إسبانيا تفعل ضد إسرائيل ما لا تفعله عواصم عربية

إسبانيا تفعل ضد إسرائيل ما لا تفعله عواصم عربية

خطت إسبانيا، أمس الاثنين، خطوة إضافية لمعاقبة إسرائيل على جرائمها في قطاع غزة، وهي دولة سبّاقة، إلى جانب أيرلندا، في اتخاذ مواقف أخلاقية وقرارات عملية ضد الاحتلال على الأقل منذ بدء إبادة غزة. ويواكب رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الموجة القوية في أوروبا، شعبياً وسياسياً، والتي باتت أكثر جرأة في إدانة حرب الإبادة والتجويع في غزة، وسط تململ أوروبي من الاحتكار الأميركي لمسار التفاوض لوقف الحرب، والدعم المفتوح الذي يبديه الرئيس دونالد ترامب لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لاجتياح مدينة غزة دون التفات للعواقب. وإن كانت إسبانيا منذ بداية الحرب في السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول 2023، سبّاقة في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، ودعم القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الاحتلال في محكمة العدل الدولية، ثم الاعتراف بفلسطين، إلا أن هناك من رأى أن خطواتها ظلّت ناقصة أو رمزية بسبب عدم فرضها حظراً حقيقياً على توريد أو استيراد أو منع رسو شحنات الأسلحة من دولة الاحتلال وإليها في موانئها. من جهتها، تهاجم تل أبيب مدريد وحكومة سانشيز الاشتراكية وتحالفها اليساري، لا سيما باتهامها بمعاداة السامية، وهو ما يتوقع أن تزداد حدّته، خصوصاً أن الإجراءات الجديدة التي أعلن سانشيز عنها أمس، قد تتضمن اعتبار نتنياهو ووزرائه أشخاصاً غير مرغوب فيهم بإسبانيا، ما يساهم في جعل المنظومة السياسية الحاكمة في تل أبيب تشعر بالعزلة.

واستدعت إسبانيا، أمس، سفيرتها في تل أبيب، آنا سولومون، للتشاور، بعدما اتهمت وزارة الخارجية الإسرائيلية أمس، مدريد، باتخاذ إجراءات معادية للسامية.

إسبانيا لا ترحب بحكومة الاحتلال

ويوم السبت الماضي، أكدت صحيفة إل باييس الإسبانية أن سانشيز يتجه لفرض إجراءات عقابية إضافية على دولة الاحتلال. وبحسب صحيفة “ذا تايمز أوف إسرائيل”، أول من أمس الأحد، نقلاً عن “إل باييس”، فإن مدريد تخطط للموافقة على فرض حظر تسليح كامل وفوري على دولة الاحتلال، وهو ما من المقرّر أن يوافق عليه مجلس الوزراء الإسباني اليوم الثلاثاء خلال اجتماع له، وربما “إعلان نتنياهو ووزراء آخرين أشخاصاً غير مرغوب فيهم في إسبانيا”. وبحسب الصحيفة الإسبانية، فإن الحكومة في مدريد تعمل لفرض حظر كامل على كل صفقات السلاح أو المعدات التكنولوجية المباشرة أو غير المباشرة مع القطاع العسكري العام والخاص في دولة الاحتلال.

اعترفت إسبانيا بفلسطين ودعمت الدعوى في محكمة العدل

وبالفعل، أكد رئيس الحكومة الإسبانية ذلك يوم أمس، معلناً عن سلسلة إجراءات “لوضع حد للإبادة الجماعية في غزة”، تشمل فرض حظر على مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل ومنع السفن التي تحمل الوقود للجيش الإسرائيلي من استخدام موانئ البلاد. وفي بيان متلفز، قال سانشيز إن حكومته “قررت اتخاذ خطوات جديدة وتنفيذ تسعة إجراءات إضافية فورية لوضع حد للإبادة الجماعية في غزة وملاحقة مرتكبيها ودعم السكّان الفلسطينيين”. وستمنع مدريد، بموجب ذلك، السفن والطائرات المتجهة إلى الأراضي المحتلة والتي تحمل أسلحة لجيش الاحتلال من الرسو في الموانئ الإسبانية أو دخول المجال الجوي الإسباني. وأضاف سانشيز أن حكومته ستزيد مساعداتها للسلطة الفلسطينية ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) عشرة ملايين يورو، وستفرض حظراً على السلع المصنعة في مستوطنات إسرائيلية.

