by | Aug 28, 2025 | اقتصاد
في الأشهر الأخيرة، تسارعت وتيرة التغلغل الاقتصادي الصيني في أميركا اللاتينية، وتحديداً عبر البوابة البرازيلية، حيث باتت بكين تُعيد رسم خريطة نفوذها العالمي، من خلال الاستثمار المباشر والتعاون الصناعي، وسط أجواء من التوتر التجاري المتزايد بين البرازيل والولايات المتحدة.
في هذا السياق، أصبحت شركة السيارات الكهربائية الصينية العملاقة BYD رمزاً لتحول استراتيجي واسع النطاق، إذ بدأت تجميع سياراتها محلياً في البرازيل بجودة عالية، مستغلة الفرصة التي أتاحها القرار الأميركي الأخير بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على السيارات المستوردة من البرازيل. هذا التصعيد الأميركي، الذي جاء في ظل توترات داخلية مرتبطة بمحاكمة الرئيس السابق بولسونارو، أعاد توجيه بوصلة الاستثمار الصيني إلى داخل الاقتصاد البرازيلي، حيث وجدت بكين أرضاً خصبة للتوسع.
بحسب مؤشرات متخصصة في تتبع الاستثمار الصيني حول العالم، ارتفع حجم الاستثمارات المباشرة من الصين إلى البرازيل إلى 2.2 مليار دولار في النصف الأول من عام 2025، بزيادة قدرها 5% عن الفترة نفسها من العام الماضي. وهو ما وضع البرازيل في المرتبة الثانية عالمياً بوصفها أكبر مستقبل للاستثمارات الصينية، بعد إندونيسيا.
ويمتد هذا التوسع إلى مجالات متعددة، أبرزها:
• الطاقة المتجددة: تُعد البرازيل من الدول الرائدة عالمياً في الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة، إذ تُنتج حوالي 80% من كهربائها من مصادر متجددة. منذ عام 2007، نفذت الشركات الصينية 264 مشروعاً في هذا المجال داخل البرازيل، بقيمة تجاوزت 73 مليار دولار، شملت محطات كهرومائية وشمسية وطاقة الرياح.
• الصناعة والتحول الأخضر: أعلنت شركة Envision Energy الصينية عن مشروع مشترك مع البرازيل لإنتاج وقود الطائرات الحيوي من قصب السكر، باستثمار يفوق مليار دولار.
• الزراعة الذكية: تدخل الصين بقوة في الزراعة الدقيقة، عبر شراكات في التكنولوجيا الزراعية والطائرات المسيّرة، بما في ذلك التعاون مع شركة DJI الصينية الرائدة.
بدائل البرازيل في حرب الرسوم الجمركية
مع دخول الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة حيّز التنفيذ، تراجع موقف واشنطن في أعين صانعي القرار في برازيليا. فقد عبّرت الحكومة البرازيلية عن استيائها في منظمة التجارة العالمية، ولوّحت بإمكانية اللجوء إلى المحاكم الأميركية للطعن في القرار.
في الوقت ذاته، يُعيد الرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، تنشيط السياسة الخارجية الاقتصادية لبلاده، عبر تعزيز الروابط مع دول مجموعة البريكس، ومواصلة مفاوضات تجارية معلّقة مع الاتحاد الأوروبي وكندا، في وقت تُعد فيه الصين شريكاً أكثر مرونة وفعالية على أرض الواقع.
ولم تكن استجابة بكين لهذا الفراغ بطيئة. فعبر صندوق التعاون الصناعي الصيني-البرازيلي الذي تبلغ قيمته 20 مليار دولار، يجري تمويل مشاريع بنية تحتية رئيسية، من موانئ ومراكز بيانات إلى شبكات قطارات تربط الداخل الساحلي بالموانئ الحيوية، مثل ميناء سانتوس.
