شيخوخة النقل العام الجزائري تتحول إلى فاجعة.. ما القصة؟

شيخوخة النقل العام الجزائري تتحول إلى فاجعة.. ما القصة؟

في إحدى ضواحي العاصمة الجزائرية، تحوّل وادي الحراش من مجرى مائي يقطع المدينة إلى مسرح لمأساة وطنية. حافلة مهترئة تعود إلى سنة 2004 انزلقت وسقطت في الوادي، لتخلّف 18 قتيلاً و25 جريحاً، وتعيد فتح ملف ظلّ مؤجلاً: شيخوخة الأسطول الجزائري للنقل العمومي. الحادثة لم تكن مجرد فاجعة مرورية، بل مرآة لسياسات اقتصادية مرتبكة.

سنوات من منع استيراد المركبات وقطع الغيار ثم فتح السوق بقيود بيروقراطية، ورسوم جمركية خانقة، أدت إلى عجز عن تجديد أسطول النقل، ودفعت ملايين الجزائريين إلى التنقل يومياً في مركبات تجاوز عمر بعضها العقدين. سقوط الحافلة في واد الحراش لم يكن سوى النتيجة الحتمية لفاتورة ثقيلة عناصرها: المنع والجمركة، والمركبات المهترئة التي تواصل السير على الطرقات.

تحت ضغط الغضب الشعبي المتنامي بعد الفاجعة، اتخذ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يوم الثلاثاء 26 آب/ آب قراراً خلال اجتماع وزاري خُصص لقطاع النقل يقضي بإطلاق عملية استبدال الحافلات القديمة التي يفوق عمرها 30 عاماً، والتي يقدَّر عددها بحوالي 84 ألف حافلة، كما صادق المجلس الوزاري، على الاستيراد الفوري والمكثف لمختلف أنواع عجلات المركبات، في خطوة تهدف إلى مواجهة أزمة النقص الحاد في السوق المحلية، والتي ساهمت في ارتفاع حوادث المرور بسبب اهتراء العجلات.

وفي نفس اليوم ترأس وزير النقل اجتماعاً خُصص لبحث آليات تنفيذ تعليمات المجلس الوزراي، وأعلن الوزير عن إصدار الرئيس تبون لأوامر تقضي باستيراد 10 آلاف حافلة جديدة، إلى جانب إعداد تشريعات جديدة تهدف إلى تنظيم حركة المرور وتعزيز انسيابيتها.

ارتياح وترقب

قال عبد القادر بوشريط رئيس الفدرالية الجزائرية لنقل المسافرين والبضائع في تصريحات لـ”العربي الجديد” إن الأمر الرئاسي باستيراد 10 آلاف حافلة هو قرار تكميلي للقرار الأخير الذي يخص سحب الحافلات التي يفوق عمرها 30 سنة، وأعتبرها مثل جرعة الأوكسجين لحظيرة النقل الجزائرية التي تعاني الشيخوخة. ودعا لوضع خطة عمل للقضاء على الفوضى في قطاع النقل مشيرا إلى أن القرار الرئاسي إذا لم يتبعه هذا المخطط فلن تنتهي فوضى النقل.

من جهته قال مصطفى زبدي رئيس المنظمة الجزائرية لحماية وإرشاد المستهلك ومحيطه في تصريح لـ “العربي الجديد” إن القرار الرئاسي جاء في وقته بعد حادثة واد الحراش وحالة حظيرة النقل الجزائرية المتهرئة، منبهاً إلى أن الجزائر بلد بحجم قارة وبالتالي توفير الحافلات في مناطق دون أخرى يطرح إشكالاً ودعا لإعادة توزيع خريطة النقل في الجزائر.

ولتجسيد القرارات الرئاسية عقد وزير النقل سعيد سعيود اجتماعات طارئة مع ممثلي الناقلين الجزائريين والاتحادات المهنية والمسؤولين في قطاعه يوم 17 آب/ آب وأعلن خطة على مراحل تبدأ بسحب الحافلات الأقدم من 30 سنة في غضون ستة أشهر (رغم أن الحافلة التي هوت عمرها 21 سنة)، ثم سحب ما تجاوز 20 سنة لاحقاً، مع مرافقة جبائية وجمركية لتجديد الأسطول واقتناء حافلات جديدة أو أقل من خمس سنوات. كذلك تقرّر تشكيل لجان عبر المحافظات لمعاينة الحافلات ميدانيًا والترخيص بعملها بعد المصادقة الرسمية، ووُضع رقمٌ أخضر للتبليغ عن التجاوزات.

