
دفتر المديونية يحكي حياة السوريين اليومية
في أحد أحياء دمشق القديمة، حيث تتشابك الأزقة وتكتظ الأسواق، يفتح البقال المسن سامي الجبّان دفتره القديم كل صباح. صفحاته صفراء، حبْره متناثر، وأرقامه متراكمة بجوار أسماء الزبائن. هذا الدفتر ليس مجرد سجل تجاري، بل مرآة للأزمة الاقتصادية التي يعيشها السوريون يوميًا، وحكاية عن صمود الأسر في مواجهة الغلاء وانهيار القدرة الشرائية.
دفتر المديونية، أو “دفتر الحساب”، يقوم على الثقة المتبادلة بين البقال والزبائن. كل عملية شراء لم تُدفع نقدًا تُسجَّل مع كمية البضاعة وسعرها واسم الزبون، وأحيانًا موعد السداد المتوقع. يسمح هذا النظام للأسر بالحصول على حاجاتها الأساسية فورًا وتأجيل الدفع، في نظام يعتمد على الالتزام الشخصي أكثر من الرقابة الرسمية. بالنسبة لسامي، الدفتر يمثّل شبكة اقتصادية صغيرة غير رسمية تساعده على متابعة الديون وتقليل الخسائر، في ظل غياب أي دعم مصرفي أو حكومي.
وبينما يسجّل السبعيني الأرقام، تتكشف قصص الناس خلف هذه الصفحات الصفراء. تقول خلود المعروف، أم لثلاثة أطفال لـ”العربي الجديد”: “كل شيء مسجَّل عند العم سامي بالدَّين، حتى الحليب والأرز. كل أسبوع ندفع قليلاً حسب راتب زوجي”. أطفالها يعرفون روتينهم، يأخذون ما يحتاجون ويتركون النقود أو يطلبون التسجيل في الدفتر، وكأن كل رقم يمثل أملاً مؤجلاً في وجبة عشاء كاملة أو نصف وجبة”.
أما مجد عيزوقي، شاب عشريني يدرس اللغة العربية في جامعة دمشق، يعمل بعد توقف دعم أسرته جزئيًا بسبب الغلاء. يقول لـ”العربي الجديد”: “أشتغل نصف يوم عند البقال، أبيع الخبز وأجمع الأموال، وكل ما أقدر أسدد شيئًا لعائلتي”. أصبح مجد أحد الأسماء في دفتر سامي، يضحك بحزن وهو يبرر: “أعرف أن رقمي يمثل حياتي اليومية: راتب أسبوعي مقابل بعض المواد الأساسية، الدفتر بالنسبة له هو مرآة لوضع معظم الشباب: لا أجر ثابت، لا قدرة على الادخار، ولا ضمانة لغد أفضل”.
الأرقام تعكس حجم الأزمة بوضوح، إذ إن أكثر من 85% من السوريين في شمال البلاد يعتمدون على هذه الديون اليومية، وأكثر من 90% منهم غير قادرين على سدادها، بينما يشتري 60% من طعامهم بالدَّين. يعيش 69% من الأسر تحت خط الفقر، ويعاني 27% من فقر مدقع. وفي ظل تضاعف تكلفة المعيشة خلال السنوات الثلاث الماضية، أصبح الحد الأدنى للأجور يغطي خُمس احتياجات الأسرة الأساسية فقط.
بدوره، يشرح أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، سامر العلي لـ”العربي الجديد” أن دفتر المديونية يعكس انهيار الطبقة الوسطى وتآكل القدرة الشرائية. استمرار هذا النظام يعني استمرار الاعتماد على الديون الصغيرة، مما يزيد تعقيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي. ويضيف أن ضعف السيولة المالية، وغلاء الأسعار، وارتفاع تكاليف المعيشة والإيجارات والمواصلات أثّر بشكل مباشر على أغلب العائلات، خاصة تلك التي فقدت مصدر رزقها نتيجة الفصل من العمل أو الكوارث الطبيعية، أو النساء اللواتي فقدن معيل المنزل. ويؤكد أن هناك ضرورة لمساندتهم بتخصيص رواتب أو مساعدات مالية وفق آلية صحيحة بعيدًا عن الفساد والسرقات.
من جانب آخر، تشير أستاذة علم الاجتماع، رنا حامد لـ”العربي الجديد” إلى أن دفتر المديونية لا يعكس الأزمة الاقتصادية فحسب، بل يكشف أبعادًا اجتماعية ونفسية. فهو يخلق ضغوطًا على الأسر ويعيد توزيع الأدوار داخل العائلة، إذ يتحمل الأطفال أحيانًا مسؤولية متابعة الحسابات أو الضغط على الوالدين للسداد. كما يؤثر على الشبكات الاجتماعية، فهو يربط بين التضامن المجتمعي والحرج الاجتماعي في الوقت نفسه.
وتتجاوز آثار الدفتر الجانب الاقتصادي لتصل إلى النفسي والاجتماعي. يشعر السوريون بالحرج والعجز أمام تراكم الديون، ويتعلم الأطفال منذ صغرهم معنى الدَّين والاعتماد على الآخرين، وهو ما يشكّل ضغطًا نفسيًا إضافيًا على الشباب. وإذا استمرت الأزمة على هذا النحو، فقد تتوسع ظاهرة الديون الصغيرة لتشمل مزيدًا من الأسر، ما يزيد الضغط الاجتماعي والاقتصادي ويهدد شبكات التضامن المجتمعي ويعمّق الفقر.
فالدفتر، بصفحاته الصفراء، حبْره المتناثر وأرقامه المتراكمة يحكي قصص صبر وتضحية وصمود يومي أكثر من أي تقرير إحصائي، ليصبح شهادة حيّة على واقع السوريين اليوم، إذ إن كل كيلو سكر وكل ربطة خبز هي صفحة في أرشيف المعيشة اليومية.