وستمنع إسبانيا أيضاً أي شخص يشارك بشكل مباشر في الإبادة من دخول البلاد، وفق سانشيز، دون ذكر أسماء. وأضاف: “نأمل بأن تُشكّل هذه الإجراءات مزيداً من الضغط على نتنياهو وحكومته لتخفيف بعض المعاناة التي يتكبدها الشعب الفلسطيني”، مشدداً على أن ما تفعله إسرائيل في غزة “ليس دفاعاً عن النفس، بل القضاء على شعب أعزل”، مؤكداً أنها “تقصف المستشفيات وتقتل الناس بالتجويع”. ولم تتضح جميع الإجراءات التسعة، والتي ردّ عليها وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أمس، باعتبار أن سانشيز يحاول “صرف الانتباه داخلياً عن فضائح الفساد التي تلاحقه”، واصفاً إجراءاته بالمعادية للسامية. كما منعت إسرائيل وزيرة العمل الإسبانية يولاندا دياز، ووزيرة الشباب سيرا ليغو، من دخول إسرائيل. وتنتمي ليغو إلى حركة “اليسار الموحد”، فيما أسّست دياز تحالف “سومار” الشريك اليساري المتشدّد المتحالف مع حزب سانشيز، العمّال الإسباني. وتعدّ دياز، التي شغلت منصب نائبة رئيس الحكومة، من الأصوات المتشددة في معاقبة إسرائيل داخل الحكومة، وهي تدعو باستمرار الاتحاد الأوروبي لوقف العمل باتفاق التجارة مع دولة الاحتلال.

حظر نافذ وسريع

وبحسب “إل باييس”، فإن مدريد تخطط لجعل الحظر الكامل نافذاً سريعاً، عبر مرسوم ملكي، مستمد من مشروع قانون قدّمه ائتلاف سومار العام الماضي للبرلمان. وأكدت دياز أن ائتلافها يعمل مع الحزب الحاكم على “حزمة إجراءات لقطع العلاقات مع نظام المجرم نتنياهو”، وتعليق كل العلاقات التجارية دفعة واحدة، وإعلان نتنياهو ووزراء الأمن يسرائيل كاتس والمالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير أشخاصاً غير مرغوب فيهم بإسبانيا، وذلك “لتحريضهم على الإبادة، والتجويع والتطهير العرقي”.

وكانت إسبانيا قد أعلنت في أيار/ أيار 2024، مع النرويج وأيرلندا، الاعتراف بدولة فلسطينية، ودعمت الدعوى المرفوعة ضد دولة الاحتلال في محكمة العدل الدولية، وأعلنت في حزيران/ حزيران 2024، تقديم طلب رسمي للانضمام إلى مجريات القضية في شأن موضوع الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في حقّ أهل غزة. وتضغط إسبانيا على الاتحاد الأوروبي لتعليق اتفاقية التجارة مع إسرائيل، كما تضغط على دول أوروبية لفرض حظر سلاح. لكن حظر السلاح بين مدريد وتل أبيب ظلّ مسألة إشكالية، إذ بينما علّقت مدريد العمل بعدد من الصفقات، إلا أن الخطوة ظلّت رمزية، وقد كشفت الجماعات الحقوقية والداعمة لفلسطين والإعلام عن ذلك تباعاً. فمثلاً، في شباط/ شباط الماضي، كشف الإعلام الإسباني عن أنه رغم تعليق مدريد توريدها الأسلحة الإسبانية إلى إسرائيل، فإن حكومة سانشيز سمحت منذ كانون الثاني/ كانون الثاني 2024، بنقل أكثر من 60 ألف قطعة من المعدات العسكرية (منصات إطلاق صواريخ، قنابل يدوية…)، العديد منها أميركية الصنع، بالمرور إلى الأراضي المحتلة عبر مطاراتها، وناشدت المقررة الأممية الخاصة المعنية بفلسطين فرانشيسكا ألبانيز، في شباط الماضي، الحكومة الإسبانية حظر كل الرحلات العسكرية لدولة الاحتلال. وتحت وطأة الضغط من الائتلاف اليساري في الحكومة، ورغم مقاومة وزارة الداخلية، اضطر سانشيز في إبريل/ نيسان 2025، لوقف العمل بصفقة مثيرة للجدل لشراء أسلحة من إسرائيل بقيمة 7.5 ملايين دولار. لكن بحسب موقع “eu reports”، في الثامن من آب/ آب الماضي، فإنه منذ بداية العدوان في 2023، استوردت إسبانيا من إسرائيل أسلحة بقيمة 54 مليون يورو، نقلاً عن تقرير حديث لمركز ديلاس لدراسات السلام. وقال الموقع إن البيانات من منصة “داتا كوميكس”، تظهر أنه بين شباط وأيار الماضيين، فإن إسبانيا تقف على رأس لائحة الدول في الاتحاد الأوروبي المستوردة للأسلحة الإسرائيلية.

