by | Sep 2, 2025 | أخبار العالم
قرّرت الحكومة البريطانية (الجمعة الماضي) منع مسؤولين إسرائيليين من المشاركة في معرض الأسلحة الدولي (DSEI UK 2025)، الذي سيقام في لندن (9 – 12 أيلول/ أيلول الجاري). ما زالت الشركات الإسرائيلية الكبرى قادرةً على عرض منتجاتها، لكنّ لغياب وفد رسمي من جناح دولة الاحتلال دلالات سياسية ودبلوماسية، ولا يأتي القرار البريطاني بمعزل عن مشهد أوروبي أوسع يتدرّج من خطوات رمزية إلى إجراءات أكثر جذرية، تُترجم انتقادات متكرّرة لجرائم الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة أفعالاً دبلوماسية في مجالات التجارة والدفاع والتسليح. فهل يمكن للضغوط الأوروبية أن تغير فعلياً السلوك الإسرائيلي العسكري في قطاع غزّة؟
يبدو الموقف البريطاني في ظاهره متقدّماً، فحتى كتابة هذه السطور علّقت لندن نحو 30 رخصة تصدير من أصل 350 رخصة، وجمّدت محادثات تجارية ثنائية، وجاءت الخطوة أخيراً بإغلاق الباب أمام كبار المسؤولين الإسرائيليين في معرض السلاح الأكثر أهمية عالمياً. مع ذلك، يظلّ الضغط جزئياً إن أبقت لندن على استثناءٍ أساسي يتعلّق بمكوّنات برنامج F-35، المشروع المشترك بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، إذ قضت المحكمة العليا البريطانية (حزيران/ حزيران الماضي) بجواز استمرار التصدير، وهو استثناء يحفظ لإسرائيل شرياناً استراتيجياً لسلاحها الجوي. تحمل البيانات الرسمية البريطانية بعداً رمزياً من رفض التصعيد والمطالبة بوقف إطلاق النار إلى حديث عن ضرورة إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، لكنها لا تذهب أبعد إلى حدّ الحظر الشامل أو العقوبات الاقتصادية الأوسع، فترفع الدبلوماسية البريطانية الكلفة المعنوية والسياسية لكن من دون خطّة متكاملة لقطع سلاسل التوريد. كان الموقف الألماني أكثر تقدّماً حين أعلنت برلين (آب/ آب الماضي) وقف تصدير أسلحة إلى دولة الاحتلال، وهو ليس تفصيلاً بسيطاً حين نعلم أن ألمانيا تحتلّ المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة مورّدة للأسلحة إلى إسرائيل. وجاء القرار استجابةً لضغط من الرأي العام (أكثر من 70% من الألمان يريدون قيوداً مشدّدة على صادرات السلاح إلى إسرائيل، وثلثهم مع حظر كامل)، وفي وقت كانت فيه إسرائيل تتحضّر لتوسيع عملياتها في غزّة، ما يشير إلى أن برلين تريد مآذارة ضغط استثنائي ملموس لا الاكتفاء ببيانات قلق إنساني، لكن قرارها يركّز في الأسلحة التي يُحتمل استخدامُها في غزّة، من دون حظر شامل لصادرات الأسلحة. قرار مؤقّت حتى إشعار آخر.
اضطرت شركات إسرائيلية في معرض باريس للطيران (حزيران/ حزيران 2025) لإزالة أسلحة هجومية من أجنحتها (أُغلقت أخرى رفضت ذلك). إجراءات فرنسية ترتبط بالمعارض والفعّاليات لم تصبح سياسة ثابتة في التراخيص، ونقضت محاكم فرنسية قرارات حظر “دفاعية” مع إسرائيل، ما عكس تبايناً بين السلطتَين التنفيذية والقضائية، وبين المصالح التجارية واعتبارات السياسة، ما يجعل الموقف الفرنسي ضغطاً تكتيكياً متقطّعاً لا يعبّر عن توجّهات استراتيجية أصلية. وحده القضاء الهولندي لعب دوراً مهماً في احتكاك موقف لاهاي بسلاسل التوريد لمشروع F-35، حين أمر (شباط/ شباط 2024) بوقف تصدير قطع غيار تلك الطائرات إلى الاحتلال، لكن هولندا مورّداً وسوقاً للسلاح تأثيرها محدود إذا بقيت وحيدة في أوروبا، لكن مع إلغاء إسبانيا مبكّراً صادرات السلاح إلى إسرائيل، ولاحقاً بعض تراخيص الذخيرة (وكذلك إقليم فالونيا في بلجيكا)، ودفْع كلٍّ من أيرلندا وسلوفينيا ومالطا بالتشريعات التي تحظر التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية، ومع توجّهات أوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، تتعزّز الصورة بأن إسرائيل لم تعد تحظى بإجماع أوروبي داعم بلا تحفّظ.