البرازيل بين واشنطن وبكين: توازن على خيط رفيع
بالتوازي مع التحولات السياسية والاقتصادية، كشفت استطلاعات الرأي الأخيرة في البرازيل عن تراجع حاد في النظرة الإيجابية تجاه الولايات المتحدة، حيث تضاعفت الآراء السلبية إلى 48%. في المقابل، ارتفعت النظرة الإيجابية للبرازيل تجاه الصين إلى 49%، في إشارة إلى تغيّر المزاج الشعبي الذي بات يرى في بكين شريكاً اقتصادياً أكثر استقراراً.
على الرغم من هذه التحولات، لا تزال الحكومة البرازيلية حريصة على عدم قطع شعرة العلاقات مع واشنطن. فقد دعا نائب الرئيس جيرالدو ألكمين، ورجال الدولة البرازيليون، رجال الأعمال الأميركيين إلى “الوساطة” لتخفيف التوتر، معتبرين أن “الضغط القضائي” على البرازيل بشأن قضايا داخلية، وعلى رأسها ملف بولسونارو، يُعد تدخلاً غير مقبول. لكن المستشار الرئاسي للشؤون الخارجية ماورو فييرا كان واضحاً حين قال: “سنُصرّ على فصل السياسة عن الاقتصاد. القضايا القضائية تخص محاكمنا، وليست جزءاً من أي مساومة تجارية”.
في نهاية المطاف، فإن الصين لا تزحف إلى أميركا اللاتينية بالسلاح أو عبر الجدل السياسي، بل عبر الاستثمار والإنتاج والتكنولوجيا. أما البرازيل، وهي القوة الصناعية الأكبر في جنوب القارة، فتجد نفسها في قلب هذا التحول الجيو-اقتصادي، مستثمرةً فرص التوتر الأميركي-الصيني لتعزيز موقعها. في المقابل، تخاطر واشنطن بخسارة حلفاء تاريخيين، ما لم تُدرك أن العالم يتغيّر… وأن الميزة التنافسية باتت تنتقل شرقاً، بخطى ثابتة.
by | Aug 28, 2025 | اقتصاد
قبل عقدين من الزمان تقريباً، كان محللو أميركا وخبراؤها السياسيون يراهنون على أنّ الصين، التي التحقت بمنظمة التجارة العالمية في 2001 وبدأت تبني النموذج الرأسمالي باطراد، ستصبح أشبه بالنموذج الأميركي قريباً. تحرّكت الصين بالفعل في فلك تلك التنبؤات لكنها قبل أن تكمل الطريق الرأسمالي التقت في 2025 الولايات المتحدة تسير في الطريق المعاكس، مقتربة من نموذج رأسمالية الدولة الصيني تحت قيادة دونالد ترامب
. تتزايد المخاوف في دوائر المال والأعمال الأميركية بسبب تدخل إدارة ترامب في سير السوق وشراء حصص من شركات ناجحة والتحكم في تدفق الاستثمارات والسعي للسيطرة على مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي)، وكلها علامات تناقض ما تردده أميركا عن نفسها “أرض الأحرار” حيث الربح هو الحافز الوحيد والحقيقي لتحقيق الأحلام، وحيث تظل الدولة مجرد منظم عادل لا يتدخل في الاقتصاد إلا إذا دعت الضرورة. فهل ما يعلنه ترامب من سياسات وإجراءات في الوقت الراهن يدفع في هذا الاتجاه؟
جاء أوضح تعبير عن هذه المخاوف، أول أمس الثلاثاء، على لسان الإذاعي الشهير، إريك إريكسون، أبرز المتحدثين باسم حركة “ماغا” “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً”، التي ابتكرها ترامب ضمن حملته الانتخابية لتعظيم مخاوف الأميركيين من العالم الذي “يستغلهم” واللعب على مشاعر التفوق القومي. إذ هاجم إريكسون وزير التجارة في إدارة ترامب هاورد لوتنيك، وحمّله مسؤولية إقناع الرئيس بسيطرة الحكومة الأميركية على 10% من أسهم شركة إنتل العملاقة لصناعة الرقائق، والسعي للسماح بالتحاق 600 ألف طالب صيني بالجامعات الأميركية. في رأي إريكسون، هذا هو “نموذج رأسمالية الدولة الذي يتبناه الحزب الشيوعي الصيني، وما يتبناه وزير التجارة أيضاً!”.