حظر السلاح بين مدريد وتل أبيب ظلّ مسألة إشكالية

وكانت قد سبقت إعلان سانشيز، أمس، تظاهرة ضخمة خرجت في مدريد، السبت الماضي، نادى فيها المتظاهرون بأسماء الأطفال الشهداء في غزة، كما نظّمت مدرّسات في مناطق عدة في البلاد وقفات بعنوان “التربية ضد الإبادة” مع بدء العام الدراسي، فيما عطّل المتظاهرون الداعمون لفلسطين سباق الدراجات في مدينة بلباو، شمال وسط البلاد، الأسبوع الماضي. وكان القضاء الإسباني قد فتح في تموز/ تموز الماضي تحقيقاً جنائياً ضد نتنياهو وساعر ومسؤولين عسكريين إسرائيليين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، على خلفية الهجوم على سفينة الدعم “مادلين” في حزيران الماضي.

ويميل الرأي العام في إسبانيا لدعم القضية الفلسطينية، وكانت إسبانيا من آخر الدول الأوروبية التي اعترفت بإسرائيل في عام 1986، في ظلّ تفضيلها تاريخياً تطوير العلاقات مع الدول العربية، لا سيما بعد العزلة التي عاشتها إثر الحرب العالمية الثانية. لكن حكومة اليمين السابقة بقيادة خوسيه ماريا أزنار (1996 2004)، الذي تميّز عهده بقربه من السياسات الأميركية، طوّر العلاقات مع دولة الاحتلال، علماً أن اليمين الإسباني معارض بشدّة للابتعاد عن إسرائيل، ويحذر اليمين المتشدد المعادي للمهاجرين (حزب فوكس خصوصاً) من مغبة عدم استيراد التكنولوجيا العسكرية من دولة الاحتلال على أمن البلاد. ويتهم اليسار الإسباني وزارة الداخلية بمخالفة قرار الحكومة في ربيع 2024، بوقف استيراد الأسلحة من إسرائيل.

مؤسسة هند رجب: بولندا توقف ممثلي شركات أسلحة إسرائيلية وتحقق معهم

مؤسسة هند رجب: بولندا توقف ممثلي شركات أسلحة إسرائيلية وتحقق معهم

أعلنت مؤسسة هند رجب الحقوقية، السبت، توقيف بولندا ثلاثة ممثلين لشركات أسلحة إسرائيلية واستجوابهم بطلب من مبادرة العدالة البولندية الفلسطينية. وطالبت المؤسسة، في تدوينة على حسابها بمنصة “إكس”، السلطات البولندية بمتابعة التحقيق مع الموقوفين. وشاركت مؤسسة هند رجب، عبر موقعها الإلكتروني بياناً، قالت إنه صادر عن مبادرة العدالة البولندية الفلسطينية “كاكتوس” يتناول تقديم شكوى قانونية في بولندا ضد ممثلين لشركات أسلحة إسرائيلية شاركوا في معرض MSPO للسلاح بمدينة كيلتسي (جنوب شرق).