يبدو الاتحاد الأوروبي مقيّداً بقانون “الموقف الأوروبي المشترك”، الذي يضع معاييرَ لتصدير السلاح، لكنّه يترك القرار لكل دولة على حدة، لكن تحديثات نيسان/ إبريل 2025، شدّدت على مراقبة “مخاطر ما بعد الشحن”، وزادت شفافية منح التراخيص، لكن ذلك يوفّر ضغوطاً في حدود المبادرات الوطنية بتأثير تكتيكي يرفع الكلفة ويبطئ سلاسل التوريد، لكنه استراتيجياً يبقى دون تغيير المعادلة العسكرية الإسرائيلية فعلياً، في غياب خطّة أوروبية موحّدة واستمرار التدفّق العسكري الأميركي بلا قيود تذكر، وهو ما يهم إسرائيل التي لا تعبأ ببيانات القلق الأوروبي، بل بخطواتها العملية الناجعة، لا سيّما بخصوص تدفّق السلاح. لو نجحت أوروبا في توحيد موقفها لربما أدركت إسرائيل أن حربها في غزّة (وتوسيعها) غير ممكنة من دون ثمن، وأن سلاسل التوريد لم تعد في مأمن من حسابات الأخلاق والسياسة… لكن الوقت (للأسف!) ليس في صالح غزّة.
by | Sep 1, 2025 | أخبار العالم
قالت الرابطة العالمية لعلماء الإبادة الجماعية، إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وذلك بعد تصويت لأعضاء الرابطة على قرار أيّده 86% من علماء الرابطة. وأصدرت الرابطة التي تضم 500 عالم مساء أمس بيانًا قالت فيه: “سياسات إسرائيل وأفعالها في غزة تفي بالتعريف القانوني للإبادة الجماعية المنصوص عليه في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقب عليها 1948″.
يدعو القرار، المكون من ثلاث صفحات، إسرائيل إلى “الوقف الفوري لجميع الأعمال التي تُشكل إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك الهجمات المتعمدة على المدنيين وقتلهم، بمن فيهم الأطفال؛ والتجويع؛ والحرمان من المساعدات الإنسانية والمياه والوقود وغيرها من المواد الأساسية لبقاء السكان؛ والعنف الجنسي والإنجابي؛ والتهجير القسري للسكان”. وينص القرار أيضًا على أن هجوم حماس على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول 2023 يُشكل جرائم دولية.
وقال إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: “يعزز هذا الموقف العلمي المرموق الأدلة والحقائق الموثقة المعروضة على المحاكم الدولية”. وأضاف أن القرار “يُلزم المجتمع الدولي قانونيًا وأخلاقيًا باتخاذ إجراءات عاجلة لوقف هذه الجريمة، وحماية المدنيين، ومحاسبة قادة الاحتلال”.
وأكدت الرابطة أن “تصرفات إسرائيل رداً على هجوم السابع من تشرين الأول واحتجاز الرهائن الذي تلاه لم تكن موجهة ضد جماعة حماس المسؤولة عن هذه الهجمات فحسب، بل استهدفت أيضاً سكان غزة بأكملهم”. وجاء في القرار: “الإقرار بأن إسرائيل قتلت أو جرحت أكثر من 50,000 طفل، وأن تدمير جزء كبير من هذه المجموعة يُعدّ إبادة جماعية” مستندين بذلك إلى إعلان التدخل المشترك في قضية غامبيا ضد ميانمار أمام محكمة العدل الدولية، الصادر عن ست دول هي كندا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة، والذي ينص على أن “الأطفال يُشكّلون جزءًا أساسيًا من المجموعات المحمية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وأن استهداف الأطفال يُشير إلى نية تدمير مجموعة بحد ذاتها، جزئيًا على الأقل. فالأطفال أساسيون لبقاء أي مجموعة بحد ذاتها، حيث إن التدمير المادي للمجموعة يكون مضمونًا عندما لا تتمكن من تجديد نفسها”.
وذكر قرار الرابطة الرائدة في مجال دراسات الإبادة الجماعية أن محكمة العدل الدولية وجدت في ثلاثة أوامر تدابير مؤقتة صادرة في قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل – في كانون الثاني وآذار وأيار 2024 – أنه من المعقول أن ترتكب إسرائيل إبادة جماعية في هجومها على غزة، وأمرت إسرائيل باتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، وضمان تقديم المساعدة الإنسانية للمدنيين في غزة. وخلص قرار العلماء إلى أن سياسات إسرائيل وأفعالها في غزة “تُشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما هو مُعرّف في القانون الإنساني الدولي ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”.
وطالبت الرابطة حكومة إسرائيل بالوقف الفوري لجميع الأعمال التي تُشكل إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك الهجمات المتعمدة على المدنيين وقتلهم، بمن فيهم الأطفال؛ والتجويع؛ والحرمان من المساعدات الإنسانية والمياه والوقود وغيرها من المواد الأساسية لبقاء السكان؛ والعنف الجنسي والإنجابي؛ والتهجير القسري للسكان.
كما طالبت حكومة إسرائيل بالامتثال لأوامر التدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية. ودعت الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية إلى الوفاء بالتزاماتها، والتعاون مع المحكمة، وتسليم أي فرد صدرت بحقه مذكرة توقيف. ودعت جميع الدول إلى السعي بنشاط إلى وضع سياسات تضمن احترام التزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية الإبادة الجماعية، ومعاهدة تجارة الأسلحة، والقانون الإنساني الدولي، في ما يتعلق بإسرائيل وفلسطين.
ومنذ تأسيسها عام 1994، أصدرت رابطة علماء الإبادة الجماعية تسعة قرارات تُقرّ بوقوع أحداث تاريخية أو مستمرة كجرائم إبادة جماعية، منها الإبادة الجماعية في أرمينيا، ورواندا، دارفور، سريبرنيتسا، والإبادة الجماعية للأيزيديين، ومجاعة هولودومور التي تسبب بها النظام السوفييتي في أوكرانيا.
