by | Sep 2, 2025 | أخبار العالم
يتردّد في لبنان خبر يثير الجدل: دخول إسرائيليين إلى بعض القرى الحدودية، ودفعهم أثمان مشترياتهم بالشيكل. قد يبدو الأمر تفصيلاً محلياً في بلد يرزح تحت أزمات معقّدة، لكنّه يفتح باب الأسئلة الواسعة: هل هو مجرد حادثة عابرة؟ أم أنّه يحمل مؤشرات على محاولة احتلال اقتصادي ناعم يتسلّل إلى الجنوب اللبناني بهدوء، ويختبر قابليته للتكيّف مع واقع جديد يُراد له أن يترسّخ بمرور الوقت؟
وإذا عدنا بالذاكرة قليلاً إلى تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن “منطقة ترامب الاقتصادية” في جنوب لبنان، يصبح الربط بين الأمرين مشروعاً وضرورياً. فالمشهد النقدي الحالي قد يكون الحلقة الأولى في مشروع أكبر يستهدف تغيير طبيعة الجنوب وربطه بدائرة نفوذ إقليمي جديد.
من حادثة محلية إلى سؤال استراتيجي
الدفع بالشيكل الإسرائيلي داخل لبنان يمكن أن يُقرأ على مستويات عدة. أولاً، هو اختراق رمزي للسيادة، إذ يدخل العدو إلى السوق المحلي بأدواته النقدية، بما يوازي رفع علمه في مساحة حساسة. ثانياً، هو إشارة إلى قابلية التبعية، فالعملة ليست محايدة، بل تخلق دوائر نفوذ تجعل الطرف الأضعف جزءاً من دورة اقتصادية لا يتحكم بها. ثالثاً، هو تجربة اجتماعية – اقتصادية، إذ يختبر الطرف الآخر مدى استعداد السكان للتعامل مع رموزه في تفاصيل حياتهم اليومية. وعليه، فإن ما يبدو شراءً عادياً في متجر حدودي قد يكون جزءاً من اختبار طويل المدى: إذا تقبّل الناس العملة الإسرائيلية اليوم، فهل يتقبّلون غداً البضائع والخدمات والاستثمارات، ثم في مراحل لاحقة بنية اقتصادية موازية لما تقدّمه الدولة؟
منطقة ترامب الاقتصادية: رؤية لم تمت
حين تحدّث ترامب قبل أيام قليلة عن إنشاء “منطقة اقتصادية” في الجنوب اللبناني، بدا الطرح أقرب إلى استفزاز سياسي منه إلى مشروع واقعي. لكنّ الفكرة كانت واضحة:
1- تحويل الجنوب من ساحة مقاومة إلى منطقة مصالح اقتصادية.
2- فكّ ارتباط الجنوب عن بيروت وربطه بشبكة إقليمية تقودها تل أبيب.
3- فتح الباب للتطبيع التدريجي عبر الاقتصاد لا عبر السياسة المباشرة.
اليوم، مع شيوع أخبار عن دخول إسرائيليين جنوب لبنان ودفعهم بالشيكل، تبدو هذه الرؤية وكأنها تجد طريقها إلى التطبيق غير المباشر، فالمنطقة الاقتصادية التي لم تولد رسمياً، قد تُزرع بذورها عبر وقائع صغيرة ومتكررة تفرض نفسها على الأرض.
من الإشاعة إلى المخطط
الشيكل في القرى الجنوبية ليس مجرد “عملة دخيلة”، بل يمكن اعتباره خطوة أولى في اتجاه جعل الجنوب جزءاً من دائرة نفوذ اقتصادي أوسع. وإذا وضعنا هذا الحدث في سياق “منطقة ترامب الاقتصادية”، يصبح المشهد أكثر وضوحاً:
• العملة بَوابة: قبل أي مشاريع أو استثمارات، تبدأ عملية الاحتلال عبر دخول عملة العدو.
• الاعتياد التدريجي: كل عملية دفع بالشيكل تُرسّخ فكرة أن التعامل مع إسرائيل أمر واقع.
• إحياء فكرة ترامب: عبر تطبيق عملي صامت لما طُرح يوماً خطة سياسية.
بهذا، يصبح الحدث اليومي – المحلي انعكاساً لاستراتيجية أعمق، قاعدتها الاقتصاد وأداتها النفوذ النقدي.