من المؤكد أنّ الدولة التدخلية، حسب النموذج الكينزي، ليست ظاهرة طارئة على الاقتصادات الغربية. فقد جادل الاقتصادي البريطاني جون كينز في عام 1938 بأنّ السوق لا تصحح نفسها دائماً، وأنّ على الدولة التدخل في أوقات الشدة والاختلالات. وقد فعلت الولايات المتحدة ذلك، تحت إدارة باراك أوباما، عندما تدخلت الحكومة لإنقاذ البنوك وشركات صناعة السيارات في الأزمة المالية 2007-2009، وهو ما فعلته بريطانيا تحت حكومة غوردون براون في الوقت نفسه بتدخلها لإنقاذ البنوك الخاصة من الإفلاس، وفعلته معظم الدول الرأسمالية أخيراً خلال جائحة كوفيد عندما ضمنت معظم القطاعات لكي تحافظ على القطاع الاقتصادي قائماً لحين انتهاء الجائحة، وهو ما حدث بالفعل. فلماذا الضجة الراهنة على تدخل إدارة ترامب في السياسات الاقتصادية؟
توظيف سطوة الدولة
بالنسبة إلى كثير من المنتقدين، لا تبدو إدارة ترامب حسنة النيات في تدخلها في الشأن الاقتصادي دون مبرر طارئ أو عاجل، ولا تعتمد على المبررات الكينزية التي تعرفها الرأسمالية في أوروبا، ومن ثم فإنّ التدخل حسبما يقولون، لأهداف سياسية بحتة، ويجعل من الحكومة أداة ترغيب وترهيب للقطاع المالي، وهو أمر يتناقض مع مفهوم الشركات “كوربريت” الذي يقوم على الليبرالية السوقية والابتكار.
منذ بداية فترته الثانية، بدا ترامب حريصاً على إخضاع رؤساء الشركات الكبرى، ربما أدرك تهافت تلك الشركات ومخاوفها من توجهه، عندما استقطب إيلون ماسك راعياً ينفق بسخاء على حملته الانتخابية ثم منحه منصباً حكومياً قبل أن يدب الخلاف بينهما، ثم برسائله المحذرة لعمالقة التكنولوجيا الذين حرصوا جميعاً على حضور حفل تنصيبه غير الرسمي في سابقة غير معروفة في الأوساط السياسية الأميركية. ومن ثم فالمبرر الأكثر واقعية، إخضاع بيئة الأعمال لنفوذ الرئيس وإدارته.
أمثلة كثيرة على هذا التدخل، بدءاً من هجوم ترامب على جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي لدفعه إلى الاستقالة أو خفض أسعار الفائدة، رغم أن البنك المركزي مؤسسة مستقلة، وحتى دعوته رئيس مجلس إدارة “إنتل” ليب بو تان إلى الاستقالة قبل أن تحصل الحكومة على حصة 10% من الشركة؛ ومشاركة الحكومة شركتي نفيديا وأدفانسد مايكرو ديفايسز 15% من مبيعات بعض الرقائق إلى الصين؛ والحصة الذهبية التي ستحصل عليها الحكومة في شركة “يو إس ستيل” شرطاً للسماح لشركة نيبون ستيل اليابانية بالاستحواذ عليها، وأخيراً تأكيد ترامب أنّ الاستثمارات التي وعد الشركاء التجاريون بضخها في الولايات المتحدة والتي يعتقد أن تصل قيمتها إلى 1.5 مليار دولار ستكون تحت إشرافه وتوجيهه مباشرة، إضافة إلى إعلان وزارة الدفاع عزمها الحصول على حصة 15% من شركة “إم بي ماتريريالز”، وهي شركة تعدين كبيرة متخصصة في عناصر الأرض النادرة.