وفي ذات السياق، كشف الوزير يوم الاثنين 25 آب/ آب في زيارة عمل لمحافظة تمنراست (1900 كلم عن العاصمة) أن حظيرة النقل الجزائرية تقف على أعتاب أزمة غير مسبوقة، إذ يضم الأسطول ما يزيد عن 5400 حافلة يتجاوز عمرها 30 سنة و28 ألف حافلة أخرى تخطت 20 سنة من الاستعمال.

هذه الأرقام، بقدر ما تعكس حجم التهالك، تكشف أيضاً أن التدخل الحكومي لم يكن ليأتي لولا فاجعة واد الحراش التي فرضت التحرك تحت ضغط الرأي العام.

سياسات المنع ثم الفتح بقيود

لسنوات، انتهجت الحكومة الجزائرية سياسة وقف استيراد المركبات والحافلات وقطع الغيار، قبل أن تفتح السوق بشروط بيروقراطية وحصص متذبذبة. هذه السياسة، التي بررتها السلطة بالرغبة في “ترشيد الواردات” و”تشجيع الصناعة الوطنية”، خلقت فجوة واسعة بين الطلب المتزايد والعرض المحدود.

النتيجة كانت واضحة: تمديد أعمار الحافلات إلى ما بعد الحدود الآمنة، وندرة خانقة في قطع الغيار رفعت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة. الرئيس تبون أكد في اجتماع لمجلس الوزراء في الـ 26 كانون الثاني/ كانون الثاني الماضي أن الجزائر “لم تمنع الاستيراد في أي مجال إلا ما يتم تصنيعه محلياً ويلبي احتياجات السوق”، مشدداً على أن الهدف هو “تنظيم وترشيد الواردات وكبح محاولات المضاربة”.

وفي الوقت نفسه أعلن حرباً على ما سمّاه “لوبيات الاستيراد” التي يتهمها بابتزاز الدولة عبر افتعال ندرة في السوق. غير أن الواقع أظهر أن هذه السياسة أدت عملياً إلى قلة حادة في توفر بعض القطع، خاصة الأوروبية، ما جعل أسعارها تتضاعف أحياناً مرتين أو ثلاثاً. لدرجة أن البعض أصبح يلجأ لبيع سيارته مفككّة لأنها تدر عليه فائدة أكبر من بيعها كاملة بسبب غلاء كل جزء ميكانيكي فيها.

الحكومة الجزائرية بقراراتها كانت تراهن على الصناعة الوطنية للخروج من الأزمة، عبر فتح وحدات إنتاج للفرامل والكابلات، وتأسيس شبكة وطنية لصناعة قطع الغيار. لكن هذه المشاريع رغم أهميتها، ما تزال تغطي جزءاً محدوداً جداً من الطلب ولا تستطيع في المدى القصير منع الندرة أو خفض الأسعار. لتتحول سياسة المنع ثم الفتح بقيود من أداة يفترض أنها إصلاحية إلى عامل هيكلي في تعميق أزمة النقل العمومي، بعد أن أُثقل كاهل المستهلك والناقل معاً.

على خلفية المنع الذي أعقبه فتح مشروط، جاء التوجه نحو التقنين عبر قانون المالية لسنة 2024 المنشور في الجريدة الرسمية الجزائرية، العدد 86 بتاريخ 31 كانون الأول/ كانون الأول 2023. وتنص المادة 112، وفقاً للنسخة التي حصلت عليها “العربي الجديد” من موقع الأمانة العامة للحكومة الجزائرية، على تمكين الناقلين من استيراد الحافلات التي يقل عمرها عن خمس سنوات، في محاولة لإعادة تحريك عملية تجديد الأسطول بعد سنوات من التعطّل. لكن جوهر التطبيق لم يُعالج، فتنزيل المادة 112 اصطدم عملياً بأعباء جمركية ومالية وإجرائية حدّت من أثرها، إلى جانب متطلبات التوطين البنكي والملفات التقنية. ليظل تأثير القانون على تجديد أسطول النقل العام أضعف من أن يواكب حجم الحاجة في السوق، خصوصاً في المدن ذات الطلب المرتفع على النقل، هو ما جعل هذا التخفيف القانوني غير كافٍ، إذ يظل بحاجة إلى خفض الرسوم وتبسيط إجراءات الاستيراد حتى ينعكس فعلياً على السوق وعلى المستهلك والناقل.