وتؤكد الشكوى أن تسويق هذه الشركات لأسلحتها على أنها “مجرَّبة في المعارك”، بينما استُخدمت في الواقع ضد مدنيين بغزة، يعني تبريرها واشتراكها في ارتكاب جرائم دولية، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية. ودعا البيان السلطات البولندية إلى إنهاء التعاون مع شركات السلاح المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان.

وتأسست مؤسسة هند رجب في شباط/شباط 2024، وتتخذ من بروكسل مقراً رئيسياً لها، وتنشط في ملاحقة مسؤولين وعسكريين إسرائيليين عبر دعاوى قضائية بأنحاء العالم. وهند رجب اسم طفلة فلسطينية كانت في عمر 5 سنوات حين قتلها الجيش الإسرائيلي مع 6 من أقاربها بقصف سيارة لجأوا إليها جنوب غربي مدينة غزة في 29 كانون الثاني/كانون الثاني 2024.

ويأتي هذا التحرك في سياق جهود متواصلة لمؤسسات حقوقية عدة تسعى لملاحقة إسرائيل قضائياً على جرائمها في غزة. ففي تشرين الثاني/تشرين الثاني 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفي وقت سابق من العام ذاته، أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي مجموعتين من التدابير المؤقتة بطلب من جنوب أفريقيا، في قضية تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية. وشملت التدابير ضرورة السماح بدخول المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية إلى غزة، غير أن إسرائيل واصلت تجاهلها وأبقت المعابر مغلقة.

وبدعم أميركي مطلق، ترتكب إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية في غزة خلفت 64 ألفاً و368 شهيداً، و162 ألفاً و367 مصاباً من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح 382 فلسطينياً، بينهم 135 طفلاً.

(الأناضول، العربي الجديد)

مؤسسة هند رجب: بولندا توقف وتحقق مع ممثلي شركات أسلحة إسرائيلية

مؤسسة هند رجب: بولندا توقف وتحقق مع ممثلي شركات أسلحة إسرائيلية

أعلنت مؤسسة هند رجب الحقوقية، أمس السبت، قيام بولندا بتوقيف واستجواب 3 ممثلين لشركات أسلحة إسرائيلية بطلب من مبادرة العدالة البولندية الفلسطينية. وطالبت المؤسسة، في تدوينة على حسابها بمنصة “إكس”، السلطات البولندية بمتابعة التحقيق مع الموقوفين. وشاركت مؤسسة هند رجب، عبر موقعها الإلكتروني بياناً، قالت إنه صادر عن مبادرة العدالة البولندية الفلسطينية “كاكتوس” يتناول تقديم شكوى قانونية في بولندا ضد ممثلين لشركات أسلحة إسرائيلية شاركوا في معرض MSPO للسلاح بمدينة كيلتسي (جنوب شرق).

وتؤكد الشكوى أن تسويق هذه الشركات لأسلحتها على أنها “مجرَّبة في المعارك”، بينما استُخدمت في الواقع ضد مدنيين بغزة، يعني تبريرها واشتراكها في ارتكاب جرائم دولية، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية. ودعا البيان السلطات البولندية إلى إنهاء التعاون مع شركات السلاح المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان.

وتأسست مؤسسة هند رجب في شباط/ شباط 2024، وتتخذ من بروكسل مقرا رئيسيا لها، وتنشط في ملاحقة مسؤولين وعسكريين إسرائيليين عبر دعاوى قضائية بأنحاء العالم. وهند رجب اسم طفلة فلسطينية كانت في عمر 5 سنوات حين قتلها الجيش الإسرائيلي مع 6 من أقاربها بقصف سيارة لجأوا إليها جنوب غربي مدينة غزة في 29 كانون الثاني/ كانون الثاني 2024.

ويأتي هذا التحرك في سياق جهود متواصلة لمؤسسات حقوقية عدة تسعى إلى ملاحقة إسرائيل قضائيا على جرائمها في غزة. ففي تشرين الثاني/تشرين الثاني 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفي وقت سابق من العام ذاته، أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي مجموعتين من التدابير المؤقتة بطلب من جنوب أفريقيا، في قضية تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية. وشملت التدابير ضرورة السماح بدخول المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية إلى غزة، غير أن إسرائيل واصلت تجاهلها وأبقت المعابر مغلقة.

