاص، مع خطر تخفيض محتمل للتصنيف الائتماني”.
3- حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة
السيناريو الأكثر كلفة يتمثل في حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة، ما يعني دخول فرنسا في فراغ سياسي يستمر لأسابيع وربما أشهر. وهذا الوضع عادة ما يؤدي إلى إعادة تسعير شامل للأصول الفرنسية، حيث يطالب المستثمرون بعوائد أعلى على السندات، وقد يتجاوز الفارق مع ألمانيا حاجز 100 نقطة أساس، وهو المستوى الذي حذرت منه شركة كارمينياك. وعند هذه النقطة، قد يجد البنك المركزي الأوروبي نفسه مضطرا إلى التلويح باستخدام أدوات غير تقليدية مثل برامج شراء السندات لدعم الاستقرار، أي أن حدوث هذا السيناريو سيترتب عليه اتساع فجوة المخاطر، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، وضعف جاذبية اليورو أمام الدولار واليوان.
ويرى خبراء أنّ شرارة التحدي تتجاوز باريس لتطاول الاتحاد الأوروبي ككل. فإذا اهتزت ثقة الأسواق في ثاني أكبر اقتصاد في الكتلة، فإنّ اليورو نفسه سيكون معرضاً لفقدان جزء من جاذبيته باعتباره عملة احتياطية عالمية، وهو ما شددت عليه “فاينانشال تايمز” باعتباره الخطر الأعمق للأزمة. ما ستكشفه الأسابيع المقبلة، بخاصة التصويت المقرر في 8 أيلول/أيلول المقبل، لن يحدد فقط مصير حكومة فرانسوا بايرو، بل قد يرسم ملامح العقد المقبل للاقتصاد الفرنسي ولمكانة الاتحاد الأوروبي في النظام المالي العالمي. والسؤال المفتوح يبقى: هل تملك فرنسا القدرة على كسر حلقة العجز والدين واستعادة ثقة الأسواق، أم أن أوروبا مقبلة على أزمة جديدة تنطلق من قلبها هذه المرة لا من أطرافها؟
by | Aug 28, 2025 | اقتصاد
تتصاعد المخاوف في الأوساط المالية العالمية من أن تتحول الأزمة السياسية في فرنسا إلى شرارة هزة اقتصادية جديدة داخل الاتحاد الأوروبي، بعدما انعكست حالة عدم اليقين السياسي داخل فرنسا، صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في القارة بعد ألمانيا، بشكل مباشر على أسواق المال والمؤشرات الكلية. فقد سجلت السندات الحكومية الفرنسية لأجل عشر سنوات عائداً يناهز 3.5%، وهو من أعلى المستويات في منطقة اليورو، بينما اتسع الفارق مع السندات الألمانية إلى 77 نقطة أساس. وتوقع محللون من شركة كارمينياك لإدارة الأصول أن يصل الفارق إلى 100 نقطة أساس إذا تصاعدت الأزمة، وهو مستوى لم يسجل منذ أزمة منطقة اليورو قبل أكثر من عقد.
ويعد اتساع الفارق بين العائد على السندات الحكومية الفرنسية ونظيرتها الألمانية، من أبرز مؤشرات القلق في الأسواق المالية الأوروبية، وهو ما يعرف في الأسواق باسم Spreads (الفارق في العائد الذي يطالب به المستثمرون مقابل الاحتفاظ بسندات دولة تعتبر أكثر مخاطرة مقارنة بألمانيا التي تعد الملاذ الآمن في منطقة اليورو). وبحسب بيانات بلومبيرغ، وتوقعات وصول هذا الفارق إلى 100 نقطة أساس يعيد إلى الأذهان أجواء أزمة الديون الأوروبية عام 2012، عندما وصلت الفوارق بين السندات الألمانية ونظيراتها في دول الجنوب الأوروبي إلى مستويات قياسية هددت استقرار اليورو.
