by | Sep 10, 2025 | اقتصاد
تشهد فرنسا اليوم الأربعاء موجة احتجاجات وإضرابات واسعة ضمن حركة “لنعطل كل شيء” (Bloquons tout)، التي تهدد بعرقلة قطاعات النقل والصناعة والخدمات. ويأتي هذا الحراك في وقت حرج للغاية، إذ تواجه باريس ضغوطاً مالية غير مسبوقة بعد سقوط حكومة فرانسوا بايرو وانكشاف عجزها عن تمرير خطة ضبط مالي بقيمة 44 مليار يورو. وبحسب تقرير لوموند وفرانس برس، ستقام مئات من الفعاليات والاعتصامات في باريس والمناطق، من المدن الكبرى إلى البلدات الصغيرة.
وأعلن وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو نشر 80 ألف شرطي ودركي للتعامل مع تحركات وصفت بأنها قد تشمل “عمليات خاطفة” و”أعمال تخريب”، لكن السلطات لا تتوقع أن يتحول الأمر إلى حراك شامل للمجتمع المدني. وحددت النقابات الكبرى مثل الاتحاد العام للعمل (CGT) ونقابة سود (SUD) تجمعات أمام وزارة العمل في باريس ابتداء من التاسعة والنصف صباحاً، فيما تشهد رين ونانت مظاهرات منذ الساعة 11 صباحاً، وتبدأ مسيرات أخرى في بوردو وتولوز بعد الظهر. كما يخطط ناشطون لإغلاق مداخل رئيسية للطريق الدائري في العاصمة منذ منتصف الليل، بينما تشهد مدن الغرب الفرنسي محاولات لقطع الطرق الرئيسية في رين ونانت، إضافة إلى حواجز في بريست وفان وكاين.
النقل الأكثر تأثراً
وبحسب التقرير، سيكون قطاع النقل الأكثر تأثراً، إذ ستتعطل خطوط إنترسيتي (Intercités) وآر إي آر (RER) وترانسليان (Transilien) بدرجات متفاوتة، فيما تستمر قطارات TGV بشكل شبه طبيعي. كما تتوقع المديرية العامة للطيران المدني تأخيرات في جميع المطارات الفرنسية. وتشمل الإضرابات مواقع صناعية كبرى مثل أرسيلور ميتال في دونكيرك، ومصافي النفط التابعة لـ “توتال إنرجيز”، إضافة إلى مخازن أمازون. كما أعلن عمال البلديات وقطاع النظافة الانضمام عبر أكثر من 15 موقعاً محلياً. ودخل الطلاب أيضاً على خط التعبئة، حيث أعلنت جامعة ساينس بو (Sciences Po) إغلاق أبوابها، بينما تعقد 30 جامعة اجتماعات عامة لتنسيق المشاركة، في حين دعا اتحاد طلاب الثانويات إلى إغلاق المدارس باعتبار أن “الميزانية ستحدد مستقبل الأجيال المقبلة”.
انزلاق مالي
وتأتي هذه الاحتجاجات في وقت حساس جداً للأسواق المالية، وهو ما يعمق من أزمة باريس المالية. فقد ارتفعت العوائد على السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات إلى 3.47%، متجاوزة نظيرتها اليونانية (3.35%) واقتربت من إيطاليا (3.51%). وقال كيفن توزيت، عضو لجنة الاستثمار في كارمينياك لإدارة الأصول (Carmignac)، إن “فرنسا أصبحت المحيط الجديد، والعلاوة على المخاطر باتت الوضع الطبيعي الجديد”، موضحاً أن أوروبا تتحرك بسرعات مختلفة، حيث تمضي ألمانيا واقتصادات الجنوب بخطى أسرع بينما تبقى فرنسا في المسار البطيء.