فهل يعني ذلك أنّ الولايات المتحدة في ظل ترامب أصبحت أقرب إلى النموذجين، الصيني والروسي، حيث لا تكون الدولة حكماً عادلاً، بل أحياناً مكافئاً ومعاقباً، وهو نموذج عرفته منطقة الشرق الأوسط مراراً؟ يتفق الليبراليون والمحافظون على السواء في نقد توجهات ترامب تلك. إذ يكتب غريغ إب، أشهر معلقي “وول ستريت جورنال”، قائلاً إنّ الرئيس يقلّد النموذج الصيني، وهو يفرض السيطرة السياسية على الاقتصاد. ويرى إب أنّ النموذج الصيني الذي أثبت فعالية عالية على مدى العقود الماضية عندما اعتبرته بكين “رأسمالية بخصائص صينية”، يمكن أن يتحول في أميركا ترامب إلى “رأسمالية دولة” بخصائص أميركية، هو أمر يختلف تماماً عن الرأسمالية الأميركية واقتصاد السوق الذي قادته الولايات المتحدة عالمياً.
المعجبون بأداء الرئيس، أو صورة “القائد القوي” سيرون في سيطرة ترامب نوعاً من القدرة على الإنجاز وتجاوز العوائق البيروقراطية التي هي جزء، في أحيان كثيرة، من المداولات والمشاورات قبل اتخاذ القرار السليم، هكذا يعمل النموذج الصيني. كثير من الإنجازات القياسية في وقت محدود، ليس مهماً على حساب منْ، طالما أن الدولة رأت ذلك. والمهم أيضاً أنّ رأسمالية الصين تتحرك وفق تخطيط واسع من قيادات الحزب على مستوياتها المختلفة وضمن مفهوم مركزي لم يتعهد بعملية قرار ديمقراطية، في حين أن نموذج ترامب، حتى الآن، هو نموذج الرئيس الواحد الذي يتخذ قراراته كيفما يشاء دون أن يجد معارضة كبيرة في الدائرة المحيطة به، وغالباً بأوامر تنفيذية، متجاوزاً مبدأ الفصل بين السلطات (أحياناً أُعلِنَت الاتفاقات التجارية بمجرد المصافحة مع ممثل أو زعيم الجانب الآخر، لتُناقَش التفاصيل لاحقاً).
وتكشف صحيفة نيويورك تايمز الليبرالية عن خوف شائع بين الشركات والمؤسسات التي تلقت أو تتلقى دعماً حكومياً، تحسباً من تدخل الإدارة الأميركية للضغط عليها واستخلاص تنازلات منها (تكرار لما حدث مع إنتل). لكن البيت الأبيض يصرّ على أن الأمن القومي هو الدافع الفعلي وراء تدخله في قطاع الشركات، ويرفض الفكرة القائلة بأن الحصول على حصص في شركات حيوية يؤثر سلباً بحرية السوق.
وقد حصلت شركة إنتل على منحة تقارب 11 مليار دولار، هي جزء من قانون الرقائق (CHIPS Act)، وهو قانون تمت الموافقة عليه باتفاق الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) خلال إدارة جو بايدن، ويهدف إلى جعل الولايات المتحدة أقل اعتمادًا على آسيا في تصنيع أشباه الموصلات. وقد جادل وزير التجارة هاورد لوتنيك بأنّ الحصول على حصة في أسهم الشركة يمكّن دافعي الضرائب الأميركيين من الاستفادة من أي زيادة في قيمة “إنتل” نتيجة هذه المنحة.
وتقول “نيويورك تايمز” إنّ التصدي لمطالب ترامب يبدو أمراً يفوق قدرات الشركات، حتى الكبرى منها. ربما مثلت الضغوط التي آذارها ترامب، معززاً بقوة الدولة، على الجامعات الكبرى وإجبارها على الانصياع لمطالبه درساً تعلّم منه الجميع. ويقول مستشارون للشركات إنّ الخطة الحالية لتجنب تهديد استحواذ الحكومة على حصص أو فرض مطالب استثنائية عليها، تعتمد على الاستمرار في ما تقوم به الشركات بالفعل لتفادي الوقوع تحت مجهر ترامب؛ إزالة أي لغة تتعلق بالتنوع والإنصاف والشمول، وهي المصطلحات التي لا يفضلها ترامب، من المواقع الإلكترونية لهذه الشركات، والتوجه أكثر لزيارة الرئيس في البيت الأبيض.