وبدعم أميركي مطلق، ترتكب إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/ تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة خلفت 64 ألفا و368 شهيداً، و162 ألفا و367 مصابا من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح 382 فلسطينيا، بينهم 135 طفلا.

(الأناضول، العربي الجديد)

غزة في البندقية: كل هذه الأصوات في وجه الإبادة

غزة في البندقية: كل هذه الأصوات في وجه الإبادة

تحوّل مهرجان البندقية السينمائي، أحد أعرق المهرجانات في العالم، هذا العام إلى مساحة واضحة للتضامن مع الفلسطينيين الذين يتعرضون لحرب إبادة متواصلة منذ السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول 2023 في قطاع غزة. ففي دورته الـ82، لم تقتصر الأضواء على الأفلام والنجوم، بل امتدّت لتغطي واحدة من أوسع المظاهرات المؤيدة لفلسطين في تاريخ الفعاليات السينمائية الكبرى. أمام الكاميرات التي لطالما اعتادت التقاط صور الفساتين الفاخرة والابتسامات اللامعة، علت أصوات المحتجّين، ملوّحين بالعلم الفلسطيني ومطالبين بوقف حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، فيما قدّم المهرجان مساحة غير مسبوقة لأعمال سينمائية تناولت جرائم الحرب والمعاناة الإنسانية.

احتجاجات غير مسبوقة

شهدت البندقية مسيرات شارك فيها آلاف المحتجين من ضيوف المهرجان وسكان المدينة على حدّ سواء. ورفع هؤلاء شعارات تطالب بوقف الإبادة وتحرير فلسطين، ورفرفت الأعلام الفلسطينية في أرجاء جزيرة الليدو، بينما أغلق الأمن الطرق المؤدية إلى مقرّ المهرجان. الاحتجاج الذي نظّمته مجموعات محلية ودولية، جاء نتيجة خطاب مفتوح وقّعه مئات المخرجين والممثلين والمنتجين يطالبون إدارة المهرجان باتخاذ موقف واضح وصريح ضد جرائم الحرب في غزة.
جاء في البيان: “مهرجان البندقية يجب ألا يبقى حدثًا معزولًا عن الواقع، بل منصة لإدانة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، وللتنديد بتواطؤ الحكومات الغربية، ولدعم الشعب الفلسطيني”.
من بين الموقعين على البيان أسماء بارزة مثل الممثل البريطاني تشارلز دانس (Game of Thrones) والمخرجين الفلسطينيين طرزان وعرب ناصر، إضافة إلى فنانين أوروبيين بارزين. كما طالبت الحملة بمنع حضور ممثلين وفنانين دعموا إسرائيل علنًا، مثل غال غادوت وجيرارد بتلر، وهو ما أدى لاحقًا إلى تأكيد عدم مشاركة غادوت في المهرجان.

صوت هند رجب

أحد أبرز أعمال المهرجان كان فيلم “صوت هند رجب” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، الذي حظي بعرض عالمي أول ضمن المسابقة الرسمية. الفيلم يعيد سرد الساعات الأخيرة في حياة الطفلة هند رجب (6 سنوات)، التي علقت في سيارة تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي في غزة يوم 29 كانون الثاني/ كانون 2024، بعد أن قُتل خمسة من أفراد أسرتها. ظلّت هند تتوسل عبر الهاتف فرق الإسعاف التابعة لـ”الهلال الأحمر الفلسطيني”، قبل أن يُستهدف المسعفون أنفسهم وتُقتل الطفلة برصاص جنود الاحتلال، حيث اخترقت السيارة 335 رصاصة.
بنت كوثر بن هنية فيلمها على التسجيلات الصوتية الأصلية لنداء استغاثة هند، بعد حصولها على إذن العائلة والهلال الأحمر الفلسطيني. واستعانت بممثلين فلسطينيين لتجسيد المسعفين، لكنها أبقت صوت هند الحقيقي كما هو. تقول بن هنية في تصريحات إعلامية سبقت عرض الفيلم يوم أمس في المهرجان: “كنت خائفة أن أفشل في إيصال صوتها، ألا يكرّم الفيلم ذكراها. كان عليّ أن أجد لغة سينمائية للحزن والشهادة، وأن أواجه صمت العالم”.
يحمل الفيلم أبعادًا سياسية متشعبة، إذ يضع المشاهد أمام سؤال مركزي: هل الاكتفاء بالمشاهدة شكل من أشكال التواطؤ؟
كما حظي بدعم تنفيذي من أسماء هوليوودية لامعة مثل براد بيت، ووواكين فينيكس، وألفونسو كوارون، ما منح الفيلم زخمًا عالميًا وأتاح له فرصة أوسع للوصول إلى جماهير جديدة.

