هل تغيّر حركة” أكشن فلسطين” وعي الناخب البريطاني؟

هل تغيّر حركة” أكشن فلسطين” وعي الناخب البريطاني؟

تعيش المملكة المتحدة منذ بضع سنوات حالة من عدم الاستقرار غير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. يثير هذا التسلسل من الأحداث تساؤلات بشأن متانة النظام السياسي البريطاني، بعيداً من الصورة النمطية لـ “أم” الديمقراطية البرلمانية.

إنها امتحان للديمقراطية، ليس منذ “بريكست” (استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي) في عام 2016، عندما لم يتّخذ قرار الخروج من الاتحاد فقط 52% من الناخبين الذين شاركوا في التصويت، بل كان ذلك أيضاً ضد رأي أغلبية النواب في ذلك الوقت، وإنما من قبل، ولا يخفى على أحد اليوم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد التي أسّست لديمقراطية متينة وملهمة.

جرى الاحتفال في عام 2017 في بريطانيا بمئوية وعد بلفور بدعوة رئيس الوزراء البريطاني نظيره الإسرائيلي حينها، وهذا يمثل إنكاراً لقضية الشعب الفلسطيني والضرر الذي لحق بالفلسطينيين، ويعني رفض الاعتراف بوجود الأزمة الإنسانية ومعاناة الشعب الفلسطيني، ويؤكّد عدم الاكتراث بالمسؤولية الأخلاقية تجاه ما ارتكبت الحكومة البريطانية يوم أعلن هذا الوعد، وما زالت ماضية في عنجهيتها الاستعمارية من دون أي خجلٍ من تاريخها الاستعماري، بل هي ماضية في دعمها المطلق إسرائيل، ومستمرّة بنظرتها الدونية إلى الفلسطينيين، معتبرة الإسرائيليين متفوقين ثقافياً وعرقياً عليهم.

ما زالت بريطانيا تتكئ على ماضيها الاستعماري، وأنها “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”

ما يحصل اليوم في حرب إسرائيل على غزّة، وقد أوشكت على إكمال عامين من المآذارات الحربية ترقى في مجملها إلى المآذارات ضد الإنسانية، ولا يمكن إنكار وصفها تطهيراً عرقيّاً وإبادة جماعية، وفي عصر الإنترنت وانفتاح العالم على بعضه بعضاً، وعدم القدرة على إخفاء أي حدث أو معلومة، جعل معظم شعوب الكوكب يقفون أمام هذه الفظائع وقفة ضمير، بل سوف تفتح هذه الوحشية وتحدّي إسرائيل كل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية الباب، بل وفتحه في الواقع، أمام الشعوب من أجل إعادة قراءة التاريخ، ونبش المستور الذي حاولت القوة أن تخفيه بحبرها الأسود، لتكتب سرديّتها التي شكلت قاعدة لسياساتها منذ إعلان دولة إسرائيل في عام 1948.

الوعد الذي أرسله وزير خارجية المملكة المتحدة، آرثر بلفور، إلى ليونيل دي روتشيلد في 2 تشرين الثاني/ تشرين الثاني 1917، يتضمّن، في بنيته النصية، بذور صراع سيحكم مصير فلسطين والمنطقة كلها إلى أمد طويل، وما زالت عواقبه الكارثية تتوالد وتزداد دراماتيكية، طالباً من الحكومة البريطانية أن تبذل “كل ما في وسعها لتسهيل إقامة (وطن قومي) للشعب اليهودي”، لم ينصّ على كلمة “دولة”، ولا يشير إلى الفلسطينيين بأسمائهم، بل فقط إلى “المجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين”، بأن تُمنح “الحقوق المدنية والدينية” بدلاً من الحقوق الوطنية، علماً أن “السكان غير اليهود” في فلسطين كانوا يشكّلون ما يقرب من تسعة أعشار إجمالي السكان، وهم يعارضون البرنامج الصهيوني. لقد كانت الحركة الصهيونية منذ بداياتها تسعى وتعمل على استغلال الصور النمطية المعادية للسامية لتربطها برسالة يهودية دولية تسيطر بواسطتها على السياسة والتمويل العالمي.