المشكلة لم تعد تقف عند الحصص والتراخيص، بل تمتد إلى التعريفة الجمركية التي يشتكي منها الناقلون والتي بلغت 30% من قيمة المركبة، ما يعني أن الناقل الذي يستورد حافلة بقيمة 150 ألف يورو عليه دفع 45 ألف يورو رسوماً للجمركة. وفي هذا السياق كشف بوشريط لـ”العربي الجديد” أنّ الفيدرالية الوطنية لنقل المسافرين والبضائع التي يرأسها طالبت في اجتماعهم مع وزير النقل يوم 17 آب/ آب إلغاء الرسوم الجمركية لاستيراد الحافلات الأقل من خمس سنوات ولاقت تفهما من الوزير الذي تعهد بنقل الانشغال للحكومة بما أنه لا يملك سلطة القرار في التجارة الخارجية.

بدوره، ألمح وزير النقل، خلال إشرافه على إطلاق خط جوي داخلي يوم الاثنين 25 آب، إلى تشكيل فريق عمل لدراسة مراجعة الرسوم الجمركية الخاصة باستيراد الحافلات، في اعتراف ضمني بأن التعريفة أصبحت عائقاً بنيوياً.

أرقام مثيرة للجدل وغضب شعبي

في خضمّ الجدل الذي أعقب فاجعة واد الحراش، خرجت المنظمة الجزائرية لحماية وإرشاد المستهلك بأرقام مثيرة، استندت فيها إلى ما قالت إنها “مصادر موثوقة” في وزارة التجارة.

وحسب المعطيات التي نشرتها على حسابها في “فيسبوك” فإنه من أصل 1200 مؤسسة استفادت من وثائق توطين لاستيراد العجلات وقطع الغيار، هناك 500 مؤسسة لم تستورد شيئاً على الإطلاق، بينما استوردت نحو 700 مؤسسة كميات جزئية لا ترقى إلى الحصص المقررة، في حين لم يلتزم تماماً سوى 600 مؤسسة فقط. وأضافت المنظمة أن الحكومة خصصت غلافاً مالياً قدره 900 مليون دولار خلال السداسي الأول من سنة 2025 لهذا القطاع، مع احتمال تكرار المبلغ نفسه في النصف الثاني من السنة، بسبب إخلال جزء كبير من المؤسسات بالتزاماتها، مع التلويح بإدراج المخالفين في “القائمة السوداء”.

هذه الأرقام، بدل أن تُطمئن الرأي العام، زادت من حدة الغضب. كثيرون اعتبروا أن الهدف من نشرها هو تبرئة الحكومة من مسؤولية الندرة وتحويلها نحو المتعاملين الاقتصاديين. المهندس والناشط في المجال الحقوقي صلاح الدين مقري شارك منشور المنظمة الجزائرية لحماية وإرشاد المستهلك على حسابه في “فيسبوك”، وعلّق بسخرية قائلاً إن ما يجري هو “تطوع رخيص لرفع المسؤولية عن الحكومة والوزراء المباشرين عن الكوارث اليومية”، محذّراً في الوقت نفسه من مسعى لقلب المعادلة من “حكومة مع الشعب” إلى “شعب ضد شعب”.

من جهته، نقل الأستاذ الجامعي في كلية الإعلام، حمزة هواري، تجربته الشخصية في رحلة البحث عن قطع الغيار، إذ أوضح في منشور أنه اشترى في سنة 2020 عجلات لسيارته بسعر 5500 دينار جزائري (نحو 43 دولاراً)، لكنه بعد خمس سنوات فوجئ بارتفاع السعر إلى 17 ألف دينار (حوالي 131 دولاراً). وأرجع البائع هذا الارتفاع إلى عزوف الكثير من المواطنين عن اقتناء العجلات من السوق الجزائرية، مفضلين إما التوجه إلى السوق التونسية أو الاعتماد على العجلات المستعملة، وهو ما اعتبره هواري وضعاً يحوّل المركبات إلى “توابيت متحركة”.