من لا يزال حيًّا

الفيلم الوثائقي السويسري “من لا يزال حيًّا” (Who Is Still Alive) للمخرج نيكولا واديموف سجّل حضورًا بارزًا آخر في المهرجان. العمل يعرض في قسم Giornate Degli Autori، ويمثّل شهادة بصرية جماعية لقصص تسعة ناجين من غزة.
في الفيلم، يرسم المشاركون خرائط أحيائهم المدمّرة بالطبشور من ذاكرتهم، بينما يروون تفاصيل ما فقدوه من أحبّاء وأصدقاء، في سردية تجمع بين التوثيق الحميمي والرمزية الفنية. يقول واديموف: “لسنا أمام حرب عادية. ما يحدث في غزة يختبر إنسانيتنا جميعًا. إذا فقدنا إنسانيتنا هنا، سنفقدها في أوكرانيا، وفي الولايات المتحدة، وفي كل مكان”. يقدّم الفيلم مقاربة مختلفة عبر التركيز على الطبقة الوسطى الفلسطينية، من موسيقيين ومصورين ومؤثرين على وسائل التواصل، في محاولة لتقريب المشاهد الغربي من حياة الغزيّين العاديين، وكسر الصورة النمطية التي تحصر الفلسطيني في دور الضحية البعيدة.

البندقية بين الحياد والانخراط

رغم محاولات إدارة المهرجان الحفاظ على “الحياد الفني”، إلا أن ألبرتو باربيرا، المدير الفني، اضطر للرد على أسئلة متكررة حول موقف المهرجان من الحرب. قال باربيرا: “لم نرفض أي فنان بسبب مواقفه السياسية، لكننا في الوقت نفسه عبّرنا بوضوح عن حزننا العميق لما يحدث في غزة، وخصوصًا لمقتل المدنيين والأطفال”. لكن على الأرض، تجاوز المهرجان الحياد التقليدي، فعرض أفلاما تتناول المجازر في غزة، ووضع على جدول أعماله جلسات حوارية عن أخلاقيات التمثيل السينمائي للضحايا، كما فتح مساحاته لاحتجاجات مرئية، حيث حمل الفنانون لافتات دعم لفلسطين على السجادة الحمراء، ما جعله أكثر الأحداث السينمائية انخراطاً منذ بدء حرب الإبادة قبل قرابة عامين.

الفنان الغزّي وهشاشة الجسد الجائع

الفنان الغزّي وهشاشة الجسد الجائع

كيف يمكن للأعمال الفنية الناجية من الحرب، منذ السابع من تشرين الأول، أن تُحمى من الإبادة، وكيف يمكن لها أن تنجو خارج المكان لتصبح شاهداً على حيوات الضحايا في قطاع غزة؟ منذ ذلك الوقت، بدأ بعضُ الفنانين الغزّيين يقدمون نماذج ومفردات بصرية جديدة تستعرض حياتهم المباشرة أمام الحدث الكبير، في ظل العجز عن تغيير القدر أو تغيير المكان، وأصبحوا كما الجميع في انتظار دورهم في الموت دون سابق إنذار. الدلالات البصرية التي استخدمها الفنانون تعد إشارة غير مباشرة لتفكيك مفهوم العزلة والوحدة، عبر ما يرسمونه أو يعبّرون عنه من تكثيف لمشاهد الشهداء، وما تحمله من ملامح الحيرة والعجز والسكون، وتحولاتها من الطاقة الكامنة في العمل الفني الذي عبّر عنه الفنانون بضربات الفرشاة والألوان اللامعة، إلى خطوط مترددة، ورسومات يتكرر فيها الجسد البشري، وجثث في أكياس وأغطية وأقمشة أخرى.