وأصدرت عدة منظمات وجهات حقوقية دولية خلال العام الماضي، تقارير تفيد بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، منها منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، وانضمت الشهر الماضي منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسليم”. وكانت المقرر الأممية الخاصة لحقوق الإنسان فرانشيسكا ألبانيز من أوائل الشخصيات الدولية والأممية التي تحدثت عن ارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية في حربها على غزة. وأصدرت المحكمة قراراً أوليًا ضمن التدابير المؤقتة العام الماضي، أمرت فيه إسرائيل باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمنع وقوع أعمال الإبادة الجماعية، لكنها لم تصدر حكماً نهائيًا يؤكد وقوع الإبادة الجماعية، إذ إن القضية لا تزال قيد النظر ويُتوقع أن يصدر القرار النهائي فيها بحسب خبراء خلال عام إلى عامين.
by | Aug 30, 2025 | أخبار العالم
ارتبط الكيان الصهيوني، نشأة وتطوّرا، بالقوى الغربية المهيمنة على النظام الدولي. ولأن بريطانيا كانت تتولى قيادة النظام الدولي، حين ظهرت الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، كان من الطبيعي أن تلعب الدور الأهم في المرحلة التأسيسية للمشروع الصهيوني، وهو ما اتضح بجلاء حين اصدرت وعد بلفورعام 1917، ثم حين أصرّت على أن تصبح الدولة المنتدبة على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى التي انتهت بانهيار الإمبراطورية العثمانية. وحين بدأ الدور البريطاني في النظام العالمي يتراجع بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت مهمّة رعاية المشروع الصهيوني إلى الولايات المتحدة، وهو ما ظهر بوضوح إبّان مناقشة المسألة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، ثم بصورة أوضح منذ حرب 1967. ومع ذلك، ينبغي الانتباه إلى مسألة هامة، أن جميع القوى الفاعلة في النظام الدولي ثنائي القطبية، بما فيها الاتحاد السوفييتي نفسه، ظلّت، في مجملها، متعاطفةً مع المشروع الصهيوني في مراحل تطوّره الأولى، لأسبابٍ كثيرة، ربما كان أهمها المحرقة التي تعرّض لها اليهود في ظل الحكم النازي.
يرى كثيرون أن الكيان الصهيوني مجرّد أداة في يد القوى التي أوجدته، ما يعني عدم تمتّعه بأي قدر من الاستقلالية التي تتيح له هامشا ولو ضئيلاً للحركة خارج حدود الدور “الوظيفي” المرسوم له، غير أن هذه الرؤية ليست دقيقة تماماً، رغم استنادها إلى شواهد تضفي عليها قدراً كبيراً من المصداقية، فالسياسة الخارجية للكيان ظلت، ومنذ اللحظة الأولى لتأسيسه، محكومةً بعاملين رئيسيين: الأول، إحساس طاغ بأنه يواجه تهديداً وجودياً يدفعه إلى الاعتماد على قواه وقدراته الذاتية، بصرف النظر عن طبيعة (وعمق) تحالفاته مع القوى الدولية التي أوجدته. الثاني: حاجة ملحّة للتوسّع خارج الحدود المعترف بها دوليا، من منطلق إيمانه الراسخ بأنه ما زال مشروعا في طور التكوين لم يصل إلى غاياته النهائية بعد، تحتّم عليه أن يسعى، بشكل دائم، إلى ضبط إيقاع طموحاته الخارجية مع مصالح القوى العالمية الداعمة له. ولأن قصة الكيان الصهيوني مع السلاح النووي تلقي أضواء ساطعة على شكل (وطبيعة) العلاقة التي تربطه بالقوى المهيمنة على النظام الدولي، فربما من المفيد أن يُشار هنا إلى بعض أبعادها المثيرة.
لم يُعرف عن رئيس الوزراء المؤسس، بن غوريون، انشغاله بقضيةٍ تعادل حرصه على امتلاك الكيان السلاح النووي في أسرع وقت ممكن. صحيحٌ أنه خرج منتصراً من حربه الأولى مع الدول العربية المجاورة (1948 – 1949)، بل وتمكّن خلالها من توسيع مساحته الأصلية بأكثر من 50%، إلا أنه خرج منها مقتنعاً بأن الكيان يواجه تهديداً وجودياً لا سبيل للتغلب عليه إلا بامتلاك السلاح النووي، ما يفسّر حرصه على التواصل المبكّر مع علماء الذرة اليهود في مختلف أنحاء العالم، وقراره إنشاء هيئة للطاقة الذرية عام 1952. ولأن الولايات المتحدة بدت، في ذلك الوقت، مشغولةً بالترتيبات التي تتيح لها محاصرة الاتحاد السوفييتي، فقد سعى بن غوريون إلى توثيق العلاقة مع قوى الاستعمار التقليدي، وبالذات مع فرنسا التي كانت في صراع حاد مع نظام جمال عبد الناصر في مصر، بسبب دعمه القوي الثورة الجزائرية، والتي زوّدته بالفعل عام 1957 بأول مفاعل نووي كبير جرى تركيبه في منطقة ديمونة.