من جهته، يؤكد توماش فيلادك، كبير الاستراتيجيين الأوروبيين في تي رو برايس (T. Rowe Price)، أن ما يحدث هو “هجرة بطيئة لفرنسا إلى فئة الهامش”، محذراً من أن الأسواق ستتعامل معها كدولة مثقلة بالديون ما لم يتم تصحيح المسار المالي بسرعة.
أما مايا بهانداري، كبيرة مسؤولي الاستثمار في نيوبيرغر برمان (Neuberger Berman)، فتقول إن “الرسالة الأساسية من كل السيناريوهات السياسية المحتملة هي استمرار الانزلاق المالي وصعوبة رؤية نتيجة إيجابية”، مشيرة إلى أن غياب الإصلاحات الجذرية يعني أن المستثمرين سيظلون يطلبون عوائد أعلى، ما يفاقم الضغوط على الدين العام. ويضيف ديفيد زان من فرانكلين تمبلتون أن فرنسا ستظل “مشكلة مزمنة لأسواق السندات خلال الـ 18 شهراً المقبلة”، متوقعاً استمرار تقلبات العوائد على الديون السيادية، وهو ما سيزيد كلفة الاقتراض ويقيد قدرة أي حكومة مقبلة على المناورة.
by | Sep 8, 2025 | اقتصاد
تترقب فرنسا اليوم الاثنين 8 أيلول/أيلول 2025 تصويت الجمعية الوطنية على الثقة بحكومة رئيس الوزراء فرنسوا بايرو، في لحظة حاسمة قد تحدد ليس مصير الحكومة فقط، بل مستقبل ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه. ويأتي هذا الاستحقاق في ظل أزمة ديون غير مسبوقة، إذ بلغ الدَّين العام منتصف حزيران/حزيران 2025 نحو 3.345 تريليونات يورو (113.9% من الناتج المحلي الإجمالي)، بزيادة 185 مليار يورو خلال عام واحد فقط، فيما يصر بايرو على تمرير خطة تقشفية ضخمة بقيمة 44 مليار يورو رغم المعارضة الواسعة من اليمين واليسار والنقابات العمالية. وكشفت “نيويورك تايمز”، أنه في حال رفض البرلمان هذه الخطة خلال التصويت المرتقب، فإن بايرو سيضطر إلى الاستقالة؛ ما يجعل ماكرون في موقف صعب لتعيين رئيس وزراء جديد قادر على معالجة العجز المالي. وواجه ماكرون أزمة حادة، بعد إعلان بايرو وضع خطة لإصلاح الميزانية تشمل خفض الإنفاق العام بـ44 مليار يورو وزيادة الضرائب.
وبموازاة الاضطرابات الاقتصادية والسياسية تستعد فرنسا لموجة احتجاجات ومظاهرات وإضرابات ومقاطعة واسعة مع إعلان حركة “لنغلق كل شيء” الدعوة إلى شل البلاد في الـ10 من أيلول الحالي احتجاجاً على مشروع الميزانية المقترح من رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، الذي يواجه تهديداً بسقوط حكومته. فالنقابات، وعلى رأسها الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل (CFDT)، أعلنت تنظيم يوم تعبئة وطني بعد غدا الأربعاء تحت شعار “لنشل كل شيء”، معتبرة أن الخطة تضرب المتقاعدين والقطاع الصحي. ويعيد التحرك إلى الأذهان مظاهرات “السترات الصفراء” التي انطلقت في فرنسا عام 2018 ضد زيادة أسعار الوقود التي استقطبت عشرات الآلاف من المحتجين الذين انتابهم شعور بغياب العدالة الاقتصادية. وفي البرلمان، أعلنت كتل يسارية ويمينية رفضها منح الثقة، ما يجعل حكومة بايرو أمام تحد شبه مستحيل. ويبدو أن مشروع الموازنة الذي قدمه بايرو أيقظ شعوراً بالظلم والغبن الاجتماعي لدى فئة من الفرنسيين الذين يعانون منذ سنوات من تضخم مرتفع للأسعار وتراجع القدرة الشرائية.