وتكمن خطورة هذا المؤشر في أنه لا يقتصر على رفع تكلفة الاقتراض الحكومي الفرنسي، بل ينعكس أيضاً على تكلفة التمويل للشركات الفرنسية، التي تضطر لدفع فوائد أعلى للاقتراض في ظل بيئة تتسم بانعدام اليقين. وبحسب “رويترز”، فإن هذا الوضع قد يضعف قدرة فرنسا على تنفيذ خطة الإصلاح المالي التي تستهدف خفض العجز إلى 4.6% من الناتج المحلي خلال العام المقبل، خصوصا مع ارتفاع فاتورة خدمة الدين العام الذي تجاوز 113% من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا استمر هذا الاتجاه، فإنّ الفارق مع ألمانيا قد يتحول إلى مؤشر إنذار مبكر على أزمة ثقة أوسع في منطقة اليورو، بخاصة أن فرنسا تعد ثاني أكبر اقتصاد في الكتلة الأوروبية وسابع أكبر اقتصاد على مستوى العالم.
بداية حريق مالي
وقالت صحيفة لوموند الفرنسية إن إعلان رئيس الوزراء فرانسوا بايرو عن تصويت الثقة في 8 أيلول/أيلول كان بمثابة صدمة جديدة للأسواق، إذ أعاد الاقتصاد إلى حالة من الشكوك وعدم اليقين بعد أشهر من محاولات الاستقرار. وأوضحت الصحيفة أن بورصة باريس تراجعت بشكل ملحوظ عقب الإعلان، بالتوازي مع ارتفاع متطلبات المستثمرين للعوائد على السندات الحكومية وهو ما يعكس تزايد المخاوف بشأن قدرة الحكومة على السيطرة على المالية العامة.
وأضافت الصحيفة أن وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية، المعروفة باسم بيرسي، اضطرت إلى التدخل بسرعة عبر تصريحات تهدئة ولقاءات مع المستثمرين الكبار، في محاولة لوقف ما وصفته بـ “بداية حريق مالي”. ويقصد بذلك أن حالة فقدان الثقة يمكن أن تمتد بسرعة إلى باقي القطاعات المالية، فتؤدي إلى ارتفاع تكلفة التمويل ليس فقط على الدولة، بل أيضاً على الشركات الخاصة. وأشارت “لوموند” إلى أن التجارب السابقة – مثل أزمة الديون الأوروبية عام 2012 -أظهرت أن مثل هذه الشرارات قد تنتشر سريعا عبر أسواق المنطقة، لتتحول من أزمة محلية إلى أزمة أوروبية أوسع.
وبحسب محللين نقلت عنهم الصحيفة، فإن استمرار حالة الغموض السياسي قد يدفع المستثمرين الدوليين إلى تقليص تعرضهم للأصول الفرنسية، سواء عبر خفض حيازاتهم من الأسهم المدرجة في المؤشر الرئيسي لبورصة باريس (CAC 40) أو عبر إعادة تسعير المخاطر في سوق السندات السيادية. وهذا السيناريو، وفق “لوموند”، من شأنه أن يقوض أي فرص لتعاف اقتصادي سريع في فرنسا، ويضع ضغوطا إضافية على منطقة اليورو ككل، ولا سيما إذا ما توسع الفارق مع السندات الألمانية إلى مستويات مقلقة.
ورغم أن المؤشر الرئيسي لبورصة باريس (CAC 40) تعافى بنسبة 0.4% بعد يومين من الخسائر، فإن المحللين يرون أن هذا الاستقرار مؤقت في ظل ترقب المستثمرين لتصويت الثقة الحاسم في 8 أيلول/أيلول، والذي قد يحدد ملامح السياسة المالية المقبلة. وبحسب “رويترز”، فإن حجم المخاطر الحالية لا يكمن فقط في احتمالية سقوط حكومة فرانسوا بايرو، بل في تأثير ذلك على ثقة المستثمرين، وتكلفة التمويل، وتدفقات رؤوس الأموال إلى فرنسا، ما يجعل ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو تحت مجهر الأسواق العالمية أكثر من أي وقت مضى.
