رغم مرور أحد عشر عاماً على رحيله، ما زال غابرييل غارسيا ماركيز متجدداً، وقادراً على إدهاش قرائه، سواء بروايته “نلتقي في آب” (رندم هاوس، 2024)، وترجمت إلى العربية بعنوان “موعدنا في شهر آب”، أو بأعماله القصصية الأربعة التي صدرت مجتمعة في كتاب واحد عن دار التنوير البيروتية مطلع هذا العام، بترجمة صالح علماني.
ويتيح الإصدار القصصي المتجدد لمحبي الروائي الكولومبي الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982، أن يقرؤوا أعماله القصصية الكاملة متسلسلة زمنياً، ومتجاورة ورقياً، ومتدرجة فنياً، بعد أن كانوا قرؤوها مُنَجَّمة في أزمان متباعدة، من دون أن تُتيحَ لهم القراءة المتفرقة نظرة شاملة وفاحصة إلى مجمل التجربة القصصية لماركيز، الموازية لتجربته الروائية، ولا تقلّ عنها أهمية. وإذا صحَّ القول إنَّ “مئة عام من العزلة” (1967)، هي ذروة المنحنى في تجربته الروائية فإنَّ النضج الفني الذي بلغته مجموعة “اثنتا عشرة قصة مهاجرة” يضعها في مرتبة الجوهرة بين المجموعات القصصية التي أنجزها على امتداد ثلاثة عقود، بدءاً من خمسينيات القرن العشرين.
كانت الذكريات المزيفة مقنعة لدرجة أنها حلّت محلَّ الواقع
كثيراً ما ترد عبارة “أشباح الساعة السادسة” في أعمال ماركيز الروائية والقصصية، وفي كل موضع ترد فيه العبارة نجدها تشير إلى الوقت الذي يسبق غروب الشمس في بلدان البحر الكاريبي اللاتينية، ودائماً ما يُصور البطل في هذا الوقت وهو في أشدِّ حالات العزلة والوحشة، مضطجعاً في ناموسيته المعلّقة، أو جالساً على شرفة بيته، أو جائلاً في غرف البيت الخالية إلّا من الذكريات ووجوه الغائبين المعلقة على الجدران. وتتفاعل الحالة النفسية القاسية مع اللحظة الزمنية لتخلق مناخاً من التشوّش البصري والانفلات الذهني، وهو المناخ المناسب لانهيار حدود الذاكرة والعقل والبصر، بين ما هو منطقي وما هو لامنطقي، وبين ما هو تاريخي وما هو أسطوري، وبين ما هو حقيقي وما هو سوريالي.
“أشباح الساعة السادسة” أحد المفاتيح التي طوّرها ماركيز لفتح البوابات بين الواقعي والخيالي، وهو يعلم أنها عبارة غامضة، وقد تكون عديمة المعنى، لكنها ذات وقع حسي يبعث على الشك في الحواس الواعية، ويتيح لللاوعي تولّي القيادة، والسيطرة على مجريات الأحداث. فلا غرابة أن تحمل الأشباحُ العريقة الساكنة في قلعة جبلية منعزلة، في قصة “رعب في آب”، الكاتب وزوجته، النائمين في حجرة في الطابق الثاني من القلعة، ليستيقظا في حجرة أخرى في الطابق الثالث، ذلك لأن الأشباح لا تسكن في حجرات القلاع القديمة فحسب، إنما تسكن في حجرات اللاوعي لدى الشخصيات القصصية، خصوصاً الشغوفة بقصص الميتين.
صورة ماركيز على جدار مكتبة بمدينة مكسيكو، 17 إبريل/نيسان 2015 (فرانس برس)
خصَّ ماركيز مجموعة “اثنتا عشرة قصة مهاجرة” بتقدمة أوضح فيها ظروف كتابتها، والأطوار التي مرّتْ بها القصص، من ملاحظات ومقالات ومشاريع سيناريوهات سينمائية وحوادث واقعية، وصولاً إلى طور الاكتمال بعد ثمانية عشر عاماً من الهجر والعودة. يقول ماركيز في تقدمته للمجموعة: “بدت لي ذكرياتي الواقعية أوهاماً من الذاكرة، بينما كانت الذكريات المزيفة مقنعة لدرجة أنها حلّت محلَّ الواقع. ولم يكن عليَّ أنْ أسأل نفسي أين تنتهي الحياة، وأين يبدأ الخيال”. وبهذه الجرأة على التحرر من رقابة الحقيقة، استطاع أن يمضي بلعبة تزييف الذكريات إلى أبعد مدى في قصص المجموعة، ففي قصة “القِدّيسة”، يقلب المخرج السينمائي المفاهيم، فيصنِّف الناس إلى فريقين، مَن يصدقون قيامة طفلة ميتة وهم الواقعيون، والفريق الثاني مِن غير الواقعيين، كالماركسيين والماديين، وهم الذين لا يصدقون أنّ الطفلة التي دُفنت قبل عشر سنوات يمكن أن تنهض من موتها.
تقصّد أنْ يعالج الحزن والسذاجة والقسوة التي لا تحتمل
تخلّى ماركيز في هذه المجموعة عن دفتر اليوميّات، الذي يمثل السجل الحقيقي لأحداث القصص كما شهدها، أو سمعها من ألسنة المهاجرين الكاريبيين، مُدعياً أنَّ الدفتر ضاع، ولكن هل يمكن الوثوق برواية ساحر مثل “غابو” حين يقرر أنْ يحرر ذاكرته من قيود الأحداث الواقعية، وأنْ يُلقي عصاه في أرض الخيال، مطلقاً العنان لأشباح الساعة السادسة كي تفعل فعلها العجيب في الأحداث، معتمداً على حُجّة مقنعة سمّاها (المنظور الزمني)، ويعني بها ميزة الشك في حقيقية الأحداث التي يمنحها انقضاء الزمن. ويشبّه ماركيز الكتابة من منطلق المنظور الزمني “بالحالة الإنسانية الأقرب إلى الطفو في الهواء”، وبها تصبح الكتابة “سلسلة وممتعة، وقادرة على تجاوز انحرافات عدم اليقين”.
ثمة مسوّغ فني في كل قصة ماركيزية يأتلف فيها الحلم بالواقع، في هذه المجموعة، وفي المجموعات الثلاث السابقة ذات العوالم الواقعية الصلبة، والعمق الإنساني المؤثر. وبدون هذا المسوِّغ تكون القصة ضرباً من العجز عن الإقناع، والفقر في الخيال، والحشو العبثي. ففي “القصة العجيبة والحزينة لإرينديرا الساذجة وجدتها القاسية”، من مجموعته الثانية التي تحمل العنوان نفسه، يبرز مسوّغ آخر لمعالجة الحدث الرئيسي في القصة، يتمثل في المبالغة في وصف الحادثة القبيحة، بهدف أنْ تغدو المبالغة في تقبيح الواقع حيلة فنية للتخفيف من أثره، من غير مساس بجدية المأساة الإنسانية وواقعيتها. وفي عنوان القصة ثمة كلمة واحدة منتقاة بعناية لتعبّر عن هذه الحيلة الفنية، هي كلمة (العجيبة)، فقد تقصّد ماركيز أنْ يعالج الحزن والسذاجة والقسوة التي لا تحتمل، بأسلوب سردي عجائبي. فعلى أرض الواقع، لا تكون الجدة، التي تجبر حفيدتها ابنة الأربعة عشر عاماً على أن تكون بغيّاً، قاسية فحسب، بل سادية أيضاً. ولا تكون الحفيدة التي تقع فريسة للبغاء، ضحية حزينة للجدة فحسب، بل للمجتمع الذي يرتضي أنْ يدخل عليها آلاف الرجال في خيمتها من دون أن يبادر إلى إنقاذها من هذا الواقع القبيح. إلا أنّ ماركيز ما كان ليقدم للقارئ حادثة بهذه الفجاجة والشذوذ بحالتها الخام، لأنه أذكى من يكون كاتب محاضِر، أو موثق حوادث. ويعرف أن الواقع الفني ليس سِجلّاً للواقع الاجتماعي.