من جانبه، حاول وزير المالية إريك لومبارد تهدئة المخاوف عبر مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز في 3 أيلول الحالي، مؤكداً أن سقوط حكومة بايرو سيجعل خطة خفض العجز أقل طموحاً، لكنه شدد على إمكانية تمرير ميزانية قبل نهاية العام، سواء بقي بايرو أو جاء خلفه. وقال الخبير المالي الفرنسي ألان أتاسي، مدير بنك الاستثمار (N.M Capital & Co) في باريس لـ”العربي الجديد”: “في عهد بايرو، جاءت خطة تقشفية بـ44 مليار يورو عبر إلغاء عطلات ورفع ضرائب، لكن غياب الحوار الاجتماعي واستهداف الفئات الوسطى والفقيرة فجّرا رفضاً شعبياً واسعاً”.
سقوط بايرو شعبياً
وعلى المستوى العام، أظهر استطلاع لمعهد إيفوب لصالح صحيفة جورنال دو ديمانش أن رضا الفرنسيين عن ماكرون لا يتجاوز 19%، بينما بلغت نسبة عدم الرضا عن بايرو 82%، وهو مستوى قياسي تاريخي لا يضاهيه إلا ما حققته رئيسة الحكومة إديث كريسون عام 1991 في عهد ميتران، واستطلاع آخر لمعهد أودوكسا كشف أن 51% من الفرنسيين يطالبون باستقالة ماكرون نفسه.
وفي هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة السوربون، كميل الساري لـ”العربي الجديد”: “كان من الممكن تمرير ميزانيات إصلاحية رغم ما تحمله من تضحيات، شرط أن ترفق بخطة واضحة للحد من المديونية. لكن في ظل غياب أغلبية واضحة، أصبح تمرير أي ميزانية أمراً صعباً”. أما الخبير الاقتصادي الفرنسي باسكال داليما، كبير المحللين في شركة بزنيس نوليدج مانجمنت كونسلتينغ للاستشارات، فقال لـ”العربي الجديد”: “الاقتصاد بات الحكم الأول والأخير في مصير الحكومات الفرنسية”.
بارنييه… الميزانية التي أطاحت الحكومة
في 5 أيلول 2024 لجأ ماكرون إلى شخصية أوروبية وازنة، فعين ميشيل بارنييه رئيساً للحكومة، معولاً على خبرته الطويلة في بروكسل ومكانته مفاوضاً رئيسياً للاتحاد الأوروبي في ملف بريكست. غير أن هذه الخبرة لم تحم حكومته من امتحان قاتل: “مشروع قانون المالية لعام 2025”. وفي 27 أيلول 2024، قدمت الحكومة مشروع الميزانية للبرلمان ليكشف عن عجز يتجاوز 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي. وأكد تقرير ديوان المحاسبة في تشرين الأول/تشرين الأول الماضي أن الحسابات العامة تفتقر إلى مسار قابل للتصحيح، فيما حذرت وكالة فيتش في 20 تشرين الأول الماضي من أن فشل تمرير الميزانية سيقوض مصداقية فرنسا مالياً. وبدورها لوحت وكالة موديز بمراجعة سلبية قد تضعف مكانة فرنسا في الأسواق. إزاء ذلك، لجأ بارنييه إلى المادة 49.3 من الدستور لتمرير الميزانية دون تصويت، لكن النتيجة كانت مواجهة سياسية مفتوحة. وفي 4 كانون الأول/كانون الأول 2024، صوت البرلمان على مذكرة حجب ثقة بـ331 صوتاً، ما أدى إلى انهيار الحكومة. وفي اليوم التالي قدم بارنييه استقالته بعد أقل من مئة يوم، لتسجل حكومته كأقصر حكومات الجمهورية الخامسة عمراً.