تراجع خطير
تشير بيانات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا إلى أن استثمارات الشركات الفرنسية غير المالية (الشركات التي تنتج السلع والخدمات لكنها ليست مؤسسات مالية مثل البنوك) شهدت تباطؤاً ملحوظاً منذ انتخابات 2024 المبكرة، إذ انكمشت أو ظلت مستقرة في معظم الفصول الأربعة الأخيرة، ما يعني أنّ الاقتصاد الفرنسي خسر أحد أهم محركات النمو طويل الأجل، وهو الإنفاق الرأسمالي (الأموال التي تخصصها الشركات لتوسيع نشاطها أو شراء أصول جديدة).
وحذر باتريك مارتن، رئيس اتحاد أرباب العمل الفرنسي Medef (أكبر منظمة لتمثيل الشركات الفرنسية)، من أن الاستثمار في فرنسا يتراجع بشكل خطير، ما يضع البلاد في موقع متأخر مقارنة بمنافسيها الأوروبيين. ويأتي هذا التراجع في بيئة يتسم فيها النمو بالضعف (متوقع 0.7% فقط في 2025) مع عجز مالي مرتفع يبلغ 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب فايننشال تايمز، فإن استمرار هذا الاتجاه سيؤثر سلباً على معدلات التوظيف ويقلص من القدرة التنافسية للصناعة الفرنسية داخل السوق الأوروبية.
الخطر على اليورو
ويرى محللون، وفق تقارير إعلامية أوروبية، أنّ أزمة فرنسا تتجاوز حدود الاقتصاد المحلي لتتحول إلى تهديد استراتيجي لمستقبل اليورو، مؤكدين أن المعضلة الأساسية لا تكمن فقط في ارتفاع العجز أو زيادة كلفة التمويل، بل في صورة اليورو عملة احتياطية عالمية. فبحسب بيانات صندوق النقد الدولي يشكل اليورو نحو 20.5% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية في 2025، مقارنة بأكثر من 58% للدولار.، وهو ما يعني أن أي اهتزاز في ثاني أكبر اقتصاد داخل الكتلة من شأنه أن يضعف ثقة البنوك المركزية العالمية في العملة الأوروبية، ويعزز الميل نحو تنويع الاحتياطيات باتجاه الدولار أو حتى اليوان الصيني.
يُذكر أنّ دولاً مثل اليونان والبرتغال وأيرلندا كانت الحلقة الأضعف في أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو بين عامي 2010 و2012، بينما لعبت فرنسا دور الضامن إلى جانب ألمانيا. واليوم، ينعكس المشهد، ففرنسا نفسها أصبحت في مرمى الأسواق، حيث يدفع المستثمرون قسط مخاطرة أعلى للاحتفاظ بسنداتها مقارنة ببعض الاقتصادات الأصغر. وتظهر هذه المفارقة كيف تحولت الأزمة إلى تهديد هيكلي لـ”القلب” الأوروبي لا لأطرافه فقط، وهو ما يزيد من حساسية الأسواق تجاه أي مؤشرات سياسية أو مالية سلبية تصدر من باريس. وحذرت صحيفة لوموند من أن استمرار الغموض في باريس يضعف الموقف التفاوضي لبروكسل في الملفات الاستراتيجية، سواء تعلق الأمر بالطاقة أو بالسياسات الدفاعية، كما يضعف قدرة أوروبا على لعب دور مواز للولايات المتحدة في النظام المالي العالمي.