توصل ماركيز إلى الحيلة الفنية بتضخيم الحدث، والمبالغة في تصوير الشخصيات، فجعل من الحفيدة كائناً أثيرياً، وكلما زاد تلوث جسدها بالوحل، زادت روحها نقاء، وغفرت لجدتها قسوتها، وازدادت تعلقاً بها. أما الجدة فبدت كائنا خرافياً، مثل (طائر السيمرغ)، تلقي بحفيدتها في المحرقة وهي موقنة أن الحفيدة ستتحمل العذاب، كما تحملت هي في شبابها.
لا تنتمي قصص الكتاب الاثنتان والثلاثون إلى التيار العجائبي، بل إن معظمها ينتمي إلى النوع الواقعي الحسي، الذي يركز فيه ماركيز على تصوير المناخ الكاريبي الملتهب بالحرارة، أو الغارق بالمطر الغزير، أو المضمّخ بروائح النباتات النفّاذة.
الموت والهوية يعدّان السؤالان الأكبران اللذان لا يتوقفان عن التسلل إلى الأدب والفن عبر وعي الكاتب. ينشغل بهما، يفكر فيهما، يحاول حلّ إشكاليتهما. وربما يكون سؤال الموت هو الأهم لارتباطه بالمجهول، فلم يعد أحد من الموت ليحكي لنا عما رآه هناك في الضفة الأخرى. صادفت الموت وسؤاله في ثلاث من أحدث الروايات المصرية الصادرة جميعها العام الماضي، ما أدهشني وأوقفني للتأمل أنها لثلاثة من الكتّاب الشباب، أصدر كل منهم روايتين فحسب، حيث سيطر هاجس الموت على رواياتهم الأولى، وهم: شكري سلامة في روايته “الموت عادة يومية” (بيت الحكمة)، ومريم عبد العزيز في روايتها “هناك حيث ينتهي النهر” (الكتب خان)، ومحمد عبد الرازق وروايته “بياض على مد البصر” (دار العين).
خطوط السرد
حاول كل كاتب من الكتّاب الثلاثة تفكيك سؤال الموت ودراسة فلسفته وأثره عن قرب عبر اتباع ثلاثة خطوط سردية لا تشتبك بقدر ما تتساءل وتراقب، وتبحث وتحلل أثر الموت والفقد على حياة ومحيط تلك الشخصيات الروائية التي تتحطم قلوبها إثر ما تلاقيه.
فرواية “الموت عادة يومية” لشكري سلامة التي يستهلها باقتباس من وديع سعادة يقول: “هل كان عليك أن تتعلم كل الكلمات لتقول فقط وداعاً أيها الأصدقاء؟!”. ويفكك عبرها غموض الموت وهيبته في مونولوغ طويل يبحر في النفس ليقدم لنا رحلة بطله في نهر الموت وأراضيه المصرية، مستنداً إلى حديث عيسى بن هشام وعلاقته بالسكندري رابطاً بينهما وبين أبطال روايته الذين يعيشون الواقع الحالي.
بدأت الرحلة بفقدٍ يصل إلى الاطمئنان أو الحقيقة أو الانتماء
بينما تبدأ رواية “بياض على مد البصر” لمحمد عبد الرازق بموت فتاة صغيرة تغادر للتو طفولتها نحو المراهقة، وعند إعدادها للدفن نكتشف أنها قُتلت ولم تنتحر كما أدعى والدها. تأخذنا الأحداث في رحلة بين أفراد عائلة الطفلة لنعرف من قتلها، وهل ماتت بشكلت طبيعي بالفعل أم قتلت دفاعاً عن شرف العائلة؟ بتأمل الأحداث نرى كيف يمكن لموت فتاة صغيرة أن يشير لهشاشة المنظومة القيمية والأخلاقية لمجتمعٍ كامل.
تطرح الرواية تساؤلات عن معنى الشرف في مجتمع لا يرى الشرف سوى في ما بين ساقيْ فتاة لم تكد تفارق طفولتها، وها هي جسدٌ ميت وكيف كان موتها نفياً وتأكيداً لقيم مجتمعية راسخة.
ثلاث روايات تبحث عن العزاء (تصميم: العربي الجديد)
وتحكي رواية “هناك حيث ينتهي النهر” لمريم عبد العزيز عن سلمى، الفتاة التي مات والدها، وفجأة يقتحم حياتها مجموعة من الرجال الأشداء الذين يعرّفون أنفسهم لسلمى بأنهم أعمامها، ثم يحملون جثة أبيها ويرحلون، إلى أين يرحلون ولِمَ لَم يأخذوها معهم لدفنه؟ لا تعرف سلمى. كل ما تعرفه أنهم أخذوا أباها ليدفنوه في مسقط رأسه رشيد؛ المدينة البعيدة التي تقع على مصبّ نهر النيل عند البحر المتوسط.
في مغامرة غير محسوبة، تقرر سلمى السفر إلى رشيد للبحث عن قبر والدها، فينكشف لفتاة القاهرة عالماً مخيفاً في تلك المدينة الوادعة، وعوضاً عن قبر أبيها، تعثر على مئات القبور لآلاف الشباب الذين يختارون الهجرة عبر البحر إلى أوروبا بدلاً من وطن لا يجدون فيه موطئ قدم لهم ولأحلامهم. لم تصل سلمى إلى قبر أبيها ولم تعرف عائلتها، والموت الذي ظنته نهاية طريق كان بداية طريق آخر، لانتماء جديد، وعائلات جديدة ضمّت سلمى وأحبّتها.
بحث في مسارات مختلفة
كل من الروائيين الثلاثة خاض رحلته، التي بدأت بموتٍ وفقْد ليصل إلى الاطمئنان أو الحقيقة أو الانتماء. يبحث شكري عن مدينته التي تقبع هناك في عالم الموتى، بينما يؤرق عبد الرازق سؤال الحقيقة، في حين تبحث مريم عن العائلة والانتماء.
لماذا اختاروا الموت مدخلاً ومحركاً للأحداث؟ فيجيبني شكري سلامة بأن الفكرة لا تكمن في الموت بقدر ما تكمن في العزاء، أو الحكاية بوصفها وسيلة للتضامن، كل الشخصيات تقريباً تبرم اتفاقاً ضمنياً بينها في ثنائيات، ويكون العزاء في الحكاية (نفسها) هو بؤرة هذا التضامن. كان الموت بالنسبة له الوجه الأكثر غموضاً للحياة، حيث فقد الكثيرين في غمضة عين، ولم يعرف أيكتب المرء نفسه ويفتتها، أم يكتب عزاء لها!
أحداث في ظلال مدنٍ هامشية حيث يغدو أثر الموث أكثر تكثيفاً
من جهته، يقول محمد عبد الرازق إن فكرة الرواية بدأت معه من تساؤل عن قيمة حياة الفرد، وإمكانية امتهان كل شيء وتحقيره في سبيل سيطرة العادات والتقاليد أو السلطة بشكل ينمحي معه وجود الفرد، أو يبقى مجرد هامش تكميلي لتلك السلطة فقط.
فمحمد لديه هاجس بالموت، لا يخاف الموت، ولكن يخاف من طريقة الموت، لسهولته ومجانيته في كثير من الأحيان، فأي شخص قد يموت بشكل عبثي كأن لا قيمة له إطلاقاً. ثم يعقب أنه يخاف الموت في حادثة، أو إهمال طبي، أو مشاجرة، أو في حجز قسم الشرطة، دون اعتبار وكأنه مجرد شبح، أو رقم في إحصائيات عابرة، مجرداً من قيمته كإنسان.