تذكّر الأجساد التي يعبر عنها بعض الفنانين بأعمال ألبرتو جياكوميتي من خلال تصويره للإنسان ضحيةً وجوديةً تعاني من العزلة والقلق والهشاشة في العالم الحديث، وتعكس حالة الضياع والعبثية التي خلفتها الحروب والتحولات الوجودية في القرن العشرين، فعكست أعمالهم نموذج الضحية غير المحدّدة التي تعبر عن أزمة الإنسان الحديث، الذي يواجه قوى أكبر وأعتى منه، ما يجعله ضحية لشرطه الوجودي نفسه، بينما يحتفظ رغم هشاشته بإحساس صامت بالصمود.

نماذج لتحوّل المفردات البصرية الفلسطينية

يعمل الفنانون في هذه المرحلة على رسم المشاهد اليومية وآثار التدمير والقتل التعسفي يومياً، بالإضافة إلى مشاهد من حالة النزوح الجماعية وامتداد الخيام على مساحات واسعة، إلّا أن أكثر المشاهد التي برزت مؤخراً في أعمالهم، التي نادراً ما جرى التطرق لها سابقاً، هي مشاهد المجاعة التي تستحضر أحداث “أوشفيتز” لكنها تبدو أكثر قسوة بسبب مدتها الزمنية، وحصارها المطبق لحرب التجويع وآثارها على الفلسطينيين.

استدعاء الجسد الأنثوي شاهداً على العنف، ووسيطاً يدوّن التاريخ

في عمل للفنانة عائدة درويش، تظهر فتاة بوجه شاحب وجسد هزيل تجمع بين عمرها العشريني وجسدها التسعيني إثر خلل في وظائف الجسم والمناعة الناتجة عن التجويع، وضغط الدم والذهان مشيرة إلى موتها اليومي بالكرّ والفرّ والخوف والقلق. وإذ تحمل في عملها هذا دلالة مهمة على تخليد مشهد الموت بأبشع أشكاله، وتحويله من صرخة واحتجاج، إلى وثيقة مستمرة تحاكِم جلاديها من خلالها، مثلما جسدت كاثي كولفيتس وجوه الفقد والحرمان في أوروبا زمن الحروب، تلتقي عائدة درويش معها في استدعاء الجسد الأنثوي شاهداً على العنف، ووسيطاً يدون التاريخ عبر المعاناة، ليغدو الجسد مساحة مشتركة بين الأزمنة والثقافات، إذ تنكشف هشاشة الإنسان أمام آلة الإبادة والتجويع. 

كذلك يلجأ الفنان سهيل سالم في أعماله الأخيرة، من بينها مشروعه الأخير “استغاثة” إلى تغيير ملوّنته التي امتازت برسم المناظر الطبيعية والألوان المتعدّدة إلى اللون الأسود، وتكثيف أشخاصه بأجسادهم بين طبقات الإسمنت لبيوت سقطت فوقهم.
 
في المقابل، انتقل الفنان محمد لبّد لتجربته التي امتازت قبل الحرب بالكثافة اللونية وتناغمها، وانعكاسها المشرق، إلى أعمال شاحبة من صور الشهداء، أطفالاً وشيوخاً ونساء وشباباً، بتقنية قلم الرصاص، ويبدو الشحوب على وجوه شخصياته بما يوحي بمعاناتهم من الجوع والتعب والقتل اليومي. أما أعمال الفنان عبد الرؤوف العجوري في لوحته “هذا ليس فقراً… بل هو قرار بالتجويع” في إشارة إلى تقصّد سياسات الاحتلال العسكرية تجويعَ سكان غزة وإخضاعهم لخفض شروط الهزيمة عليه، وقد طغت الألوان الرمادية على أسلوبه الذي يذكّرنا بشخصيات مروان قصاب باشي، وقد غلب على لوحاته السابقة درجات الألوان الصفراء والخضراء والزرقاء، لكنّها تبدو هنا شاحبة كما أصحابها، إذ تعبّر عن مدى الدمار والجراح والنيران التي لم تنطفئ.