السيناريوهات المحتملة
وبحسب مسح أجرته “العربي الجديد” للتغطيات الاقتصادية الغربية للأزمة الفرنسية، أجمعت غالبية التقارير والتحليلات على أن الأزمة لم تعد مسألة سياسية فرنسية، بل أصبحت اختباراً جوهرياً لقدرة باريس على استعادة ثقة الأسواق وضبط ماليتها العامة. ومن خلال ما ورد بهذه التقارير والتحليلات، يمكن استخلاص ثلاثة مسارات رئيسية محتملة تشكل الإطار الأكثر ترجيحاً لفهم مستقبل الوضع: الأول يقوم على نجاح الحكومة في تمرير خطة الضبط المالي، والثاني على سقوطها وتشكيل حكومة ضعيفة، والثالث على الذهاب إلى انتخابات مبكرة بما تحمله من كلفة سياسية ومالية مرتفعة. هذه السيناريوهات لا تمثل توقعات يقينية، لكنها تقدم قراءة استشرافية استناداً إلى اتجاهات الأسواق وميزان القوى داخل البرلمان الفرنسي. ويمكن إيجاز هذه السيناريوهات الثلاثة المحتملة في ما يلي:
1- تمرير الثقة واستمرار خطة الضبط المالي
إذا نجحت حكومة فرانسوا بايرو في تمرير تصويت الثقة، فستكسب فرنسا مهلة زمنية لاستعادة جزء من المصداقية المالية. وسيؤدي هذا السيناريو إلى تراجع تدريجي في علاوة المخاطر على السندات السيادية الفرنسية واحتواء الفارق مع السندات الألمانية دون عتبة 100 نقطة أساس. وقد تستجيب الأسواق إيجاباً عبر خفض طفيف في تكاليف الاقتراض، مما يسهل إدارة الدين العام الذي يتجاوز 113% من الناتج المحلي. ومع ذلك، يبقى الأثر محدودا على المدى القصير نظراً لضعف مؤشرات الثقة الاقتصادية وتباطؤ النمو المتوقع عند 0.7% فقط في 2025. وهو ما يعني أن نتيجة حدوث هذا السيناريو تتمثل في حدوث “استقرار مالي نسبي دون تحسن جوهري في الاستثمار أو النمو”.
2- فشل التصويت وتشكيل حكومة جديدة ضعيفة
أما إذا فشلت الحكومة في كسب الثقة، فسيضطر الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء جديد يقود حكومة أقلية أو ائتلاف هش. ويعني هذا السيناريو إطالة أمد عدم اليقين، مع استمرار الضغوط على الأسواق، واتساع الفارق مع ألمانيا إلى نطاق 80 – 100 نقطة أساس. وفي غياب موازنة معتمدة، قد تتزايد المخاوف بشأن التصنيف الائتماني لفرنسا، وهو ما قد يرفع تكاليف الاقتراض للشركات ويضعف تدفقات الاستثمار الأجنبي. وستترتب على حدوث هذا السيناريو “ضبابية ممتدة تؤدي إلى ارتفاع فاتورة خدمة الدين وتراجع الاستثمار الخاص، مع خطر تخفيض محتمل للتصنيف الائتماني”.
3- حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة
السيناريو الأكثر كلفة يتمثل في حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة، ما يعني دخول فرنسا في فراغ سياسي يستمر لأسابيع وربما أشهر. وهذا الوضع عادة ما يؤدي إلى إعادة تسعير شامل للأصول الفرنسية، حيث يطالب المستثمرون بعوائد أعلى على السندات، وقد يتجاوز الفارق مع ألمانيا حاجز 100 نقطة أساس، وهو المستوى الذي حذرت منه شركة كارمينياك. وعند هذه النقطة، قد يجد البنك المركزي الأوروبي نفسه مضطرا إلى التلويح باستخدام أدوات غير تقليدية مثل برامج شراء السندات لدعم الاستقرار، أي أن حدوث هذا السيناريو سيترتب عليه اتساع فجوة المخاطر، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، وضعف جاذبية اليورو أمام الدولار واليوان.
ويرى خبراء أنّ شرارة التحدي تتجاوز باريس لتطاول الاتحاد الأوروبي ككل. فإذا اهتزت ثقة الأسواق في ثاني أكبر اقتصاد في الكتلة، فإنّ اليورو نفسه سيكون معرضاً لفقدان جزء من جاذبيته باعتباره عملة احتياطية عالمية، وهو ما شددت عليه “فاينانشال تايمز” باعتباره الخطر الأعمق للأزمة. ما ستكشفه الأسابيع المقبلة، بخاصة التصويت المقرر في 8 أيلول/أيلول المقبل، لن يحدد فقط مصير حكومة فرانسوا بايرو، بل قد يرسم ملامح العقد المقبل للاقتصاد الفرنسي ولمكانة الاتحاد الأوروبي في النظام المالي العالمي. والسؤال المفتوح يبقى: هل تملك فرنسا القدرة على كسر حلقة العجز والدين واستعادة ثقة الأسواق، أم أن أوروبا مقبلة على أزمة جديدة تنطلق من قلبها هذه المرة لا من أطرافها؟
by | Aug 28, 2025 | أخبار العالم
استردت الذاكرة الأوروبية الأسبوع الجاري مصطلحات مزعجة مثل الإفلاس والتعثر المالي والهشاشة الاقتصادية وانهيارات البورصات وتهاوي البنوك والشركات الكبرى، ومعها تهاوي التصنيف الائتماني لدول، وتفشي الغموض واللايقين وانعدام الثقة والركود والفقاعة العقارية.