خارج المتن
ما يلفت الانتباه في الروايات الثلاث أيضاً أن أحداثها تدور خارج القاهرة؛ في مدن وقرى الشمال المصري، وكأن كتابها يبحثون عن معنى الموت، بعيداً عن المتن المتعارف عليه في القاهرة باتساعها ولامحدوديتها، هناك في ظلال مدنٍ هامشية حيث يغدو أثر الموث أكثر تكثيفاً، ولصوته دوياً أعلى، حيث البلدات الصغيرة التي تتأرجح في المسافة التي تقبع بين هدوء وألفة القرى وصخب وعنف المدن.
فشكري سلامة اختار قطار شبين الكوم ومدينة أشمون مسرحاً لأحداثه، بينما لم يُسمّ محمد مدينته التي اختار أن تكون وسط أحراج دلتا النيل، فيما سافرت مريم إلى شمال الدلتا، حيث مدينة رشيد التي ينتهي عندها نهر النيل مرتمياً في أحضان البحر المتوسط.
في النهاية حصل كلّ بطل منهم على ما أراد، فيوسف بطل رواية “الموت عادة يومية” حصل على العزاء لقلبه عبر الحكاية الطويلة، حتى نزل من القطار مستعداً لاستكمال حياته، بينما هالة، الأم المكلومة بطلة رواية “بياض على مدّ البصر”، عرفت أنها قتلت ولم تنتحر، وعرفت القاتل وسبب قتل ابنتها.
وزارت سلمى، بطلة رواية “هناك حيث ينتهي النهر”، رشيد للبحث عن قبر أبيها واكتشفت أن المدينة صارت قبراً كبيراً، وشاهدت الآلاف يقذفون بأنفسهم في قبر مفتوح على الغرق علهم يظفرون بفرصة للحياة.
قال عنها إنها “المرأة التي أبصرتُ بعينيها”، وقالت عنه بعد رحيله: “كنتَ صلابتي، كنتَ تحميني، وها أنا ذي بلا دفاع!”.
حين كان الحب أسير القيود والعادات الصارمة في الشرق والغرب، بزغت قصة حب من نوع نادر، نسج خيوطها شاب مصري مسلم كفيف أبصر بنور الفكر، وشابة فرنسية مسيحية أبصرت بقلبها ما لم تبصره العيون. إنها قصة حب عميد الأدب العربي، طه حسين، وسوزان بريسو، تلك العلاقة التي تجاوزت حدود الدين والجغرافيا والثقافة، وأصبحت شهادة حيّة على أن الحب النقي لا يحتاج لحاسة البصر، بقدر ما يحتاج إلى أن يُولد في الأعماق، وينمو على صدق العطاء.
حين التقت سوزان المثقفة الطالب طه حسين خلال رحلة دراسته في فرنسا، أُعجبت به رغم إعاقته البصرية واختلاف ثقافتهما ودينهما، فأحبته حباً فريداً، وساندته لا كحبيبة وزوجة فحسب، بل كرفيقة عمر ومُلهمة طوال مشواره، فقرأت له الكتب، وكتبت له بيدها، وأدارت شؤونه، فكانت عينه التي رأى بها نور العالم، في واحدة من أرقى وأعمق قصص الحب في تاريخ الأدب الحديث.
وتذكر أمينة مؤنس طه حسين، حفيدة عميد الأدب العربي، في مقدمة الطبعة الجديدة لمذكرات جدتها سوزان، بعنوان “معك: من فرنسا إلى مصر (قصة حب خارقة) سوزان وطه حسين (1915-1973)”، نقلاً عن مذكرات والدها غير المنشورة، بعنوان “ذكرياتي”، وصفاً لعلاقة حب أمه سوزان بوالده قائلاً إنها كانت “الرفيقة الرائعة خلال أكثر من ستين عاماً لمصري أعمى صار أكبر كاتب عربي في القرن العشرين، اشتُهر في بلده بسبب كل ما حققه في مجال التعليم والعلوم والثقافة، وأنشأ الجامعات والمعاهد العلمية عبر العالم، وكُرّم في الشرق مثلما كُرّم في الغرب”.
ويضيف: “كانت (سوزان) على الدوام إلى جانبه، راعيةً، مخلصةً، محبةً. واسته وشجعته حين كانت الأمور تسوء (ويعلم الله كم كانت تسوء!) وشاركته بكل تواضع نجاحاته وانتصاراته. وساعدته على التغلب على عاهته، على أن يصير ما كانه، على أن يتناول الطعام على موائد الملوك، على أن يتلقَّى ضروب الثناء والتكريم في أوروبا، وفي الشرق، وفي كل مكان. كانت حاضرة دوماً حين كان بحاجة إليها، وقد قال هو نفسه إنه لولا زوجتُه لما كان شيئاً”.
“سوزان قبل طه حسين”
سوزان بريسو في شبابها (صورة أرشيفية)
ولدت سوزان هيلويز بريسو في 26 نيسان/نيسان عام 1895، في بلوزيني-سور-أوش، في كوت دور، وجرى تعميدها الكاثوليكي في 19 أيار/آيار من العام نفسه على يد خالها الأب جوستاف فورنييه، الذي كان راعيها.
كان أبوها ألبير فليكس آندروش بريسو، يبلغ من العمر 25 عاماً عند ولادة ابنته، وكان يعمل محاسباً، أما أمها، آن مرغريت بريسو، فكانت في عمر 24 عاماً وربة منزل.
ويقول المؤرخان الفرنسيان، زينا ويغان وبرونو بونفار، في دراستهما عن سوزان ومذكراتها: “على الصعيد المادي، بدأت حياة ألبير بريسو ومرغريت فورنييه الزوجية بداية سعيدة، كان ألبير يعمل محاسباً، ولا نعلم أين تعلم هذه المهنة، ولا ضمن أي شروط كان يآذارها، كل ما نعلمه، أنه في عام 1889، قبل تجنيده، بحسب ملفه العسكري، كان موظفاً في الضرائب”.
وفي عام 1900، حين لم تكن سوزان قد تجاوزت سن الخامسة من عمرها، أنقلب كل شيء وحدثت صدمة كبيرة لوالدها عندما صدر حكم قضائي بناء على طلب من أحد الدائنين، وأشهرت محكمة التجارة إفلاس “المدعو بريسو، الذي يعمل في مهنة التحصيل المصرفي في بلينيي سور أوش”، وتسبب هذا الحكم القضائي في انهيار كبير في حياة الأسرة، بل أصبحت سوزان وشقيقتها ماري أندريه، أمام مصير مجهول.
وتقول زينا ويغان وبرونو بونفار: “لا نعلم شيئاً تقريباً عما حدث للأسرة خلال الفترة بين 1900 إلى 1906، ومعلوماتنا عن ألبير بريسو، مصدرها ملفه العسكري، ففي آب/آب 1901، انتقل إلى منطقة سان آمان مونترون، وسكن في شارع بور تموتان وصار مرتبطاً بمنطقة بورج العسكرية”.
ويضيف المؤرخان الفرنسيان، من واقع استنتاجهما، أن سوزان “حصلت على الشهادة الابتدائية في بروغمون، في عام 1906، وكان عمرها في ذلك الوقت 11 عاماً”، ويلفتان إلى أنهما بمواصلة البحث في حياة سوزان فقدا أثرها من جديد، كما “لم تعد (سوزان) ولا شقيقتها تسكنان في عام 1911 لدى جدَّيهما، وليس في ذلك ما يثير العجب، لأن الوقت كان قد حان منذ عدة سنوات على الأقل بالنسبة إلى سوزان كي تتابع دراساتها الثانوية”.
ظهرت سوزان في السجلات من جديد، وعثر المؤرخان على سوزان بريسو “تلميذة في ثانوية مونبلييه… ويشير دفتر توزيع الجوائز سنة 1913 إلى أنها حصلت هذه السنة على شهادة نهاية الدراسة الثانوية، بتقدير جيد، وعلى القسم الأول من البكالوريا، اللغة اللاتينية/اللغات الحية (إنجليزية-إيطالية)، ويشير أيضاً إلى أنها حصلت على جائزة جيمس هايد لحصولها على أعلى الدرجات في تقييم مادة اللغة الإنجليزية في امتحانات شهادة نهاية الدراسات الثانوية”.