حين بدأ الدور البريطاني في النظام العالمي يتراجع بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت مهمّة رعاية المشروع الصهيوني إلى الولايات المتحدة
رغم كل الإجراءات الاحترازية التي اتُّخذت لضمان سرّية البرنامج النووي للكيان، إلا أنه سرعان ما تكشّف أنه برنامج تسليحي وليس سلمياً، ومن ثم بدأ يتعرّض لضغوط أميركية، خصوصا بعد وصول كيندي إلى السلطة، بل وراحت هذه الضغوط تتصاعد إلى درجة دفعت بن غوريون إلى تقديم استقالته في حزيران/ حزيران عام 1963. وجاء اغتيال كينيدي (22 تشرين الثاني/ تشرين الثاني 1963) بعد شهور قليلة من تسلم بن غوريون منه خطاباً شديد اللهجة لإخضاع مفاعل ديمونة للتفتيش وإلا تعرّض الكيان لعقوبات. ثم راح البرنامج النووي الإسرائيلي يتطوّر بمعدّلات متسارعة منذ ذلك الوقت، إلى درجة أن الكيان أصبح قادراً على تجهيز قنبلة بدائية قابلة للاستخدام الفعلي، حين بدأت رياح الحرب تهبّ على المنطقة قبيل منتصف 1967، وبدأ يفكّر في وضع استراتيجية هدم المعبد على من فيه، المعروفة باسم “خيار شمشون” (راجع كتاب سيمور هيرش “خيار شمشون … إسرائيل وأميركا والقنبلة”، 1991). … صحيحٌ أن مسار حرب 1967 أكّد عدم الحاجة لاستخدام السلاح النووي، بعد أن تحقّق بالسلاح التقليدي ما فاق أكثر طموحات الكيان جنوحاً، إلا أن هذه الحرب شكّلت نقطة تحوّل كبرى في طبيعة العلاقة الاستراتيجية التي بدأت تربط الكيان بالولايات المتحدة فحسب، خصوصاً وأن الأخيرة بدأت تتعامل مع الكيان، منذ ذلك الوقت، باعتباره قوة نووية بحكم الأمر الواقع، ومرغوبا فيها. فعلى الصعيد الاستراتيجي، أدّى الانتصار الضخم الذي تحقق على عدة دول عربية إلى تغيير رؤية الولايات المتحدة الكيان أداةً لا غنى عنها في مكافحة تمدّد النفوذ السوفييتي في المنطقة. وبعد أن كانت حريصةَ قبل الحرب على عدم الظهور بمظهر المورّد المباشر للسلاح إلى الكيان، مراعاةً لمشاعر الدول العربية الحليفة، أصبحت تتفاخر علناً بعدها بأنها أكبر مورّد للسلاح إلى الكيان وأكثر الدول حرصاً على ضمان تفوّقه العسكري على كل الدول العربية مجتمعة. وقد التزمت جميع الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية منها والديمقراطية، بهذه الاستراتيجية، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي.
وعلى صعيد الانتشار النووي، عقد الرئيس الأميركي، نيكسون، لقاء سرّيا مع رئيسة وزراء إسرائيل في حينه، غولدا مائير، في أيلول/ أيلول 1969، جرى فيه اعتماد استراتيجية “التعتيم النووي” التي تعني موافقة الولايات المتحدة على عدم عرقلة مسيرة البرنامج النووي للكيان، رغم علمه التام ببعده التسليحي وإصراره على مراكمة المعارف النووية التي تسمح له بتصنيع كل ما يستطيع من رؤوس نووية، وعدم مآذارة أي ضغوط لحمله على الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي أو استقبال خبراء أميركيين للتفتيش على المفاعلات النووية التي راحت أعدادُها تتزايد باضطراد، مقابل التزام الكيان بعدم التصريح علنا بامتلاكه السلاح النووي، وأيضاً بعدم إجراء تجارب نووية يمكن رصدها. وفي حين التزمت الإدارات الأميركية المتعاقبة بهذا الاتفاق غير المكتوب التزاماً صارماً، لم يتردّد الكيان الصهيوني في انتهاكه بطرق وأشكال مختلفة، حين اقتضت مصالحه ذلك، بدليل إقدامه على التعاون مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى حد الإقدام على إجراء تفجير نووي مشترك. بل وصلت به الجرأة إلى حد الإقدام على سرقة يورانيوم عالي التخصيب من الولايات المتحدة نفسها (حادث منشأة “أبولو” في بنسلفانيا). وفي ظلّ “ميثاق الصمت” الذي ترسخ بين هذين البلدين المتواطئين، أعطى الكيان لنفسه حرية العمل العسكري في مواجهة أي دولة في المنطقة تسعى إلى تأسيس برنامج نووي لديها، حتى ولو كان سلمي الطابع، بدءا بالعراق مروراً بسورية وليس انتهاء بإيران. بل وصل التواطؤ بين البلدين إلى حد إقدام الولايات المتحدة على المشاركة مع الكيان في هجوم مسلح على المنشآت النووية الإيرانية، رغم أن لإيران الحقّ في تخصيب اليورانيوم على أراضيها لاستخدامه في الأغراض السلمية، باعتبارها طرفاً في معاهدة حظر الانتشار النووي.
رغم كل الإجراءات الاحترازية التي اتُّخذت لضمان سرّية البرنامج النووي للكيان، إلا أنه سرعان ما تكشّف أنه برنامج تسليحي وليس سلمياً
لم تكن العلاقات المتنامية بين الولايات المتحدة والكيان، والتي راحت تزداد التصاقاً قبيل حرب 1967 وإبّانها وعقبها إلى أن وصلت إلى ما هي عليه، مدفوعة فحسب بالرغبة المشتركة في التصدّي للمد السوفييتي في المنطقة، لأن الأمر لو كان كذلك لبدأ التحالف العضوي بين البلدين في التصدّع عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، فهناك عوامل أخرى كثيرة ساعدت على تغلغل مقولةٍ راحت تترسخ بسرعة لدى الرأي العام الأميركي، مفادها أن كل ما يفيد الكيان الصهيوني يحقّق مصلحة أميركية بالضرورة، منها: قوة اللوبي الصهيوني المتغلل في كل مراكز صنع القرار الأميركي، انتشار “المسيحية الصهيونية” في الأوساط البروتستانتية، تصاعد نفوذ اليمين بمختلف روافده السياسية والأيديولوجية. وقد أصبح الكيان الصهيوني المستفيد الأول من هذا التطور النوعي في طبيعة العلاقة، استغله نتنياهو أسوأ استغلال، بنجاحه في تخريب اتفاقية أوسلو وإجهاص كل الفرص التي أتيجت لنزع فتيل الصراع الممتدّ في منطقة الشرق الأوسط، إلى أن وصلنا إلى “طوفان الأقصى” الذي استغله لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً وإقامة إسرائيل الكبرى، متسلّحا باستراتيجية “خيار شمشون”، المعتمدة من كل من تعاقب على حكم الكيان منذ حرب 1967، ما يضع الولايات المتحدة في مأزقٍ يصعُب الفكاك منه.