هل تتّسع حركة العمل من أجل فلسطين ويزداد جمهورها ومؤيدوها لتشكل عنصر ضغط، وتغيّر مزاج الناخب البريطاني، وبالتالي، ترسم السياسات بعيداً من العادات والتقاليد والأعراف والثقافة التي سادت؟

على الرغم من الأزمات التي تعاني منها بريطانيا اليوم، ما زالت تتكئ على ماضيها الاستعماري، وأنها “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”، وعلى الرغم من دخول العالم الألفية الثالثة، واقترابه من عصر الذكاء الاصطناعي الذي يزرع الرهبة في نفوس البشرية والخوف من فقدان السيطرة على الإرادة والقرار، وعلى الرغم من كل المعاهدات الدولية وشرعة حقوق الإنسان، فإنها تُخرس الأصوات المعارضة سياساتها تجاه قضية عادلة، وتقمع الأصوات التي تناهض الظلم المطبق على الشعوب المستضعفة، حتى لو أنها تعرف في دخيلتها أنها على حقّ. هذا ما آذارته الحكومة البريطانية آخر مرّة السبت الماضي باعتقالها أكثر من أربعمئة متظاهر من أجل فلسطين وغزّة، من أجل وقف دعم بريطانيا حكومة نتنياهو وتزويدها بالسلاح في حربها الإبادة المستمرّة بوحشية متغولة منذ سنتين، متّهمة الحركة التي تنظم المظاهرات “العمل من أجل فلسطين” (فلسطين أكشن) بأنها منظمة إرهابية.

هذه الحركة التي تطالب بإدانة “التواطؤ البريطاني” مع دولة إسرائيل، خصوصاً فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة، أسّستها، في عام 2020 هدى عموري (31 عاماً)، المولودة في بولتون لأب فلسطيني وأم عراقية. وقد صرحت لمجلة بروسبكت العام الماضي أن جدها الكبير قُتل على يد البريطانيين خلال الثورة عام 1936 في فلسطين، فكيف لها أن تنسى ذاكرة شعب يناضل من أجل حقه بأرضه وبالحياة؟ اعتقل من أفرادها منذ تموز/ تموز الماضي نحو 1500 من المشاركين بالمظاهرات التي تنظمها. وسّنت الحكومة البريطانية قانون “إرهاب” خاص بهذه المجموعة، قد تصل سنوات الحبس بموجبه إلى 14 عاماً. لكن مئات الأشخاص تحدّوا المخاطر أمام البرلمان البريطاني، حاملين لافتات “أعارض الإبادة الجماعية. أساند حركة فلسطين”، منهم عدة شخصيات، مثل الشاعرة الفائزة بعدة جوائز أليس أوزوالد، والمؤيدون يزدادون باستمرار، ومنهم الكاتبة الأيرلندية سالي روني، المعروفة بشكل خاص بروايتها الرائجة “ناس عاديون”، صرّحت: “أدعم حركة فلسطين. وإذا كان هذا القرار يجعل مني داعمة للإرهاب، وفقاً للقوانين البريطانية، فلا بأس”. وأعلنت، 16 الشهر الماضي (آب/ آب) أنها ستخصص جزءاً من عائداتها لمجموعة “فلسطين أكشن” المؤيدة لفلسطين. “أعتزم استخدام هذه العائدات من عملي، وسمعتي بشكل أوسع، لدعم حركة فلسطين”.

إلى أي حد يجب أن تصل الحرب بالغزّيين كي يلبس النظام العالمي قناعاً، حتى لو كان مهلهلاً، يستر بها عورته المرسومة على وجهه