وبعد مونبلييه وشهادة نهاية الدراسات الثانوية والبكالوريا، يعثر المؤرخان مرة أخرى على سوزان في ثانوية فنلون بباريس التي سجلت فيها بين الأول من تشرين الأول/تشرين الأول 1913 و31 كانون الأول/كانون الأول عام 1914، في القسم السادس آداب (لغة إنجليزية)، بغية الاستعداد لدخول مسابقة الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا بسيفر، برفقة صديقتها الحميمة، إيرين فالييه، من منطقة سافوا، المولودة بتاريخ الأول من تموز/تموز 1895 بشامبيري، والتي ستكون إحدى الشهود، فيما بعد، على زواج سوزان وطه حسين في آب/آب 1917.
توقفت سوزان عن استكمال دراستها بناء على طلب من أمها لتعود إلى مونبلييه عام 1915، كي تكون في مأمن من القصف الألماني، خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وربما كانت تنوي، بحسب رأي المؤرخين الفرنسيين، استئناف دراستها بعد فترة للإعداد لخوض مسابقة تسمح لها بالحصول على درجة معلمة في التعليم الثانوي العام للفتيات.
“حين ينبض الحب في عتمة الحياة”
كان طه حسين يطلق على سوزان لقب “الصوت العذب”، نظراً لعذوبة صوتها أثناء قراءتها له
عندما لجأت سوزان بريسو وعائلتها إلى مدينة مونبلييه، عثرت على فرصة عمل هناك لقراءة النصوص لطالب دراسات عُليا كفيف، يدعى طه حسين.
ويقول مؤنس طه حسين، نقلاً عن حديث مع الكاتب اللبناني شربل داغر منشور تحت عنوان “على خطى طه حسين” في مجلة “ذا يونسكو كوريير”، عدد آذار/آذار 1990، التي تصدرها منظمة اليونسكو: “بما أن والدي كان كفيفاً، فقد كان بحاجة إلى من يساعده في اللغة الفرنسية ويقرأ له، فوضع إعلاناً في إحدى الصحف المحلية، فتقدّمت سوزان للوظيفة، لكنها لم تكتف بالقراءة له فقط، بل كانت ترافقه إلى محاضراته في كلية الآداب في جامعة مونبيليه، وعندما انتقلا إلى باريس، كانت تمشي بجانبه يداً بيد من مكان سكنه إلى السوربون”.
وتقول سوزان طه حسين نفسها في مذكراتها “معك: من فرنسا إلى مصر”، التي كتبتها بعد وفاة طه حسين بناء على مقترح من الفرنسي جاك بيرك، أستاذ التاريخ الاجتماعي والحضاري في الكوليج دو فرانس، وترجمه من الفرنسية بدر الدين عرودكي: “أول مرة التقينا فيها كانت في 12 أيار/آيار 1915 في مونبلييه (ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص). لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي، التي كانت بصحبتي، أن تتصور أمراً مماثلاً” .
وتضيف: “كنت في شيء من الحيرة، إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمتُ أعمى. لقد عدتُ إليه أزوره بين الحين والآخر في غرفته التي كانت غرفة طالب جامعي. كنا نتحدث وكنت أقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسي. ولعل القدر كان قد أصدر قراره بالفعل، فقد كان هناك أعمى آخر، هو الأستاذ الإيطالي الذي كان يدرّس له اللغة اللاتينية، قد أدرك ذلك وقال له: سيدي هذه الفتاة ستكون زوجتك”.
كان طه يطلق على سوزان لقب “الصوت العذب”، نظراً لعذوبة صوتها أثناء قراءتها له وهو يعمل على إتقان لغته الفرنسية، إذ لم تكن جميع المراجع الدراسية متاحة بطريقة “برايل”، وقد أفصح في مذكراته الذاتية “الأيام”، عن أن القلق لم يعرف طريقاً إلى قلبه منذ اللحظة التي سمع فيها ذلك “الصوت العذب” لأول مرة.
شعر طه حسين منذ لقائه الأول بسوزان بإحساس عميق بأنها ستكون امرأة حياته
سجل طه حسين إحساسه الأول بسوزان قائلاً: “وإذا هو (أي طه حسين) لا يعرف الوحدة ولا يجد الوحشة حين يخلو إلى نفسه إذا أظلم الليل، وكيف تجد الوحدة أو الوحشة إلى نفسه سبيلاً، وكيف تبلغه تلك الخواطر التي كانت تؤذيه وتضنيه وتؤرِّق ليله، وفي نفسه صوت عذب رفيق يشيع فيه البرَّ والحنان، ويقرأ عليه هذا الأثر أو ذاك من روائع الأدب الفرنسي القديم؟”
ويضيف: “سمع الفتى (أي طه حسين) ذلك الصوت يقرأ عليه شيئاً من شعر راسين ذات يوم. فأحس كأنه خُلق خلقاً جديداً، ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلاً”.
شعر الطالب طه حسين منذ لقائهما الأول بإحساس عميق بأنها ستكون امرأة حياته. وفعلاً، وبعد فترة من الزمن، رغب طه وسوزان في الزواج، لكن واجهتهما عقبات.
وتتذكر سوزان ما قاله لها طه ذات يوم: “(اغفري لي، لابد أن أقول لك ذلك، فأنا أحبكِ). صرخت وقد أذهلتني المفاجأة بفظاظة: (ولكني لا أحبك!) كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن (آه، إنني أعرف ذلك جيداً، وأعرف جيداً كذلك أنه مستحيل)”.
وتضيف في مذكراتها: “ويمضي زمن، ثم يأتي يوم آخر أقول فيه لأهلي إنني أريد الزواج من هذا الشاب. وكان ما كنت أنتظره من رد الفعل: (كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنك جننت تماماً”.
ويقول مؤنس طه حسين: “عائلتها كانت مصدومة من فكرة زواجها بطالب مصري، ليس فقط لأنه فقير ومسلم، بل لأنه كفيف أيضاً. لكن والدتي رفضت التراجع. فقام أحد أعمامها، وكان كاهناً ذكياً ومثقفاً، بالخطوة الحاسمة. بطلب من جدتي، طلب ساعة يخلو فيها مع والدي. ذهبا في نزهة، وكان الكاهن ممسكاً بذراع أبي، يتحدثان في أمور شتى. وعندما عادا، قال الكاهن لشقيقته: لا تقلقي! بل بالعكس، يجب أن تفرحي. هذا الشاب عبقري. وسوزان كانت تعرف ذلك بالفعل. وتزوّجا في الثاني من آب/آب 1917”.
وفي غضون خمس سنوات، وبدعم من سوزان، حصل طه حسين على شهادة الليسانس، ثم دبلوم الدراسات العليا في موضوع عن تاكيتوس، واجتاز بنجاح امتحان “الأغريغاسيون” التنافسي لتأهيل أساتذة الجامعة، كما نال شهادة الدكتوراه عن رسالته البحثية عن المؤرخ العربي في القرن الرابع عشر، ابن خلدون، الذي يعد مؤسس علم الاجتماع، كما أتقن اللغتين اليونانية واللاتينية.
“قلب واحد وديانتان”
في غضون خمس سنوات، وبدعم من سوزان، حصل طه حسين على شهادة الليسانس، ثم دبلوم الدراسات العليا
رغم أن سوزان بريسو كانت مسيحية كاثوليكية الإيمان وطه حسين مسلم العقيدة، إلا أن اختلاف الديانة لم يكن عائقاً أمام قصة حبهما النادرة، بل على النقيض من ذلك، صار الاختلاف أرضية مشتركة وخصبة لحوار داخلي عميق، ونقطة التقاء بين روحين تجاوزتا حدود الطقوس والمذاهب، وسكنتا في فضاء أرحب يفيض بالفهم والاحترام المتبادل.