أتال… أصغر رئيس وزراء يسقط بالأرقام
في 11 كانون الثاني/كانون الثاني 2024، عين ماكرون أصغر رئيس وزراء في تاريخ الجمهورية الخامسة، غابرييل أتال، لكنه سرعان ما وجد نفسه رهينة الأرقام. ففي آذار/آذار 2024 أكد المعهد الفرنسي للإحصاء أن الدين العام ارتفع إلى 112.5% من الناتج المحلي، فيما استقر العجز عند 5.5%. وفي تموز/تموز 2024، شددت المفوضية الأوروبية على ضرورة خفض النفقات بما لا يقل عن 20 مليار يورو. وحذر باتريك أرتوس، كبير المحللين في بنك ناتيكسيس، في مقابلة مع صحيفة ليزيكو من أن “الأسواق لم تعد تثق بقدرة فرنسا على إصلاح ماليتها، أي رئيس حكومة سيصبح رهينة لهذه الأرقام”. لم تفلح صورة أتال الشابة في مواجهة هذه الضغوط. فاستطلاع إيفوب لصالح باريس ماتش في أيلول 2024 أظهر أن شعبيته لم تتجاوز 22%، وهو أدنى مستوى لرئيس وزراء في عهد ماكرون. وبعد ثمانية أشهر فقط، قدم استقالته عقب الانتخابات المبكرة التي تلت حل البرلمان في حزيران/حزيران 2024. وقال الخبير باسكال داليما لـ”العربي الجديد”، معلقاً على تلك الأرقام: “الدين والعجز ليسا مجرد أرقام، بل قيود تستنزف النمو وتقلص هوامش المناورة، خصوصاً في الاستثمارات المستقبلية”.
بورن… ضريبة التقاعد التي أشعلت الشارع
بعد فوز ماكرون بولاية ثانية في إبريل/نيسان 2022، أحدث قطيعة رمزية بتعيين إليزابيث بورن في 16 أيار/أيار 2022 لتكون ثاني امرأة تتولى رئاسة الحكومة، لكنها وجدت نفسها سريعاً في مواجهة ملف إصلاح التقاعد. وفي كانون الثاني 2023 أعلنت الحكومة رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. فجرت الخطوة احتجاجات واسعة، إذ شارك 1.12 مليون متظاهر في 19 كانون الثاني، وبلغت التعبئة ذروتها في 7 آذار 2023 مع 1.28 مليون متظاهر وفق الداخلية (3.5 ملايين وفق النقابات). لكن الإصلاح سقط سياسياً قبل دخوله حيز التنفيذ. ففي كانون الأول 2023، كشف استطلاع لمعهد إيفوب لصالح “لوفيغارو” أن 67% من الفرنسيين يرفضون الإصلاح و54% يطالبون باستقالة الحكومة. وتحت ضغط الشارع، استقالت بورن في 8 كانون الثاني 2024 بعد 20 شهراً فقط. وقال الخبير كميل الساري لـ”العربي الجديد”: “فشل إصلاح التقاعد كان دليلاً على أن أي إصلاح مالي في فرنسا محكوم عليه بالاصطدام بالشارع، في ظاهرة تعود إلى إرث الثورة الفرنسية”.
كاستكس… سياسة “مهما كلف الأمر”
مع اجتياح جائحة كوفيد-19، تبنت حكومة جان كاستكس سياسة “مهما كلف الأمر”، حيث التزمت الدولة توظيف كل الوسائل المالية لحماية المواطنين. النتيجة كانت قفزة الدَّين العام من 99.1% في 2019 إلى 111.1% في 2020، ثم 115.2% في 2021. وقال الخبير الاقتصادي كميل الساري لـ”العربي الجديد”: “المساعدات التي قدمتها الحكومة خلال الجائحة كانت استثنائية وفاقت ما منحته باقي الدول، إلى حد أن أرباب العمل عبروا عن رضاهم الكبير”، لكنه أضاف: “الأخطاء اللاحقة مثل دعم أسعار الوقود بعد حرب أوكرانيا، وانحرافات نظام المساعدات الضريبية التي استفاد منها الأثرياء والشركات وحتى بعض العاطلين، زادت من شعور بعدم العدالة وأضعفت فعالية السياسات”. وفي كانون الثاني 2022، نبه صندوق النقد الدولي في تقريره إلى أن الاعتماد المفرط على التمويل سيقيد الحكومات المقبلة. ورغم بقاء حكومة كاستكس حتى نهاية الولاية الأولى، فإنها خلفت اقتصاداً مثقلاً بالديون شكل قاعدة سقوط خلفائها.