في رسالة مفتوحة نُشرت في 6 آب/ آب في صحيفة الغارديان، دعا 52 أكاديميّاً وكاتباً، منهم الفيلسوفتان جوديث بتلر وأنجيلا ديفيس، الحكومة إلى التراجع عن هذا القرار. هذه الخطوة “هجوم على كل من حركة الدعم لفلسطين والحرّيات الأساسية للتعبير، والجمع، والاجتماع، والتظاهر”، كما يدينون. وكتب 266 محامياً: “الخلط بين الاحتجاج والإرهاب هو العلامة المميّزة للأنظمة الاستبدادية. لقد أعلنت حكومتنا أنها ملتزمة باحترام سيادة القانون: وهذا يجب أن يشمل الحقّ في التظاهر”، وأن “اللجوء إلى قانون مكافحة الإرهاب لحظر مجموعة فلسطين أكشن من القيام بأفعالها يعتبر استخداماً مسيئاً لهذه التشريعات واعتداءً على حق التظاهر، ما يُحدِث سابقة خطيرة”. كذلك فإن صور الأشخاص الذين جرى اعتقالهم بالقوة لمجرد حملهم لافتات تحمل عبارة “أعارض الإبادة الجماعية، وأدعم عمل فلسطين”، التي جرى تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، ساهمت في إشعال ردة فعل غاضبة في البلاد. وعلى الرغم من هذا كله، ومن أن القرار أثار تساؤلاتٍ حتى في أروقة الأمم المتحدة، فوفقاً للمفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، يثير الحظر “قلقاً جادّاً بشأن تطبيق قوانين مكافحة الإرهاب على أفعال لا تعتبر إرهابية”، مذكرًا بأنه وفقاً للمعايير الدولية، يجب أن تقتصر الأفعال الإرهابية على الجرائم التي تهدف إلى إحداث الموت أو إصابات خطيرة، أو احتجاز الرهائن بغرض تخويف السكان أو إجبار حكومة ما. ولم يتسبّب نشطاء فلسطين أكشن في أي إصابات.” فإن الحكومة البريطانية ماضية في تنفيذ قرارها. فإلى أي حد يجب أن تصل الحرب بالغزّيين كي يلبس النظام العالمي قناعاً، حتى لو كان مهلهلاً، يستر بها عورته المرسومة على وجهه، ومنهم النظام البريطاني، الذي جدير به، انطلاقاً من الحد الأدنى من الأخلاق والإنسانية، الخجل من ماضيه الاستعماري الذي أدّى إلى الكوارث التي يعيشها أبناء غزّة وفلسطين عموماً، والتي انتقلت إلى سورية ولبنان واليمن على الطريق؟

تتمتّع المملكة المتحدة بدستور عرفي، بمعنى أنه يستند أساساً إلى العادات والتقاليد التي قد لا تكون مكتوبة بالضرورة. وبالتالي، وعلى قاعدة حركية التاريخ، وتطوّر الحضارة الإنسانية وتفتح وعي الشعوب، فإن العادات والتقاليد والضمير الجمعي لا تبقى كما هي، بل تتطوّر وتتغير وتفتح نوافذ جديدة على العالم كله، فهل تتّسع حركة العمل من أجل فلسطين ويزداد جمهورها ومؤيدوها لتشكل عنصر ضغط، وتغيّر مزاج الناخب البريطاني، وبالتالي، ترسم السياسات بعيداً من العادات والتقاليد والأعراف والثقافة التي سادت قبل الآن، وبقيت في العمق، مثل ميثاق الظل المتحكّم بالسياسة، ما يعيد للديمقراطية البريطانية وهجها وحيويتها كي تستعيد مكانتها “أم الديمقراطية” بحقّ، وتعتذر بريطانيا عمّا سبّبت للفلسطينيين؟ … هذا مرهون للزمن، لكن أطفال غزّة يموتون جوعاً، والزمن لا يبالي.

في ميناء أمستردام… ثمة بحارة يغنون

في ميناء أمستردام… ثمة بحارة يغنون

احتفاء بذكرى العصر الذهبي للبحرية الهولندية، العصر البطولي الذي ازدهرت فيه التجارة والفلسفة والعلوم، عصر رامبرانت، أقامت أمستردام في أواخر آب/ آب الماضي مهرجان الإبحار، الذي ينعقد مرة كل خمس سنوات. تصادف طبعته العاشرة هذا العام الذكرى 750 سنة لتأسيس العاصمة الهولندية.

أوغلت سفن الهولنديين بعيداً في البحار والمحيطات النائية. وكان لهم السبق في اكتشاف أراض لم تطأها قدم الرجل الأبيض من قبل. الرجل الأبيض الذي خرج فجأة من قمقمه في عصر النهضة، وغزا العالم. مضى بعيداً في الجغرافيات المجهولة. وكان الهولنديون في ذلك العصر قد امتد نفوذهم البحري تقريباً إلى جميع أصقاع الأرض.. فهم الذين اكتشفوا أستراليا وأسسوا مدينة نيويورك التي أطلقوا عليها أمستردام الجديدة، واحتلوا كوراساو في وسط أميركا وامتدت ممتلكاتهم ومصارفهم البحرية إلى البحر الكاريبي، وجزر الأنتيل. وأوغلوا في الشرق إلى إندونيسيا، و”تايوان الهولندية”، و”سريلانكا الهولندية”، و”جزر الملوك” (في ماليزيا حالياً)، بالإضافة إلى “مستعمرة كيب” في جنوب أفريقيا، ومستعمرة في الهند؛ وكذلك “السواحل الذهبية الهولندية” في غانا، والعديد من المواقع التجارية في مختلف أنحاء آسيا.