الجنوب وتحديات جديدة
عاش الجنوب اللبناني عقوداً من المواجهة العسكرية المباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي، ودفع أثماناً باهظة من الضحايا والدمار. لكنّ التحدي اليوم مختلف: إنه تحدي الاحتلال الناعم، الذي لا يعلن نفسه بالدبابات والمدافع، بل يتسلّل عبر الأسواق والمحافظ وعادات الاستهلاك. هذا النوع من الاحتلال أخطر لأنه أقل ضجيجاً، وأكثر قدرة على التمدد من دون أن يثير ردات فعل فورية. ومع مرور الوقت، قد يجد السكان أنفسهم جزءاً من دورة اقتصادية إسرائيلية، من دون أن يدركوا أنّ ذلك يعادل فقداناً تدريجياً للسيادة.
خلفية تاريخية: احتلال 1982
تجربة الاحتلال العسكري الإسرائيلي للجنوب عام 1982 تشكّل خلفية ضرورية لفهم المشهد الحالي. حينها، اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت دباباتها إلى بيروت، وأقامت “الحزام الأمني” في الجنوب، مستعينة بمليشيات متعاملة معها لضبط المنطقة. الهدف كان واضحاً: تحويل الجنوب إلى منطقة عازلة تخدم مصالحها الأمنية والسياسية.
غير أنّ الدرس الأبرز من تلك المرحلة أنّ الاحتلال العسكري، رغم عنفه، لم يستطع أن يفرض واقعاً دائماً. واليوم، بعد أربعة عقود، يبدو أنّ إسرائيل تعود إلى الجنوب بوسائل مختلفة: ليس بالدبابة والمدفع، بل عبر محاولات احتلال ناعم يتسلّل من بوابة الاقتصاد، تماماً كما يُشاع عن الدفع بالشيكل في القرى الحدودية. الفارق أنّ الاحتلال الصلب كان يُواجه بالسلاح، أما الاحتلال الناعم فيحتاج إلى وعي ومقاومة اقتصادية – تنموية لا تقل شراسة.
معركة جديدة: الاقتصاد بدل المدفع
إن ما يجري اليوم على الحدود الجنوبية ليس إشاعة عابرة، بل مؤشر على احتلال إسرائيلي يجد غطاءً في مشروع “منطقة ترامب الاقتصادية”. فالعملة التي تُدفع في متجر حدودي قد تكون الشرارة الأولى لتغيير أوسع يستهدف هوية الجنوب وموقعه الاستراتيجي.
الجنوب الذي صمد أمام الاحتلال العسكري لا يجوز أن يُترك رهينة لمحاولات الاحتلال الاقتصادي. المطلوب اليوم مقاومة من نوع جديد: مقاومة اقتصادية وتنموية، تضمن بقاء الجنوب جزءاً من الوطن، لا مشروعاً اقتصادياً مفصلاً على قياس الاحتلال.
المعركة لم تعد فقط في السماء وعلى الحدود، بل في الأسواق، في الجيوب، وفي تفاصيل الحياة اليومية. والرسالة يجب أن تكون حاسمة: الجنوب ليس للبيع، والاحتلال الناعم لن يمر. فمن فشل في 1982 وفشل في 2006 لن ينجح اليوم بثوب التنمية والعملة.
إلى جانب السياسات الرسمية، تبقى المناعة الاجتماعية خط الدفاع الأهم. فالوعي الشعبي بما يحمله التعامل بالشيكل من أبعاد سياسية وسيادية يحدّ من قدرة الاحتلال الناعم على التمدّد. وهنا على الدولة أن تقوم بدورها في بناء ثقافة اقتصادية – وطنية، تشرح للناس أنّ المسألة ليست مجرّد ورقة نقدية، بل قضية كرامة وانتماء. فحين يدرك المواطن أنّ خياره في الدفع أو الشراء يعادل موقفاً سياسياً، يتحوّل السلوك الفردي إلى خط دفاع جماعي. هذه الشراكة بين الدولة والمجتمع تجعل أي محاولة اختراق أكثر كلفة وأقل قابلية للنجاح، لأنها تواجه جبهة متماسكة من القوانين من جهة، والوعي الشعبي من جهة أخرى.
by | Aug 29, 2025 | اقتصاد
على وقع استمرار اعتداءات اسرائيل جنوبي لبنان ومواصلتها سياسة التدمير وتهجير سكان القرى الحدودية، في إطار نيّاتها إقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح وخالية من السكان، برز إعلان الموفد الأميركي توماس برّاك من بيروت عن اقتراح إنشاء منطقة اقتصادية وكيفية تنفيذها “بطريقة واقعية”، وذلك بعد نزع سلاح حزب الله.