لم ترغب سوزان يوماً في أن تغيّر قناعات طه، ولم يسع هو لزعزعة إيمانها، بل احترما بعضهما بعضاً، فصار الحب بينهما جسراً من الاحترام والرفقة والمثابرة، وأثبتا أن ما يجمع القلوب أعمق بكثير من أن تفرّقه المعتقدات الدينية، وأن الإرادة الصادقة قادرة على بناء بيت واحد، تسكنه روحان في سلام لا يعرف سبيلاً للانقسام.
وتتذكر سوزان في الثالث من حزيران/حزيران في مذكراتها قائلة: “بالأمس كان (عيد) العنصرة، ومرة أخرى ترد إلى خاطري بصفاء بالغ ذكرى العنصرة في (غاردونيه) كنت قد استمعت إلى القداس في الكنيسة من الأعلى، وكان القس العجوز قد قرأ إنجيل يوحنا. كان الصباح رائعاً، وكان كل شيء نديّاً وجميلاً: السماء، والبحيرة، والأشجار، والأزهار. كل شيء يبهر البصر، وكنتُ أنحدر نحو الفندق وأنا أتلو بيني وبين نفسي (قول المسيح): سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم (إنجيل يوحنا27:24)”.
وتضيف: “وإذ أذكر اليوم هذا الصباح، أفكر بهذا التوافق الخفي الذي وحّدنا دوماً في احترام كل منّا لدين الآخر. لقد دُهش البعض من ذلك، في حين فهم البعض الآخر، إذ رأى أن بوسعي أن أردد صلاتي على حين أستمع إلى القرآن في الغرفة المجاورة، ويصدفني اليوم أن أفتح المذياع لأستمع إلى آيات من القرآن عندما أبدأ في تسبيحي، بل إني لأسمعه على كل حال في أعماق نفسي”.
وتقول سوزان، متذكرة طه حسين مخاطبة إياه في نفسها: “كنت غالباً ما تحدثني عن القرآن، وتردد لي البسملة التي كنت تحبها بوجه خاص. وكنت تقرأ التوراة، وكنت أتحدث أنا عن يسوع. كنت تردد في كثير من الأحيان: (إننا لا نكذب على الله)، لقد قالها القديس بولس. لا شك أننا لا نكذب على الله، وويل للمكذبين”.
كما كتبت سوزان عن زيارة قاما بها معاً ذات مرة إلى القدس، ولخّصت تجربتهما الغنية في زواج بين ديانتين قائلة: “لم يكن فندقنا بعيداً عن كنيسة القيامة، كان الوقتُ وقت عيد الفصح والحج… وصلينا (سوزان وطه)، كل في قلبه، في مسجد عمر وفي الجثسيماني”.
وتتذكر: “في كثير من المرات التي كنا نتحدث فيها، كان يستشهد ببيت من الشعر أو بمثل أو بآية من القرآن الذي كان يحب أن يقرأه لي وأن يترجمه لي”.
“تلاحم روحي”
عميد الأدب العربي طه حسين وإلى جواره زوجته ورفيقة مشواره سوزان بريسو(صورة أرشيفية)
كان الارتباط الأسري بين سوزان وطه حسين ارتباطاً فريداً بلغ حد التلاحم بما جعل لحظة الابتعاد بينهما مؤلمة كالجُرح المفتوح، ولم يكن وجودهما في منزل واحد مجرد ترتيب حياتي، بل كان ضرورة روحية لكل منهما، لا يهدأ قلب أحدهما إلا بوجود الآخر بقربه.
فإذا اضطرت سوزان للسفر أو الابتعاد لسبب قهري، كان طه يعيش أيامه كأن الحياة فقدت معناها، ينهكه الشوق، ويؤلمه الغياب، وتُصبح الدقائق أثقل من أن تُحتمل، أما هي، فكانت لا تهنأ بشيء إلا حين تعود إلى طه، إلى تلك الوحدة الحميمة التي جمعت بينهما كأن لا فكاك منها. كان بيتُهما عالماً لا يُبنى إلا بوجود الاثنين معاً، وكل غياب كان شرخاً لهذا العالم، وجرحاً في قلب الأسرة التي لم تعرف يوماً سبيل الانفصال.
بعد ولادة طفليهما، مؤنس وأمينة، وبسبب هشاشة وضعهما الاقتصادي، اضطرت الأم والطفلين إلى قضاء ثلاثة أشهر في فرنسا، وكان ذلك أمراً بالغ الصعوبة على الزوجين.
وكتبت سوزان تقول: “أخيراً اتخذنا قرارنا: سأرحل مع الطفلين، حزينة القلب فاقدة العقل لمجرد فكرة ترك طه لعناية أصدقاء لا شك في إخلاصهم لكنهم لا يعرفون قط كيف يجب القيام بها. وكنت أتخيّل جيداً كل المصاعب التي كان سيواجهها في كل لحظة. ومن حسن الحظ أن كان له سكرتير يعرف عاداته تماماً، وكان ذكياً مستقيماً طيب القلب، وقمت بتنظيم الوجبات التي كان يُؤتى بها من البيت الذي كنا نسكن فيه نفسه”.
وتضيف: “كانت هذه الأشهر الثلاثة من الفراق مؤلمة، وكنتُ أشكو باستمرار متوقعة تراجع طه عن قرار سفري، وهو الذي كان قد قبل بل طالب بسفري من أجل صحة زوجته وطفليه، تاركاً بذلك نفسه لوحدة أكثر شناعة بالنسبة له بمئة مرة منها بالنسبة إلى إنسان آخر غيره”.
وتقول سوزان: “كنا، خلال هذه الأشهر الثلاثة، نتبادل الرسائل كل يوم. كانت رسائله تحكي لوعة الغياب، وتنطق بشجاعته وحبه وهيامه ببلده، وتصور مشاريعه وأحلامه والأحداث التي كان يقص عليّ تفاصيلها مع شيء من السخرية أو المرح أو العنف”.
عميد الأدب العربي طه حسين وزوجته سوزان وابنتهما أمينة وابنهما مؤنس (صورة أرشيفية)
وأوردت في مذكراتها عدة مقاطع من رسائل طه حسين، التي تشهد على عاطفة ومشاعر رقيقة، كما تكشف عن حدة طباعه، كهذا المقتطف من إحدى الرسائل: “أود لو أصف لكِ ضيقي عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة، عندما عدت من فوري إلى البيت، فقد دخلت غرفتنا وقبّلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التي لا أراها … ومع ذلك فقد فعل أصدقائي كل ما بوسعهم لتسليتي”.
ويضيف طه في رسالته لزوجته: “عندما عدتُ، واجهت هذا الفراغ، والسرير الذي لا يزال على حاله، وسرير الصغيرة المغطى، والمهد الغائب… كان ذلك أمراً رهيباً. وكنت بحاجة للشجاعة لأقوم بخلع ملابسي… ولكن أنتِ، من يسهر عليكِ؟ من يُعنى بكِ؟ لو أنني قربكِ، لا لشيء إلا لكي أحمل لكِ مؤنس، وألُبس عنكِ أمينة، وأعطيك روح النعناع!”
ويقول أيضاً: “يستحيل عليّ القيام بشيء آخر غير التفكير بكِ. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك في كل مكان دون أن أعثر عليك… كانت الزهرة قد ذبلت، فوضعتها في العلبة التي تركتها لي لأضع فيها رسائلك، سأقبّلها كل يوم. لقد استحالت الغرف معابد، وعليّ أن أزورها كل يوم. ولو أنك رأيتني أخرج من غرفة لأدخل أخرى، ألمس الأشياء، وأنثر القبلات هنا وهناك”.