فيليب… بداية الغضب مع “السترات الصفراء”
مع بداية عهد ماكرون، عين إدوار فيليب في أيار 2017 رئيساً لأول حكومة، مهمتها تنفيذ إصلاحات ليبرالية شملت تحرير سوق العمل وخفض ضرائب رؤوس الأموال وفرض ضريبة بيئية على الوقود، لكن تقرير ديوان المحاسبة في حزيران 2018 حذر من أن هذه الإصلاحات “غير كافية للسيطرة على العجز الهيكلي”. وفي تشرين الثاني/تشرين الثاني 2018 انفجرت أزمة “السترات الصفراء” إثر إعلان زيادة ضريبة الوقود. وربط تقرير المفوضية الأوروبية عن فرنسا (شباط/شباط 2019) هذه الاحتجاجات بمخاوف أوسع حول القدرة الشرائية والعدالة الاجتماعية، معتبراً أنها لم تكن رفضاً لزيادة ضريبية فحسب، بل تجسيداً لإحباط اجتماعي عميق.
ورغم تراجع الحكومة جزئياً عن بعض الإجراءات، ارتفع العجز إلى 3.1% عام 2019 (كان 2.6% في 2017)، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى إعادة فرنسا تحت مراقبة “العجز المفرط”، محذرة من أنها “تخاطر بعدم التزام القواعد الأوروبية”. ومع تفاقم الغضب الشعبي وتآكل الثقة، قدم فيليب استقالته في 3 تموز 2020. ومنذ 2017، شهدت فرنسا تعاقب ثماني حكومات بمعدل لم يتجاوز 400 يوم لكل منها، جميعها سقطت أمام جدار الدَّين والعجز وضعف النمو. وماكرون الذي قدم نفسه رئيساً إصلاحياً قادماً من عالم المال، وجد أن الاقتصاد لا يرحم، وأن الأسواق والأرقام أقوى من أي خطاب سياسي. وما يجري في فرنسا لم يعد أزمة داخلية فقط، بل إنذاراً أوروبياً وعالمياً بأن الديمقراطيات الحديثة باتت رهينة الأرقام والمعايير المالية أكثر من أي وقت مضى.
by | Sep 5, 2025 | اقتصاد
لم تشتهر دولة أوروبية بسرعة تغيير رؤساء حكوماتها كما اشتهرت إيطاليا، لدرجة أن الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي تهكم على الساسة الإيطاليين في 2010 فعرض عليهم إرسال رئيس حكومة لهم من ليبيا. لكن فرنسا، تسابق الآن جارتها الجنوبية المستقرة ماليا وسياسيا، مع الرحيل الذي بات شبه محسوم لرئيس الحكومة فرانسوا بايرو إثر اقتراع الثقة الذي سيطرحه على حكومته في البرلمان الاثنين المقبل. حين يلقى بايرو هذا المصير، سيكون رابع رئيس حكومة تعرفه فرنسا خلال عام ونصف.
في الحالة الفرنسية يُرمى الاقتصاد تحت عجلات السياسة، فالحاصل أن بايرو قرر المضي قدما إلى هذا المصير، الذي قال إنه لا يندم عليه، بعدما فشل في نيل موافقة البرلمان على برنامجه الاقتصادي، مفضلاً أن يكون رحيله ” صيحة إنذار” توقظ فرنسا. لكن مزيداً من الأخبار السيئة لا تزال تنتظر الفرنسيين، إذ إن خلفه سيتحمل هذا العبء الذي من المستبعد أن يخف قريبا. وتشير تقديرات مالية إلى أن حجم الاقتراض كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي يسير في منحى تصاعدي وقد يرتفع بنسبة 10 نقاط مئوية ليصل إلى 125% بحلول عام 2030، إذا فشل الساسة في الاتفاق على تدابير للسيطرة عليه.