وبعيداً من غطاء العنوان الاقتصادي، تتمسّك أميركا ومن خلفها إسرائيل بفرض واقع أمني ديمغرافي جديد في القرى الحدودية لحفظ أمنها واستقرارها، وإنهاء وجود حزب الله، بما في ذلك بيئته، علماً أنّ لبنان نفذ تعهداته باتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 27 تشرين الثاني/ تشرين الثاني الماضي، ويعمل عبر جيشه وقوات الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل) على مصادرة الأسلحة وتفكيك شبكات الأنفاق، وينتظر انسحاب جيش الاحتلال من النقاط التي يحتلها لاستكمال انتشاره، ولم يعد بالتالي الحزب مسيطراً على المنطقة.
وقال برّاك من مقرّ الرئاسة اللبنانية يوم الثلاثاء “بخصوص المنطقة الاقتصادية، كيف يمكن تنفيذها بطريقة واقعية، كيف نحلّ كلّ هذه المسائل من بين المسائل الأخرى.. سأنتقل من أميركا إلى فرنسا، ومنها إلى ألمانيا والسعودية ودول خليجية. ما سينجح هو أمل الازدهار، ويجب أن تكون لدينا أموال والأموال تأتي من الخليج”.
وأضاف: “إذا ما انطلقنا من المجتمع الجنوبي الذي يتخلّى عن حياته ورزقه عندما نقول عن نزع سلاح حزب الله، ماذا ستفعلون بالذين يتلقون أجراً من إيران ومن حزب الله. هل نقول لهم أعطونا سلاحكم واذهبوا لزرع بعض الأشجار؟ لا يساعدنا ذلك”، متابعاً كلامه “علينا أن نتمكن من مساعدتهم جميعاً من أميركا ودول الخليج ولبنان، وسنعمل معاً من خلال خلق وإنشاء صندوق اقتصادي سيؤمن الرزق والحياة، وسيكون موجوداً إذا كانت إيران تريد ذلك أم لا”.
وتختلف الآراء في لبنان، بين من يؤيد هذه الفكرة، بشرط أن تكون بعيدة من أي مصلحة أو أطماعٍ إسرائيلية فيها، باعتبار أنّ المشروع من شأنه أن يساهم في إعادة الإعمار وهي عملية تتطلب مليارات الدولارات في ظل حجم الدمار والشروط الدولية الحازمة بمسألة الدعم، كما يعود للمجتمع الجنوبي بفوائد اقتصادية استثمارية معيشية، وبين من يرفضها بشكل كامل، في ظل عدم ثقته لا بالأجندة الأميركية ولا تلك الإسرائيلية، التي تسعى إلى خلق مشروعها التوسّعي الكبير في المنطقة وستبقى إسرائيل تمثل بالنسبة إلى الجنوبيين تهديداً لهم، وكذلك أميركا التي رفض السكان زيارة مبعوثها برّاك إلى أرضهم.
في الإطار، يقول الكاتب والباحث الاقتصادي علي نور الدين لـ”العربي الجديد” إن الموضوع أبعد بكثير من حسابات الجدوى الاقتصادية، فهو يحمل تهجيراً مقنعاً وسيودي بالبلد إلى مشكل كبير، خصوصاً أن النسيج الاجتماعي الجنوبي لن يقبل به.
ويشير نور الدين إلى أن أي منطقة اقتصادية عادة تكون مرتبطة برؤية اقتصادية كبرى على مستوى البلد ككل، بحيث تحدّد القطاعات حيث الميزة التنافسية، ويجرى العمل على تنميتها وإقامة بنى تحتية لخدمتها، وغيرها من الخطوات التي يمكن أن تكون في الإطار السياحي أو الصناعي أو التجاري، فلكلّ دورها، ومواقعها المرتبطة بها، إذ على سبيل المثال، المنطقة التجارية تكون على مقربة من الموانئ والمطارات النشيطة لتآذار أنشطة الاستيراد والتصدير، وما إلى ذلك حتى تنشأ وتستمرّ وتنجح.