والسبب ما يحدث في فرنسا هذه الأيام، والتي تصدرت أخبارها المشهد السياسي والاقتصادي، ليس داخل أوروبا فقط، بل في العالم، وباتت ذاكرة أسواق المال والبورصات الكبرى داخل القارة العجوز وغيرها تسترجع تلك الأزمات المالية التي مرت بها في سنوات سابقة، ومنها أزمة الديون السيادية الشهيرة في 2008، ومعها عادت مفردات مثل التدخل الطارئ لصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي للحيلولة دون حدوث انهيارات اقتصادات أوروبية، وتدخل دول كبرى مثل ألمانيا لعلاج مأزق تعثر دول مثل قبرص واليونان والبرتغال وأيرلندا وإسبانيا ولوكسمبورغ، والتي عجزت حكوماتها قبل سنوات عن سداد أعباء الديون.
باريس قد تفقد سيادتها إذا وجدت نفسها مهددة بالوصاية من قبل الدائنين
ببساطة أعاد المشهد السياسي الحالي في فرنسا تلك الذاكرة، وتذكرت المؤسسات المالية والإعلامية الكبرى في العالم أن هناك أزمة اقتصادية حادة في فرنسا، صاحبة ثاني أكبر قوة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي، والتي باتت تعاني من أزمة مالية واقتصادية هيكلية ساهمت فيها أزمات سياسية متتالية ومعقدة، وهناك تحذيرات متلاحقة حتى من ساسة أوروبيين وفرنسيين من أن باريس قد تفقد سيادتها إذا وجدت نفسها مهددة بالوصاية من قبل الدائنين وفي المقدمة صندوق النقد الدولي. بل إن وزير المالية الفرنسي إيريك لومبار، تحدث منتصف هذا الأسبوع عن خطر محتمل يتمثل في الحاجة إلى تدخل صندوق النقد إذا لم تُعالج فرنسا أوضاعها المالية المتردية.
فرنسا تمر بلحظات حرجة، مع اقتراب موعد 8 أيلول/أيلول المقبل، حيث يلوح في الأفق احتمال سقوط الحكومة مجدداً، ومع احتمال حدوث هذا الانقلاب، تتزايد المخاوف من اندلاع أزمة اقتصادية كبرى تُفاقمها الديون الضخمة، حيث يتوقع تجاوز الدين الحكومي أربعة تريليونات يورو (نحو 4.64 تريليونات دولار).
فرنسا ليست اليونان أو قبرص، لكنها في المقابل تعاني من أزمات هيكلية جوهرية
كما تزداد المخاوف من دخول الدولة في دوامة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، خاصة مع تفاقم أزمات الاختناق الضريبي وتآكل الطبقة الوسطى وقفزات الديون والتباطؤ المزمن للاقتصاد وتسارع الشيخوخة. والأخطر تصاعدت التوترات الاجتماعية والسياسية مؤخراً، إذ شهدت 2023 أكثر من 12 ألف مظاهرة بزيادة 18% عن 2022، وهو من الأعلى في أوروبا. إضافة إلى تراجع النفوذ الفرنسي في العالم، خاصة في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط رغم الخطوات الأخيرة في الملف الفلسطيني، ما انعكس على موقعها الاقتصادي.
نعم فرنسا ليست اليونان أو قبرص، لكنها في المقابل تعاني من أزمات هيكلية جوهرية يمكن أن تدخل البلاد في أزمات سياسية واقتصادية حادة، بل وفي حالة من الفوضى غير المسبوقة على المستوى الأوروبي.