خلف هذا الجدل تكمن حقيقة اقتصادية أثقل: أزمة العجلات وقطع الغيار ليست مجرد سوء التزام من المؤسسات، بل نتيجة مباشرة لسياسات جمركية معقدة ومرتفعة رفعت الأسعار بشكل كبير، وجعلت عمليات الاستيراد شديدة الصعوبة. المحصلة أن الصيانة الوقائية للحافلات تراجعت، والأعطال تضاعفت، ما حوّل الطرق الجزائرية إلى مسرح محتمل لحوادث كان يمكن تفاديها لو وُجدت آليات أكثر مرونة وشفافية لتأمين هذه المواد الأساسية. 

عجز كبير في الميزان التجاري السوداني

عجز كبير في الميزان التجاري السوداني

سجل الميزان التجاري السوداني خلال الربع الأول من عام 2025 عجزاً ضخماً بلغ 608.7 ملايين دولار، بعد أن بلغت قيمة الواردات 1.3 مليار دولار مقابل صادرات لم تتجاوز 704.1 ملايين دولار، ولا يزال الذهب يمثل العمود الفقري للصادرات السودانية والإيرادات الحكومية، حيث بلغت عائداته 449.5 مليون دولار، أي ما يعادل 63.8% من إجمالي الصادرات، وجاءت الحيوانات الحية في المرتبة الثانية بـ 103.7 ملايين دولار، تلاها السمسم بـ 81.9 مليون دولار، وفقاً للموجز الإحصائي للتجارة الخارجية الصادر عن بنك السودان المركزي.

وتصدرت الواردات السلع الغذائية بـ 387.8 مليون دولار (29.5%)، تلتها المواد البترولية بـ 205.6 ملايين دولار (15.7%)، ثم السلع المصنعة بـ 193.6 مليون دولار. ويقول المختص في شؤون التجارة عمر سيد أحمد لـ “العربي الجديد” إنّ الذهب يمثل اليوم المورد الأول للنقد الأجنبي في السودان خلال الفترة 2023–2025، خاصة بعد تراجع قطاع النفط.

ووفق بيانات الشركة السودانية للموارد المعدنية، وتقارير تشاتام هاوس (2025)، فإن إجمالي إنتاج السودان من الذهب يتراوح بين 100 و120 طناً سنوياً، يشمل الإنتاج الرسمي وغير الرسمي، في كل من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة وتلك الخارجة عنها، غير أنّ ما بين 70 و80% من هذا الإنتاج يُهرَّب إلى الخارج عبر مسارات غير رسمية، بخاصة عبر الحدود مع مصر وتشاد، قبل أن يصل معظمه إلى أسواق مثل الإمارات.

أما الإنتاج الرسمي المصرح به من قبل الحكومة السودانية منذ إبريل 2023 وحتى مطلع 2025، فقد بلغ نحو 64 طناً، وهو ما يعادل حوالي 7.01 مليارات دولار بالقيمة السوقية الحالية، رقم يقل بكثير عن التقديرات الفعلية للإنتاج.

أسباب عجز الميزان التجاري

ويرى الخبير الاقتصادي والمهتم بشؤون التجارة أسامة أحمد بابكر لـ”العربي الجديد” أن الحكومة لم تعتمد على خطة اقتصادية واضحة منذ بداية الحرب، ولم تستطع إحداث توازن بين اقتصاد التنمية في المناطق الآمنة واقتصاد الحرب في المناطق غير المستقرة، مع ضرورة الإنفاق على التسليح وتوفير احتياجات الجيش، رغم أن هذا يشكل صعوبات على ميزان المدفوعات وموارد النقد الأجنبي.

وأشار إلى ظهور بعض الأزمات مع الحرب، فيما موارد النقد الأجنبي التي يعتمد عليها السودان توقفت تماماً، ما أدى إلى ارتفاع قيمة العملات الأجنبية وانهيار الجنيه السوداني، وارتفاع أسعار المواد التموينية الأساسية. وقال إن ازدياد حاجة البلاد للنقد الأجنبي لتغطية الاستيراد يطال العديد من السلع، بينما الصادرات المتمثلة في الذهب والسمسم والحيوانات في مجملها في حدود 4.4 مليارات دولار.

وأضاف أنّ ذلك يعني زيادة في عجز الميزان التجاري، كما أنّ الموارد الأخرى التي يمكن أن تقلل من أثر هذا العجز كالقروض والمعونات الأجنبية وتحويلات المهاجرين والعائد من استخدام المجال الجوي السوداني ورسوم مرور نفط الجنوب وغيرها، تضاءلت إلى حد بعيد بسبب الحرب.