كان بمقدور الولايات المتحدة تبرير التحامها العضوي بكيان قابل للتسويق “واحة للديمقراطية في صحراء الاستبداد العربي” و”ضحية للمحرقة النازية”. أما وقد سقط القناع وظهر الوجه الحقيقي لكيانٍ لا يتورّع عن منع الحليب عن الأطفال، وقتل وجرح مئات آلاف من المدنين، والتجويع الممنهج للملايين من البشر المحاصرين، وتدمير المستشفيات والمدارس والمخيمات، واغتيال الصحافيين والإعلاميين، فلم يعد أمام الولايات المتحدة أي مبرّر لحمايته والدفاع عنه والتغاضي عن جرائمه ضد الإنسانية. لذا من الطبيعي أن ينظر الرأي العام العالمي إلى الولايات المتحدة، التي ما تزال تهيمن منفردة على النظام الدولي، باعتبارها الفاعل الأصلي والمجرم الذي يستحق العقاب، خصوصاً في مرحلةٍ يتجه فيها هذا النظام نحو تعدّدية قطبية ترفض الهيمنة المنفردة من حيث المبدأ. ولأن الكيان الصهيوني هو الإفراز الطبيعي للأيديولوجيا الصهيونية، ببعديها التوسعي والعنصري، لن يكون بمقدور النظام الدولي الراهن أن يتحوّل إلى نظام متعدّد الأقطاب إلا بعد هزيمة هذه الأيديولوجيا التي أصبحت مرادفاً للإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري و”الهولوكوست الفلسطيني”. تلك هي الحقيقة التي ينبغي أن تدركها كل القوى الطامحة إلى تأسيس نظام دولي متعدّد القطبية، خصوصاً روسيا والصين والهند والبرازيل.
by | Aug 29, 2025 | أخبار العالم
منذ بدء العملية العسكرية العدوانية في غزّة “عربات جدعون” في مطلع أيار/ أيار الماضي، يسجّل عداد القتل الإسرائيلي، يومياً، من خمسين إلى مائة شهيد فلسطيني. أما عدد القتلى الفلسطينيين منذ السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول (2023) فقد تجاوز 62 ألف شهيد، ناهيك عن المفقودين ومئات آلاف الجرحى.
نتسمّر أمام شاشات التلفاز، نتابع المشاهد المأساوية للغزّيين، قصفهم، قتلهم، معارك بحثهم عن الطعام. نسمع استغاثتهم، نرى أجساداً نحيلةً منهكةً من شدّة الجوع، ثم نقلب المحطة ونتابع حياتنا اليومية. … هل هذا أمرٌ عادي؟ هل “تمسحنا”؟
الطبيعي أن يشعر الانسان بمُصاب أخيه الإنسان، أن يتضامن مع الضحايا، ويفعل ما يستطيع من أجلهم. … قد يسأل أحدهم سؤالاً محقّاً: لماذا كل هذا الاهتمام بالضحايا الفلسطينيين، على الرغم من وجود ضحايا كثر في أكثر من مكان في هذا العالم؟ ليس هناك أي مبرّر لكل من يعتبر نفسه إنساناً في هذا العالم لعدم التضامن والتعاطف مع الضحايا والمظلومين، بغضّ النظر عن جنسيتهم أو لونهم أو جنسهم. لكن مستويات الفعل التضامني تختلف تبعاً لعوامل عدّة، كأن يكون، على سبيل المثال، الضحايا هم شعبك، وقضيتهم هي قضيتك، والأحداث تجري في منطقتك، أو في بلدك (هذا ما يفسّر التضامن مع ضحايا المجازر، وإدانة الانتهاكات التي حصلت في سورية بحقّ المدنيين في منطقة الساحل ومدينة السويداء، والتي ساهمت الفيديوهات المسرّبة في كشفها)، أو تكون القضية التي يسقط بسببها الضحايا قد تحوّلت، بسبب من عدالتها وإنسانيتها، إلى شأن عالمي، كما هو الحال مع قضية الشعب الفلسطيني. ثم إن المسألة تختلف كثيراً عندما يكون ضحايا حربٍ ما، جلهم من المدنيين، بمن فيهم من كوادر طبية وصحافيين، كما هو الحال مع العدوان الإسرائيلي على غزّة، مقارنة مع ضحايا حرب أخرى، معظمهم من العسكريين المتقاتلين، كما هو الحال في الحرب الروسية الأوكرانية. هنا نأتي إلى عاملٍ على درجةٍ كبيرة من التأثير، وهو دور وسائل الإعلام، ولا سيما المرئية منها. فربما هي المرّة الأولى في تاريخ الصراعات والحروب في العالم التي يرى فيها العالم، وعلى الهواء مباشرة، هذا المستوى من الإجرام والبشاعة. بالصوت والصورة، تنقل وسائل الإعلام ما يتعرّض له قطاع غزّة من حرب إبادة جماعية على يد الجيش الإسرائيلي. ونشاهد بأم العين كيف يموت الأطفال جوعاً، وكيف يقصف هذا الجيش الإرهابي اللاأخلاقي المستشفيات وسيارات الإسعاف ويغتال الكوادر الطبية. لذلك، ومن أجل طمس الحقائق، لم تتوقّف إسرائيل عن استهداف وسائل الإعلام والصحافيين منذ بداية عدوانها، حيث قتلت إسرائيل في غزّة 246 صحافياً، ويتجاوز هذا العدد من قتلوا من أهل الإعلام في الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حروب.