ويختتم طه رسالته: “إني في طريقي لتبديد ثلاثة أشهر من عمري… هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذي يشجعني وينصحني، بدون حضورك الذي يقوِّيني؟! ولمن أستطيع أن أبوح بما في نفسي بحرّية؟! ستقولين لي: عليك أن تكتب لي، لكنكِ تعلمين جيداً أن الكتابة غير التحدث، وأن قراءة رسالة ليست هي الاستماع إلى صوت، ثم إنك تعلمين جيداً أنني كثيراً ما لا أقول شيئاً وإنما أتناول يدكِ وأضع رأسي على كتفكِ… ثلاثة أشهر … ثلاثة أشهر … فترة رهيبة. لقد استيقظتُ على ظلمة لا تُطاق، وكان لا بد لي من أن أكتب لك لكي تتبدّد هذه الظلمة. أترين، كيف أنك ضيائي حاضرةً كنتِ أم غائبة؟!”
“في مواجهة الأزمات”
تحدثت سوزان في مذكراتها عما تعرّض له طه حسين من أهوال بسبب السلطات الدينية الإسلامية بسبب كتابه عن “الشعر الجاهلي”
لم تكن سوزان مجرد رفيقة لطه حسين في أوقات الرخاء والنجاح، بل كانت عموده الصلب في أوقات المحن والانكسارات، فمنذ بداية رحلتهما، كانت حاضرة في كل أزمة مرّ بها، تسانده بصبر لا ينفد، وحب لا يتزعزع، فحين أرهقته العزلة، كانت صوته للعالم، وحين داهمته خيبات الواقع، كانت يده التي تُمسكه عن السقوط، تحمل معه أثقال المسؤولية، وتقفت إلى جواره يوماً بيوم، تُخفّف آلامه، لتزرع فيه أملاً جديداً، حتى صار وجودها سر صموده، ورفقتها درعاً يقيه من قسوة الأيام.
تحدثت سوزان في مذكراتها عما تعرّض له طه حسين من أهوال بسبب السلطات الدينية الإسلامية، حين اتُخذ الأزهر قراراً بحظر كتابه عن “الشعر الجاهلي” في عام 1926، بعد أن اعتُبر “خطراً وغير مقبول”، لأنه شكّك في تقاليد وقيم التراث القديم، الذي اعتبره بعض رجال الدين غير قابل للنقاش وتهديداً للعقيدة، وفضّل على ذلك قراءته العقلانية المستندة إلى دراسته النقدية للأدب العربي قبل الإسلام.
ويقول طه في كتابه: “شككت في قيمة الأدب الجاهلي وألححت في الشك، أو قل: ألح عليَّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقيناً فهو قريب من اليقين؛ ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين”.
وبعد أن هدأت تلك العاصفة الفكرية، أخذته سوزان إلى إحدى القرى في منطقة “هوت سافوا” الفرنسية ليستعيد عافيته ويُشفى من مرارته، وهناك، في غضون تسعة أيام فقط، كتب الجزء الأول من سيرته الذاتية “الأيام”، وفي عام 1932، وبسبب معارضته الشديدة لتسييس منح الدرجات الفخرية في الجامعة التي كان يُدرّس فيها، فُصل من عمله، ليجد نفسه عاطلاً عن العمل، ولخّصت سوزان بمرارة قدر ما كان يعانيه طه قائلة في مذكراتها: “كان طه يدفع غالباً ثمن جريمته أن يكون إنساناً حراً”.
وتقول: “لم يكتفوا بطرده من الكلية التي كان عنواناً لعزتها وكرامتها وقوةً نابضةً فيها، وإنما أرادوا أيضاً إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه، وأغرقوه بالشتائم، وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلاً بيع الصحيفة التي كان يصدرها، وبإنذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدِّم له عروضاً للعمل”.
ويسلط هذا المثال، من أمثلة عديدة، الضوء على أن حياة سوزان مع طه لم تكن عالماً مليئاً بالسعادة، فهي تقول متذكرة ما قاله لها في ذات مرة: “إننا لا نحيا لنكون سعداء”، وتعلق سوزان على تلك المقولة: “عندما يكون المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيداً، وإنما لأداء ما طُلب منه”، ثم تعود إلى كلمة قالها طه لها في ذات مرة: “لعل ما بيننا يفوق الحب”.
وتضيف: “كنا على حافة اليأس، ورحتُ أفكر: لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء، لكني كنت على خطأ، فلقد منحت (أنت) الفرح، وبذلت ما في نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنت تعرف تماماً أنه لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وإنك أساساً، بما تمتازُ به من زُهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحث عنها، فهل يُحظر عليّ الأمل بأن تكون هذه السعادة قد مُنحت لك الآن؟”
وعلى صعيد حياتهما العائلية داخل منزلها يصف مؤنس طه حسين بُعداً آخر، نقلاً عن حديثه المنشور في مجلة اليونسكو، السابق ذكرها، عن سؤال لطالما راود البعض: ما هي لغة الحوار داخل منزل طه حسين أكانت العربية أم الفرنسية؟، ويقول ابنهما: “كنا نتحدث الفرنسية دائماً في المنزل. لم تتعلم والدتي العربية بشكل حقيقي. كانت تتحدث بها بدرجة كافية للتسوق والتعامل مع مواقف الحياة اليومية”.
ويضيف: “أعتقد أن والدي كان سعيداً باستخدام الفرنسية في المنزل. لقد كتب مقالات ومحاضرات بالفرنسية، ولكن ليس بدافع ميول شخصية بقدر ما كان استجابةً للطلبات. كانت العربية هي اللغة التي يفكر بها ويشعر من خلالها. ولم يبدأ بنقل أفكاره ومشاعره إلى لغات أخرى إلا لاحقاً”.
“رحيل دون افتراق”
لم تكن قصة حب سوزان بريسو وطه حسين مجرد لقاء جمع بين رجل وامرأة، بل كانت رحلة عمر امتزج فيها العقل بالعاطفة
عندما فارق طه حسين الحياة في 28 تشرين الأول/تشرين الأول عام 1973، لم يكن الحزن عند سوزان مجرد دموع أو غياب، بل انطفاء نور رافقها ما يزيد على نصف قرن، وكتبت تصف نهاية مشواره معها في مذكراتها: “لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقاً ذلك السبت 27 تشرين الأول/تشرين الأول، ومع ذلك، ففي نحو الساعة الثالثة من بعد الظهر شعر بالضيق. كان يريد أن يتكلم، لكنه كان يتلفظ الكلمات بعسر شديد وهو يلهث. ناديت طبيبه والقلق يسيطر عليّ. لكني لم أعثر عليه، فركبني الغم، وعندما وصل، كانت النوبة قد زالت، وكان طه قد عاد إلى حالته الطبيعية”.
وتضيف: “ثم جاءت الليلة الأخيرة. ناداني عدة مرات، لكنه كان يناديني على هذا النحو بلا مبرر منذ زمن طويل. ولما كنت مرهقة للغاية، فقد نمت، نمت ولم أستيقظ، وهذه الذكرى لن تكفَّ عن تعذيبي”.
توفي طه وتوقف القلب إلى الأبد، وتتذكر سوزان وفاة رفيق عمرها قائلة: “جلستُ قربه، مرهقة متبلدة الذهن وإن كنت هادئة هدوءاً غريباً (ما أكثر ما كنت أتخيّل هذه اللحظة المرعبة!) كنا معاً، وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن أبكي – فقد جاءت الدموع بعد ذلك – ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث”.
وتقول: “كان الواحد منّا قِبَلَ الآخر. مجهولاً ومتوحداً، كما كنّا في بداية طريقنا. وفي هذا التوحد الأخير، وسط هذه الألفة الحميمة القصوى، أخذتُ أحدّثه وأقبّل تلك الجبهة التي كثيراً ما أحببتها، تلك الجبهة التي كانت من النُبل ومن الجمال بحيث لم يجترح فيها السن ولا الألم أي غضون، ولم تنجح أية صعوبة في تكديرها … جبهة كانت لا تزال تشع نوراً”.