التدابير التي اقترحها بايرو وفشل في تسويقها لنواب البرلمان تتمثل في السعي لتوفير 44 مليار يورو (51 مليار دولار) من خلال خفض الإنفاق وزيادة الضرائب. ويؤكد بايرو أن الخطة ضرورية لخفض عجز ميزانية فرنسا لعام 2026 إلى 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي، نزولاً من 5.4% المتوقعة هذا العام. لكن أحزاب المعارضة التي تملك معاً أغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية أعلنت أنها ستصوت ضد الاقتراح، ما سيجبر بايرو على الاستقالة، إذا لم يمتنع اليمين المتطرف أو التيارات اليسارية الأكثر تشدداً عن التصويت.
وكما يحدث دائما، لا تبقى الاضطرابات السياسية حبيسة قاعات البرلمان و أروقة الحكم، بل يمتد أثرها على الفور إلى الأسواق، وهو ما ينتاب الحالة الفرنسية بعدما قفز عائد السندات الفرنسية طويلة الأجل إلى أعلى مستوى له منذ آذار الماضي. ويعني ارتفاع عائد السندات لأي حكومة، أي ما يصرفه ملاكها من كوبونات سنوية أو نصف سنوية، انخفاض القيمة الأصلية للسند، وهو أمر يرتبط بالاضطرابات السياسية حينما يقدم ملاك الأوراق المالية على بيعها درءا لمخاطر محتملة مثل زيادة الاستدانة أو تحسبا لحدوث تضخم في البلد المعني، وهو ما يحدث في فرنسا في الوقت الراهن. وقد ارتفعت السندات الفرنسية اليوم الجمعة إلى جانب نظيرتها الألمانية، مواصلة مكاسب مالكيها لليوم الثالث، لتضيق الفجوة بين العائدين إلى 77 نقطة أساس، وهو أدنى مستوى في نحو أسبوعين.
حالة الاقتصاد الفرنسي المتردية، وهو واقع أصاب معظم الاقتصادات الأوروبية في أعقاب جائحة كورونا وعلى وقع الحرب الروسية في أوكرانيا وما خلفته من أزمة في أسعار الطاقة، تتناقض مع الأداء الدبلوماسي للجمهورية الفرنسية ورئيسها على الصعيد العالمي. فالأزمة السياسة مرشحة لأن تتحول إلى أزمة ديون، لا تقل حدة عما حدث مع اليونان وإيطاليا في 2010، ولم يحله سوى التدخل الأوروبي والدولي. فوزير المالية الفرنسي إيريك لومبارد، حذر قبل أسبوع من أن بلاده قد تحتاج إلى مساعدة من صندوق النقد الدولي إذا لم تتم السيطرة على الأزمة. وقال في مقابلة إذاعية ” “لا أستطيع أن أؤكد لكم أن خطر تدخل صندوق النقد الدولي غير موجود.” صحيح أنه تراجع عن هذا “التخويف” لاحقاً في منشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقال إن فرنسا “ليست مهددة بتدخل من صندوق النقد الدولي، أو البنك المركزي الأوروبي، أو أي مؤسسة دولية أخرى”، لكن رئيسه – بايرو- أقر بأن “فرنسا مثقلة بالديون” وأن على “الجميع تحمل مسؤولياتهم”.