شيئاً فشيئاً، وبالتدريج، بدأنا نألف صور المجازر الإسرائيلية
أمام هول ما نرى ونسمع، ربما علينا ألا نأكل، لأن هناك في غزّة من يموت جوعاً. وألا نشرب، لأن هناك في غزّة من يشرب مياه الصرف الصحي. وألا ننام، لأن هناك في غزّة من لا يستطيع النوم بسبب القصف أو البرد أو الحر القاسي. لكننا، في واقع الأمر، نأكل ونشرب وننام، ونتابع حياتنا اليومية الاعتيادية؟ كيف نستطيع القيام بذلك؟ هل “تمْسحنا”؟
كانت المشاهد الأولى لحرب الإبادة التي بدأتها إسرائيل بعد “7 تشرين الأول” كفيلة بتحريك مشاعر ملايين البشر الذين اندفعوا إلى الشوارع للتظاهر من أجل وقف الحرب الإسرائيلية الهمجية بحق الفلسطينيين في غزّة. استمرت التظاهرات واتسعت وتصاعد زخمها. لم يتعب المتظاهرون ولم يكلوا أكثر من عام من حرب الإبادة. لكن إحباطاً من عدم قدرتهم على وقف هذه الحرب المجنونة قد بدأ بالتسلّل إلى نفوس المتظاهرين، فتراجعت أعدادهم، ولم تعد التظاهرات تخرج كل أسبوع، بل توقفت في مدنٍ عديدة.
الخلاص من مشاعر العجز يتطلب إنجازاً يتحقّق على الأرض، أي أن تتوقّف الحرب
شيئاً فشيئاً، وبالتدريج، بدأنا نألف صور المجازر الإسرائيلية. وبعد أن كان سقوط عشرات الضحايا يزلزل أعماقنا ويفجّر غضبنا، بات ما يحرّكنا المجازر الكبيرة وسقوط مئات الضحايا. … على مدار ساعات، كنّا نتنقل بين المحطّات الإخبارية لمتابعة ما يجري في غزّة. أما الآن، فإننا نهرب مما نراه على الشاشات من مشاهد وحشية ولاإنسانية، لأنه يذكّرنا بعجزنا وبفشلنا في إيقاف الحرب وإنقاذ الغزّيين.
لقد ساهم التظاهر في الشوارع والصراخ والهتاف في تفريغ مشاعر القهر والغضب، لكن الخلاص من مشاعر العجز يتطلب إنجازاً يتحقّق على الأرض. أي أن تتوقّف الحرب. الأمر الذي لم يحصل. ويؤدّي العجز عن تقديم المساعدة لمن يحتاجها إلى توليد مشاعر الذنب. وحسب علم النفس، توجع هذه الأخيرة الضمير وتولد مشاعر الكراهية والنظرة الدونية إلى الذات. تحوّل معاناة الإنسان من هذه المشاعر السلبية مجتمعة (القهر، العجز، الإحباط، الفشل، تأنيب الضمير، الدونية،… إلخ) حياته إلى جحيم لا يطاق. هنا يأتي الهروب إلى الأمام، القفز فوق الواقع، تجاهل ما يحدُث، الانشغال بالحياة اليومية، نوعاً من آليات الدفاع عن الذات، وطريقة للخلاص من تلك المشاعر التي تنغّص عيش صاحبها. ها هو العدوان الإسرائيلي على غزّة يقترب من إنهاء عامه الثاني. خلال ذلك، انقلبت حياة كثيرين منا رأساً على عقب. تغيّرنا، نعم تغيّرنا، لكن السؤال، مرّة أخرى، “هل تمْسحنا”؟ أغلب الظن لا. فغزّة ما زالت تقهرنا وتدمينا، وما زال الألم والحزن والغضب يعترينا، لكننا تكيّفنا وتعوّدنا، وربما لم نعُد كما كنّا.
by | Aug 28, 2025 | اقتصاد
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من تشرين الأول/تشرين الأول 2023، وما أعقبها من حملة إبادة وتجويع، ضد أكثر من مليوني فلسطيني، لم يكن دور الشركات الأميركية الكبرى، خاصة عمالقة التكنولوجيا مثل غوغل ومايكروسوفت وأمازون، يقتصر على العلاقات التجارية مع إسرائيل، بل كان مزيجاً من دور الشريك الفاعل والشاهد المتواطئ.
سخرت تلك الشركات برمجياتها أداة لدى الجيش الإسرائيلي، ووفرت قواعد بياناتها وخدماتها السحابية، التي استخدمها مدنيون فلسطينيون ببراءة، لتعقب و”اصطياد” المستخدمين في بيوتهم ومقاهي الإنترنت وشوارعهم.