لم تكن قصة حب سوزان بريسو وطه حسين مجرد لقاء جمع بين رجل وامرأة، بل كانت رحلة عمر امتزج فيها العقل بالعاطفة، والصوت بالنور، والاختلاف بالاتحاد، كانت سوزان عينيه التي لا تُبصر، وصوته الداخلي الذي لا يصمت، كانت ملاذه في العُزلة، ورفيقته في النجاح وفي قسوة الأيام.
أما هو، فكان حكايتها الثريّة التي كتبتها بالحب وبالاختيار الحر، في بيتهما، اجتمع الشرق بالغرب، والإسلام بالمسيحية، والفرح بالألم، أصبح بيتهما وطناً للروح والمعنى، وبعد رحيله ظلت سوزان شاهدة على حب لا ينطفئ، حاضنة لذكرى رجل، صنع النور من العمى، والحياة من الكلمة.
في نيسان/نيسان 2022، دخل شخصان مكتبة جامعة تارتو في إستونيا، وطلبا الاطلاع على ثمانية كتب لفنانين من القرن التاسع عشر: الشاعر والكاتب المسرحي الروسي ألكسندر بوشكين، والكاتب الروسي الشهير من أصل أوكراني نيكولاي غوغول.
تحدث الرجلان بالروسية، مؤكدين لموظف المكتبة أن الأصغر سناً منهما يُجري بحثاً لإكمال دراسته في الولايات المتحدة.
بعد ثلاثة أشهر، لاحظ موظفو المكتبة استبدال كتابين من الكتب الثمانية بنسخ مزيفة. وكشفت سجلات المكتبة أن الكتابين الأصليين كانا قد خرجا للمرة الأخيرة بحوزة نفس الرجلين في نيسان/نيسان.
سارع أمناء المكتبة إلى فحص الكتب الستة الأخرى التي تعد من الكلاسيكيات الروسية. وبعد فحص دقيق، تبيّن أن جميعها مزيفة بطريقة متقنة، إذ كانت تبدو أصلية لوجود أختام المكتبة وأرقام الجرد عليها.
لم تكن مكتبة تارتو هي الضحية الوحيدة. فبعد أسابيع، اختفت أيضاً عشرة كتب نادرة من مكتبة جامعة تالين في العاصمة الإستونية.
سرقة نسخة نادرة من رواية لماركيز في معرض ببوغوتا
ألف ليلة وليلة: قصة الكتاب الأكثر سحرا في الشرق والغرب
على مدار 18 شهراً، سُرقت طبعات أصلية لكتب كلاسيكية روسية وغيرها من المطبوعات الأثرية باللغة الروسية من عشرات المكتبات الأوروبية في دول البلطيق وفنلندا وسويسرا وفرنسا.
في بعض الحالات، استُبدلت النسخ الأصلية بنسخ مزيفة، وفي حالات أخرى، خرجت الكتب من المكتبة ولم تعد إليها أبداً.
وفي استجابة لتلك الحوادث، أطلقت وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال إنفاذ القانون (يوروبول) تحقيقاً يسمى بـ”عملية بوشكين”، نسبةً إلى سرقة أعمال الكاتب المسرحي الروسي. وشارك في التحقيق أكثر من 100 ضابط، إذ قاموا بتفتيش عدد من الممتلكات في عدة دول أوروبية. وأسفرت الحملة حتى الآن عن اعتقال تسعة من المشتبه بهم، جميعهم يحملون الجنسية الجورجية.
كأس العالم 2022: لماذا اتهم مغاربة الفيفا وقطر بـ “سرقة” تراثهم؟
المُدان بيكا تسيريكيدزه، يظهر على يمين الصورة المركبة مع نيكولاي غوغول، قائلاً لبي بي سي إنه شعر وكأنه “ساحر” مع الكتب.
“الساحر مع الكتب”
كان بيكا تسيريكيدزه البالغ 48 عاماً، أول مشتبه به يُقبض عليه. حُوكم وأُدين بارتكاب ثلاث جرائم في بلدين مختلفين في نفس الوقت، لاتفيا وإستونيا، بينها سرقات من مكتبتي تارتو وتالين.
يقضي تسيريكيدزه حالياً عقوبة السجن لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر في إستونيا، حيث يُسمح للسجناء بالتحدث إلى الصحفيين.
وفي حديثه لبي بي سي قال تسيريكيدزه، إنه قرر عام 2008 الاتجار في الكتب القديمة، من خلال شرائها وترميمها وإعادة بيعها، لتوفير احتياجات أسرته.
وعن التعليم الذي تلقاه للعمل كمرمم كتب، أوضح أنه “تعلم كل شيء من خلال المآذارة”.
وشبّه نفسه بأنه مثل “ساحر” مع الكتب. مضيفاً: “بمجرد أن أُمسك الكتاب أستطيع أن أحدد فوراً قيمته والمبلغ الذي قد يدفعونه في المزاد من أجله”.
كانت أول مواجهة لتسيريكيدزه مع القانون في عام 2016 عندما أُدين في جورجيا بتهمة سرقة كتب قديمة من متحف تبليسي التاريخي. وقد اعترف بذنبه في ذلك الوقت، ليصدر ضده حكماً بالسجن مع وقف التنفيذ.
تختفي الكتب القديمة والقيّمة من مكتبات الجامعات لأن اللصوص يفترضون أنها لن تُكتشف لعدة أشهر.
“أكبر عملية سرقة منذ الحرب العالمية الثانية”
في تشرين الأول/تشرين الأول 2023، جلس زوجان شابان في قاعة المطالعة بمكتبة جامعة وارسو: ارتدى الرجل قبعة بيسبول سوداء وكانت المرأة ذات شعر أحمر.
كان يتصفحان كتباً قديمة في المكتبة، وفي لحظة ما، كان الرجل يُقبّل رفيقته على خدها. ظهر كل هذا في تسجيل من كاميرا مراقبة.
تبيّن أن الشاب هو ماتي، ابن تسيريكيدزه، أما المرأة فهي آنا غوغولادزي، زوجة ماتي.
لاحقاً قبضت الشرطة عليهما بتهمة سرقة كتب من المكتبة، تُقدر قيمتها بحوالي 100 ألف دولار، وأُدينا بالجريمة.
تمتلك جامعة وارسو مجموعة ثرية جداً من كتب ما قبل وما بعد الاتحاد السوفيتي. وكانت هذه المطبوعات قد نجت بأعجوبة من انتفاضة وارسو عام 1944، عندما احترق مبنى الجامعة نفسه.
قال البروفيسور هيرونيم غرالا، من جامعة وارسو لبي بي سي: “نحن الجيل الذي يدرك تماماً فكرة أن أحدهم حافظ على هذه الكتب من أجلنا ذات يوم”.
خلال أقل من عام، بلغ إجمالي السرقات من مكتبة الجامعة 73 نسخة نادرة، تُقدر قيمتها بنحو 600 ألف دولار. ولم يُقبض على بعض الجناة حتى الآن.
وصف البروفيسور غرالا حجم الجرائم لوسائل الإعلام، بأنها “أكبر سرقة منذ الحرب العالمية الثانية. إنها تشبه تحطيم جوهرة تاج”.
استهدف ماتي نجل تسيريكيدزه وزوجته آنا جوجولادزي، مكتبة جامعة وارسو.
لم يلاحظ موظفو المكتبة استبدال الكتب الأصلية بالمزيفة على الفور. قال البروفيسور غرالا: “إن الكتب المزيفة كانت تحمل الرمز نفسه (الكود)، وبنفس حجم النسخ الأصلية، ولم تكن هناك كتب مفقودة من على الرفوف”.