آه لهؤلاء الهولنديين سكان الماء! كما لو أن البحر عنصر أساسي من كيانهم الداخلي العميق.. 
 
كما لو أنهم حققوا كلمة فريدريك نيتشه في كتاب المعرفة السعيدة: ابنوا مدنكم على جبل فيزوف! أطلقوا سفنكم إلى بحار مجهولة!

رأيت سفينة عربية مفردة توحي بعوالم السندباد من عُمان

ودخلت السفن إلى القناة البحرية قادمة من الأقاليم الهولندية البعيدة، وخرج الأهالي إلى ميناء أمستردام القديم لاستقبال السفن التاريخية التي كانت تعبر من أمامنا لتتجمع قرب متحف البحر. نسخ جديدة لمراكب القرنين السابع والثامن عشر؛ سفن أبحرت من البيرو، ومن المكسيك، ومن الصين والنرويج وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد. شقت البحور بقوة الريح في أشرعتها. قال لي ضابط البحرية الأرجنتينية “أبحرنا من الأرجنتين إلى هنا، عبرنا المحيط الأطلسي ولم نشغل أبداً المحركات، اعتمدنا في تسيير السفينة على الرياح وأرهقنا كثيراً رفع وتحريك القلاع”. 

البحار العربي حاضر

جاء البحار العربي من عُمان للمشاركة في المهرجان، ولكن على سفينة صُنعت في رومانيا. وهذا لا يغمط للعُمانيين حقّهم في المجد.. ورغم ذلك لم يبق اليوم من ذكرى العصر البطولي للبحارة العرب الذين انطلقوا في القرن العاشر إلى الصين من موانئ سيراف، والعقير، والبصرة، سوى صورة باهتة. أين سفن السندباد الخيالية والحقيقية؟ ومن يتذكر التاجر سليمان الذي سبق أول القرن العاشر الميلادي ابن بطوطة وماركو بولو إلى الصين؟ وترك كتاباً ترجم إلى كل اللغات تقريباً. ومن يتذكر ابن ماجد؟ كان ابن ماجد يضع عناوين أدبية لكتبه العلمية منها كتاب “ثلاث أزهار”، وهو جدير أن يكون عنوان قصيدة شعرية.

يختلط الواقع بالحلم، لا لم تكن هناك سفن السندباد، ولكن كانت هناك سفينة عربية مفردة توحي بعوالم السندباد هي “شباب عُمان” أخذت مكانها بين أكثر من ثمانمائة سفينة ومركب تجمعت هنا، وحولت ميناء أمستردام القديم إلى غابة من الصواري والأشرعة المتداخلة حتى الأفق… سفن يزيد طولها على المئة متر وارتفاع صواريها إلى حوالي 95 متراً تخوض في البحار والمحيطات. هي نسخ حديثة لمراكب عصر الاكتشافات البحرية الأولى في القرنين السادس والسابع عشر، يوم قسم بابا روما الأرض في خط وهمي بين البرتغاليين والإسبان حتى يكفّا عن التصارع حول المستعمرات والأراضي التي يستوليان عليها. وكان أن ذهبت مراكب القراصنة البرتغاليين والإسبان أولاً ثم التجار الهولنديين والإنكليز لاكتشاف ونهب أراضي شعوب أفريقيا وآسيا والجزر النائية شرقاً وغرباً. وكانت تلك الموجة الاستعمارية الأولى.. رحلات تجارية وعسكرية قامت بها شركات الهند الشرقية الهولندية والفرنسية شرقاً وغرباً.

تحت شمس الظهيرة ذهبت وسط الجموع إلى شمال الميناء أبحث عن “آسكوا 2″، قارب المغني البلجيكي الأسطوري جاك بريل، الذي أبحر به من ميناء بروج في بلجيكا عابراً المحيطات حتى جزر الماركيز، ها هو يرسو وحيداً يا لسخرية الأقدار قرب بارجة عسكرية داكنة في مكان جانبي من ميناء أمستردام الذي غناه في قصيدته الذائعة: في ميناء أمستردام/ ثمة بحارة يغنون/ الأحلام التي تسكنهم.

أخذت صوراً للقارب، وبقيت أتأمل حياة جاك بريل الذي على خطى رامبو وفان غوخ هرب من بلجيكا، من أوروبا الباردة إلى جزر الماركيز ليموت هناك ويدفن في المقبرة البحرية على بعد أمتار من قبر الرسام بول غوغان.