قائمة طويلة من الاتهامات المؤكدة والضمنية تلاحق عمالقة التكنولوجيا وتوجِب مقاطعتهم، في مقدمتها، توفير خدمات الحوسبة السحابية التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن والمخابرات في تعقب الفلسطينيين والتوجس على بياناتهم واتصالاتهم، خاصة بعدما وقعت أمازون وغوغل مشروعاً مشتركاً مع الحكومة الإسرائيلية “مشروع نيمبوس” بقيمة 1.2 مليار دولار في عام 2021. إضافة إلى ذلك توفر خدمات الحوسبة السحابية مقترنة بأدوات الذكاء الاصطناعي وسيلة للجيش الإسرائيلي لمراقبة الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية واغتيالهم، وهي اتهامات تطاول مايكروسوفت وبرنامجها المعروف “أزور“.
تصاعد الحرب ودور عمالقة التكنولوجيا فيها، أدى إلى تصعيد من قبل النشطاء المناهضين للإبادة والموظفين في هذه الشركات الذين يعارضون سياساتها المتواطئة مع الحرب الإسرائيلية، وعلى مدى شهور تعرض عشرات العاملين في غوغل ومايكروسوفت للفصل أو الاعتقال من مقار عملهم بسبب ما أنشطتهم المناهضة لإمدادات إسرائيل بالمعلومات والبيانات أو عدم منعها من استخدام تطبيقاتها المتطورة أدواتٍ للقتل. كانت ذروة تلك الاحتجاجات هذا الأسبوع عندما اقتحم موظفون مناهضون للحرب مقر رئاسة مايكروسوفت في ريدموند بولاية واشنطن على الساحل الغربي واحتلوا مكتب رئيسها التنفيذي براد سميث احتجاجاً على السماح لإسرائيل باستخدام تطبيق “أزور” السحابي. بعد استدعاء الشرطة والقبض على بعض الموظفين، أعلن سميث أن الشركة ستفتح من جديد تحقيقاً في تلك “المزاعم”، وهو وعد رددته مايكروسوفت مراراً من دون أن تنفذه. فماذا تغير في تلك المواجهة؟
معايير مزدوجة
لطالما منحت شركات التكنولوجيا العملاقة موظفيها هامشاً واسعاً للتعبير عن المواقف السياسية في أماكن العمل، لكن موجة النشاط الأخيرة الناهضة للحرب على غزة وضعت بعض العاملين بقطاع التكنولوجيا في مواجهة مع أرباب عملهم. فقد أعلنت مايكروسوفت أمس الأربعاء أنها فصلت موظفَين شاركا في اقتحام مكاتبها هذا الأسبوع. وفي العام الماضي، فصلت غوغل عشرات الموظفين بعدما نظموا اعتصامات مشابهة.
وتقول صحيفة “وول ستريت جورنال” في تقرير لها عن تلك المواجهة، إن النقاشات المتعلقة بحرب غزة تضع سياسات العمل في مايكروسوفت وغوغل التابعة لشركة ألفابت على المحك. وتنقل الصحيفة عن موظفين حاليين وسابقين، بالإضافة إلى مراسلات داخلية اطّلعت عليها، أن المشرفين على لوحات النقاش الداخلية حذفوا مرارًا تعليقات مرتبطة بالنزاع. كما تُظهر لقطات اطّلعت عليها الصحيفة أن مشرفي مايكروسوفت حذفوا أسئلة وسجلات نقاش تتعلق بالحرب في غزة وبعمل الشركة مع إسرائيل. ففي لوحة نقاش عامة على مستوى الشركة، كتب أحد الموظفين عن تأثير نقص الغذاء والهجمات على سكان غزة: “إلى متى علينا أن نتحمّل قبل أن نقول كفى؟”. ورد أحد المشرفين على المحتوى بتذكير الكاتب بضرورة الالتزام بقواعد المجموعة التي تحدد ضوابط الحوار باحترام داخل الشركة. وأضاف: “نغلق الآن هذا النقاش أمام التعليقات.”
يوم الثلاثاء الماضي، وبعد اختراق مكتبه، قال براد سميث، رئيس شركة مايكروسوفت، إن الشركة تراجع مزاعم تفيد باستخدام تقنياتها لاستهداف أشخاص في غزة. وكانت الشركة قد حققت سابقًا في ادعاءات باستخدام برامجها للإضرار بالناس، لكنها قالت إنها لم تجد أي دليل على ذلك. لكن سميث كان غاضباً من الاحتجاج الذي وصل إلى مكتبه الشخصي، ووصف أفعال المحتجّين بأنها “لا تمثل السلوك المعتاد للموظفين”، وأكد أن الشركة تراجع تصرّفات المنظمين من الموظفين بالإضافة إلى مراجعة بروتوكولات أمن مبانيها. وقد تم توقيف مهندسي البرمجيات من قبل الشرطة، وتم فصلهما لاحقًا، لينضموا بذلك إلى موظف سابق في غوغل وأربعة موظفين سابقين في مايكروسوفت كانوا ضمن الاحتجاجات.
وقال عبدو محمد، وهو موظف سابق في مايكروسوفت ساهم في تنظيم الاحتجاجات، إنه لاحظ العام الماضي العديد من الحالات التي تدخّل فيها مشرفو المحتوى عندما طرح الموظفون أسئلة على التنفيذيين بشأن عمل الشركة في إسرائيل. وأضاف “مايكروسوفت بذلت قصارى جهدها لاستخدام الأدوات المتاحة لديها للتقليل من أي مخاوف أُثيرت.” وقالت مايكروسوفت إنها تتخذ إجراءات عندما ينتهك محتوى المناقشات سياسات الشركة وإرشاداتها، وأنها تتيح منتديات مخصصة للنقاشات التي قد تكون مثيرة للجدل. وجاء في بيانها “لدينا مسؤولية والتزام بخلق بيئة عمل رقمية آمنة وشاملة.”