وقال البروفيسور غرالا لبي بي سي: “لا شك أن مجموعة اللصوص التي وصلت في البداية (كانت تستهدف كتباً محددة) وأعدت نفسها جيداً. ويبدو أنهم صنعوا نُسخاً عالية الجودة”.
وأشار البروفيسور غرالا إلى أن الإصلاحات المكتبية الأخيرة التي خضعت لها هذه المكتبة ربما كانت السبب في تزايد عدد السرقات، خاصة تلك المتعلقة بتخفيف قواعد الفحص للكتب النادرة والقديمة.
وتهدف هذه الإجراءات في الأصل إلى زيادة سهولة وصول القُرّاء للكتب.
طابع بريدي صغير
تقليدياً، تختم جميع المكتبات حول العالم الكتب بأختام، ويختلف حجمها وفقاً للبلد والمكتبة. فعلى سبيل المثال، تتميز روسيا بـ “ختم قوي”، كما يقول الخبير وهاوي جمع الكتب النادرة، بيوتر دروزينين.
يقول الخبراء إنه من الممكن نظرياً تحديد أن الكتاب ربما سُرق من خلال هذا الختم. ومع ذلك، ليس هذا هو الحال دائماً، فقد تبيع المكتبات أحياناً الكتب كفائض لديها، كما حدث في العهد السوفيتي، بسبب ضيق مساحة المكتبات. أو ربما تُلغى المكتبة وتُغلق، كما حدث مع العديد من المكتبات الإدارية خلال فترة البيريسترويكا.
ويوضح دروزينين، أنه قد يكون من الصعب أيضاً تحديد أصل الكتب التي يوجد عليها أختام من القرن التاسع عشر وما قبله. ويقول: “إذا كان الختم من القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، قد لا نعرف ما حدث للكتاب. نعم، النسخة تعود إلى هناك (المكتبة)، ولكن لا أحد يعلم كيف خرجت”.
إضافة إلى ذلك، يمكن إزالة الأختام كيميائياً، أو استبدال الصفحات القديمة في الكتاب بصفحات جديدة مطبوعة على ورق قديم. غالباً لا يلاحظ آثار هذه التلاعبات إلا هواة جمع الكتب القديمة أو الخبراء.
نادراً ما تخلو مكتبة من كتاب قديم لا يحمل ختماً، لأن هذه الكتب أُضيفت إلى المجموعة قبل بدء العمل بنظام “وسم” جميع الكتب.
في بعض الأحيان، يقوم اللصوص بسرقة الكتب من المكتبات وعدم إعادتها ببساطة.
آلاف الدولارات
قال تسيريكيدزه لبي بي سي من سجنه في إستونيا: “نصف كيلوغرام من الذهب، قيمته 60 ألف دولار، يحرسه 22 رجلاً مسلحاً. بينما كتابان، قيمتهما 60 ألف دولار، موجودان في مكان ما في مكتبة أوروبية، تحرسهما سيدة عجوز ضعيفة. وأحياناً، لا توجد حتى كاميرات مراقبة.”
والسؤال الآن، ما هو السر وراء هذه الأسعار الباهظة، خاصة بالنسبة للكلاسيكيات الروسية من القرن التاسع عشر، والتي شهدت ارتفاعاً مطرداً في السنوات الأخيرة؟
أشار دروزينين إلى ارتفاع حاد في أسعار الكتب الروسية النادرة في السوق بين عامي 2022 و2024، عندما كانت موجة الجريمة الأوروبية في ذروتها.
وقال إنه كان ينبغي على الخبراء أن يعلموا أن “هذه ليست مجموعة خاصة تُباع”.
وأشار دروزينين إلى أن الدائرة الضيقة من مشتري الكتب الثمينة ربما اعتبروا ما يقومون به عملاً وطنياً.
وقال: “إنها لحظة عودة تاريخية لكتب مهمة إلى وطنها”.
ولنأخذ مثالاً آخر هوالمواطن الجورجي ميخائيل زامتارادزي، الذي أُدين بسرقة وبيع كتب قيّمة من مكتبة جامعة فيلنيوس في ليتوانيا في حزيران/حزيران.
سجّل زامتارادزي في المكتبة باستخدام وثائق مزورة، وطلب 17 طبعة نادرة، معظمها يحمل أختاماً. ثم استبدل 12 كتاباً بنسخ مقلدة، وسرق خمسة منها ولم يُعِدها إلى المكتبة.
قُدّرت القيمة الإجمالية للكتب المسروقة بنحو 700 ألف دولار.
اعترف زامتارادزي في المحكمة بأنه سرق الكتب بناء على طلب من موسكو، وأنه حزمها وأرسلها بالحافلة إلى بيلاروسيا، وحصل مقابل ذلك على 30 ألف دولار من العملات المشفرة.
وادّعى أن نسخاً ووثائق مزورة أُرسلت إليه أيضاً من موسكو.
كما زعم زامتارادزي أن زبونه كان عضواً رفيع المستوى في دار مزادات في موسكو.
يقول الخبراء “مجرد أن الكتاب يحمل ختماً قديماً، لا يعني بالضرورة أنه سُرق من مكتبة”.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تخضع فيها دور المزادات للتدقيق. بحسب البروفيسور غرالا، بِيعَت أربعة مطبوعات من مكتبة جامعة وارسو في دار المزادات “ليت فَند” في موسكو في أواخر عامي 2022 و2023.
حصلت بي بي سي على لقطات مصوّرة لموقع المزاد الإلكتروني من قبل من البروفيسور غرالا ، تُظهر الكتب المُباعة، والتي يُفترض أنها كانت من مجموعة المكتبة.
كان أحد هذه الكتب كتاب “حكايات إيفان بلكين” لبوشكين، مع وجود ختم واضح في صور الطبعة يعود للقرن التاسع عشر. وضم نفس المزاد مجموعة أخرى مكونة من أربعة مجلدات من قصائد بوشكين، حيث يمكن رؤية ختم جامعة وارسو على الصور الموجودة على صفحة دار المزادات الإلكترونية، التي اختفت لاحقاً.
صرح مدير دار مزادات “ليت فَند”، سيرجي بورميستروف، بأن المزاد يعمل وفقاً للتشريعات الروسية ولا يقبل بيع الكتب التي تحمل أختام مكتبات حكومية عاملة.
وأضاف أن مالكي الكتب يوقعون عقداً مع دار المزادات لتأكيد الأصل القانوني لأي كتاب يُقبل في المزاد، ويقوم خبير من دار المزادات بفحص كل كتاب بدقة للتأكد من خلوه من أختام أو علامات من مكتبات قائمة ومازالت تعمل.
لا تُثير الأختام القديمة الشكوك دائماً، وقال بورميستروف لبي بي سي، إن “عدداً هائلاً من كتب المكتبات الإمبراطورية الروسية توزع في سنوات ما بعد الثورة (البلشفية) في جميع أنحاء العالم، فأصبحت جزءاً من العديد من المجموعات الحكومية والخاصة، وهو ما جعلها متداولة بحرية في السوق العالمية”.
أما البروفيسور غرالا فأوضح لبي بي سي أن مسألة الأختام القديمة “مُعقدة”.
وقال: “إذا كان هناك ختم تاريخي لمكتبة جامعة وارسو، وتم الحفاظ على الرمز التاريخي، فهذا يجعلها قطعة أثرية بحد ذاتها. لن يضع أحد ختماً أو رمزاً جديداً عليها. لقد عاشت هذه الكتب مع أختامها لمدة 200 عام، ولم تتعرض للختم مرة أخرى احتراماً لها”.
حتى الآن، مازالت عملية بوشكين جارية. وينتظر مشتبه به واحد على الأقل المحاكمة في فرنسا بتهمة سرقة كتب من مكتبات هناك. وتعتقد السلطات أن العديد من المجرمين ما زالوا طلقاء، مثلهم مثل بعض أثمن الكتب في أوروبا.