تبعاً لذلك، يعتبر نور الدين أن المطروح اليوم لا يستند إلى رؤية اقتصادية، أو أي خطة بهذا الاتجاه، لا بل هناك أمور تدعو إلى السخرية، فنحن نتحدث عن منطقة اقتصادية على الحدود، بينما لا توجد اتفاقية سلام أو تطبيع مع إسرائيل، لتبرير إنشاء منطقة تجارية مثلاً بين البلدين، وهو ما ينفي أيضاً مبرّر إنشاء منطقة تجهيز للصادرات.
كذلك يقول نور الدين إن لا مقومات حتى لإنشاء هذه المنطقة، فتجارياً لا موانئ ولا مطارات، وصناعياً يتطلّب وجودها مواقع تملك قيمة تنافسية كبيرة، من ناحية البنية التحتية الداعمة للنشاط الصناعي، وغيرها من الشروط المطلوبة، وهذه غائبة أيضاً، ولا تتوفر في مناطق حدودية تُعدّ نائية، مشيراً إلى أن هناك مشاريع قائمة أساساً في لبنان ولم تنفذ بعد، حتى في بيروت أو طرابلس شمالاً، فكيف بمنطقة حدودية فيها توترات أمنية مستمرّة؟
من ناحية ثانية، يشير نور الدين إلى أننا نتحدّث عن عددٍ من القرى حيث إسرائيل موجودة وتقيم مراكز لها وتسيطر على الجو ولا تسمح للأهالي بالعودة، لذلك، الخطير أنه يحكى عن منطقة اقتصادية كبديل عن الانسحاب، وعن منطقة خالية من السكان كبديل عن عودة الأهالي، بالتالي، لسنا أمام مشروع اقتصادي له أفق، بل تهجير وتغيير ديمغرافي يأخذ لوناً وطابعاً اقتصاديين.
ويشدد نور الدين على أن طرح المشروع حتى بالصيغة التي تمّت فيه الكثير من الاستعلاء والاستخفاف بقيمة البشر وحياتهم وكرامتهم ورزقهم وقراهم التي عمرها عقود من الزمن وذات تاريخ طويل، إذ يأتي برّاك ليتحدث عن منطقة ترامب الاقتصادية ومنح الناس فرص عمل ومال، بطريقة فيها استخفاف بالإنسان، مشيراً إلى أن طرح الفكرة وتبريرها مستفزان أكثر من الفكرة نفسها.
من جهته، يقول العميد الركن المتقاعد أنطون مراد لـ”العربي الجديد” إن المنطقة الاقتصادية في الجنوب لها شقان، مادي وأمني، فهناك من جهة استيعاب لأهل الجنوب، وتأمين فرص عمل لهم، وإقامة استثمارات لأبناء الجنوب بحيث يصبح هناك رأس مال على الحدود، ما يضعّف جداً إمكانية الحرب وهو الهدف الذي يسعى اليه الأميركي.
ويشير مراد إلى أن المنطقة الاقتصادية ليس بالضرورة أن تقام مكان المنازل والبيوت، فهناك ملايين الأمتار المربعة التي كانت محرّرة ومهملة ولم يصلها اللبناني إلى الآن وقد تكون أمكنة صالحة للمنطقة الاقتصادية، وفي حال مثلاً وصلنا إلى مرحلة الاستغناء عن قوات الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل) يمكن إقامة مصانع في مراكزها وتكون كافية لازدهار الجنوب وتحسين أوضاع الجنوبيين.
في المقابل، يرى مراد أن ما يحصل شكل من أشكال التطبيع، باعتبار أن المنطقة الاقتصادية تقوم على الزراعة بالدرجة الأولى والصناعة الزراعية ثانياً، أي المزروعات ومشتقاتها، وإسرائيل على الحدود وهي غنية جداً بالمزروعات، ما قد يؤدي إلى تشغيل المعامل من زراعات إسرائيلية يوماً ما، وبالتالي قد يكون هذا الهدف الأبعد للموضوع. ويستبعد مراد حصول هذا المشروع حالياً، لأن الانقسام السياسي حادّ جداً في لبنان ونحن حالياً في عنق الزجاجة وذاهبون إلى صدام لا محال، سواء الدولة مع حزب الله أو الدولة وحزب الله مع إسرائيل.