جدل متصاعد
ويُعتبر الجدل السياسي الداخلي مسألة معقدة بالنسبة لقواعد العمل في الشركات، خاصة في صناعات مثل التكنولوجيا حيث يمتلك الموظفون تاريخًا من النشاط والمشاركة. لكن بعض الشركات اكتسبت مزيدًا من السيطرة على النقاشات بين موظفيها في سوق عمل يشهد تغيّرات، خصوصاً في ما يتعلق بالقضايا المثيرة للجدل.
في غوغل، احتج الموظفون على العقود المرتبطة بالجيش الأميركي، وفي عام 2018 أقنعوا الشركة بالتوقف عن التعاون مع وزارة الدفاع الأميركية في تطوير تقنيات ذكاء اصطناعي لتحديد أهداف الطائرات المسيّرة. ومنذ ذلك الحين، اتخذت الشركة خطوات للحد من النقاشات حول السياسة والمواضيع الخلافية الأخرى، من بينها تعيين موظفين لإدارة تلك المحادثات.
وفي إبريل الماضي، فصلت غوغل 28 موظفاً بعد احتجاجهم على عقد بقيمة 1.2 مليار دولار مع الحكومة الإسرائيلية، ثم أقالت بعد ذلك بأيام 20 موظفًا آخرين. وكانت غوغل وأمازون قد وقعتا العقد مع إسرائيل عام 2021.
كما ألقت الشرطة في نيويورك وكاليفورنيا القبض على بعض موظفي غوغل عقب اعتصامات داخل مكاتبها. وقالت غوغل إن الموظفين الذين تم فصلهم عطلوا سير العمل وجعلوا زملاءهم يشعرون بعدم الأمان. وفي أثناء مناقشة الحرب في غزة وعقد الحوسبة السحابية بين غوغل والحكومة الإسرائيلية، أظهرت لقطات اطّلعت عليها “وول ستريت جورنال” أن الموظفين الذين أشاروا إلى “الإبادة الجماعية” في رسائل البريد الإلكتروني أو المنتديات الداخلية تم إغلاق أو حذف مشاركاتهم. كما تلقى بعضهم رسائل من مشرفي المحتوى تشرح أسباب ذلك.
وتقول غوغل إن من المآذارات الروتينية لفريق الإشراف على المحتوى لديها القدرة على إزالة المنشورات التي تنتهك سياسات الشركة المتعلقة بالمحتوى التخريبي، والتي تشمل مجموعة واسعة من الموضوعات إلى جانب مسألة الإبادة الجماعية. وقالت المتحدثة باسم الشركة كورتني منسيني”لقد كنا واضحين بأن مكان العمل لدينا ليس ساحة لمناقشة السياسة أو لإجراء نقاشات تخريبية حول أي موضوع خلافي. لقد ذكّرنا موظفينا بذلك باستمرار ونتخذ بانتظام خطوات لتطبيق السياسات في الحالات النادرة التي يخرق فيها الموظفون القواعد.”
وأبلغ المشرفون موظفة سابقة في غوغل، أعدّت وثيقة تشرح فيها مشاعرها تجاه الصراع في غزة وأرفقت روابط لتغطية إعلامية حول عقد الشركة مع إسرائيل، بأن الوثيقة اعتُبرت مزعزعة للاستقرار في بيئة العمل. كما أزال المشرفون نقاشات أخرى تناولت قضايا مثل استخدام تقنيات المراقبة خلال النزاع. وتركّزت العديد من حالات تدخل المشرفين على سير المحادثات العامة في هذه الشركات على استخدام كلمة “إبادة جماعية”. فقد ظلّ الجدل محتدمًا حول كيفية ومتى يُستخدم هذا المصطلح، وكان تطبيقه على نزاعات مثل أرمينيا ورواندا وغيرها مثيرًا للخلاف.
وعندما استخدم أحد موظفي غوغل كلمة “إبادة جماعية” في محادثة الشهر الماضي، تدخّل المؤسس المشارك سيرغي برين بتحذير شديد، وفقًا للقطات اطّلعت عليها “وول ستريت جورنال”، ونشرتها واشنطن بوست أيضًا في وقت سابق. وتطرّق النقاش إلى التقرير الذي صدر عن مقررة الأمم المتحدة الخاصة بالأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيزي، الذي أشار إلى أن أعمال عدد من الشركات، من بينها غوغل، تُسهم في دعم حرب إسرائيل على غزة، والتي وصفها التقرير بأنها “حملة إبادة جماعية”.
وكتب الموظف”الشيء الإيجابي الوحيد هنا هو أننا ننفق أموالنا ونمضي كل وقتنا على (جيميني) وليس على شيء أكثر فائدة للإبادة الجماعية”، في إشارة إلى نموذج الذكاء الاصطناعي وروبوت المحادثة الخاص بغوغل. وردّ برين قائلاً”مع كامل الاحترام، التلاعب بمصطلح إبادة جماعية أمر مسيء بعمق لكثير من الناس الذين عانوا إبادة حقيقية. كما أنني أحذّر من الاستشهاد بجهات ذات توجهات معادية للسامية بشكل واضح مثل الأمم المتحدة في هذه القضايا”.