وتنطوي الخطة المطروحة على تضحيات لا يقبلها الفرنسيون منها، إلغاء يومين من العطل الرسمية السنوية، وزيادة مساهمات الأفراد في نظام التأمين الصحي لتوفير ما يصل إلى 5 مليار يورو سنويا، وتجميد الإنفاق الحكومي في مختلف القطاعات، وعدم زيادة معاشات التقاعد وأجور العاملين في الحكومة والقطاع العام حسب معدل التضخم.
نقابات العمال
كان من الطبيعي أن ترفض نقابات العمال مقترحات بايرو، فثقافة الاحتجاج المتأصلة في الدفاع عن دولة الرفاه لدى الفرنسيين لا يوجد لها مثيل. وقد بدأت سلسلة الإضرابات بإضراب عمال قطاع الكهرباء ومن المحتمل أن تشمل معظم القطاعات في الأسبوع المقبل. فقد تعهدت حركة “الإغلاق التام” بإضرابات شاملة في العاشر من أيلول، كما أن فرنسا على موعد آخر في الثامن عشر بإضرابات جماعية من نقابات العمال رفضا لمخططات خفض الإنفاق وعدم الاستقرار السياسي في البلاد.
رغم ذلك من الصعب تحميل بايرو مسؤولية ما قد يحدث بسبب استقالته، إذ يُحسب له أنه سعى لمصارحة الفرنسيين بحقيقة الوضع المالي لدولتهم العظيمة، وهو أمر تخسره الحكومات دائما تحت ضغط أنصارها، كما خسرت حكومة العمال في بريطانيا تصويتا على الحد من نفقات الرعاية الاجتماعية كان من شأنه أن يوفر للموازنة 6 مليارات دولار.
وما يزيد من تعقيد الموقف الفرنسي هو تلك الفسيفساء التي يجمعها البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) فالأحزاب ذات الكتل الكبرى تعتنق سياسات مالية متباينة. فمجموعة الأحزاب اليسارية لا تريد أي تقليص للنفقات الاجتماعية في فرنسا، التي تمثل 65% من الإنفاق العام. ويريد نواب الوسط المتحالفون مع بايرو وماكرون، إلى جانب مجموعة من المحافظين التقليديين، زيادة الإنفاق العسكري لمواجهة غزو روسيا لأوكرانيا دون رفع الضرائب. بينما يقول نواب مارين لوبان اليمينيون المتطرفون إن الحكومة يجب أن تقلص الإنفاق عن طريق خفض الهجرة والمدفوعات إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن مراقبين يحملون الرئيس الفرنسي، مسؤولية هذه الأزمة المالية التي تعيشها البلاد، عندما قدم تخفيضات ضريبية شاملة بعد انتخابه لأول مرة في 2017، دون إجراء تخفيضات مماثلة على تكلفة الرعاية الصحية الفرنسية والتعليم والخدمات العامة الأخرى. فألغى ضرائب الثروة والعقارات، وخفّض الضرائب على الشركات، وقدم ضريبة موحدة على أرباح رأس المال. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الإغداق أن فقدت الدولة، فقدت الدولة بحلول 62 مليار يورو من إيرادات الضرائب السنوية بحلول عام 2023، أي ما يعادل 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأمام ماكرون الآن خيارات محدودة للغاية. يمكنه تعيين رئيس وزراء جديد، لكن فرص أن يحظى أي رئيس حكومة جديد بدعم الأغلبية لإقرار الموازنة تبدو ضئيلة. الفرصة الوحيدة أمامه تتمثل في إبرام صفقة مع الحزب الاشتراكي، لكن تمسك الحزب بزيادة الإنفاق والتراجع عن إصلاحات المعاشات الضريبية وفرض ضرائب على أغنى 1,800 فرنسي لسد العجز قد تجعل من الصفقة أمرا صعبا.
أما إذا لجأ إلى إعادة تمرير الموازنة بدون الإصلاحات، فلن يحل مشكلة العجز. وإقرار موازنة أكثر طموحًا بمرسوم رئاسي قد يدفع أحزاب المعارضة للإطاحة بأي حكومة جديدة انتقامًا. وإذا حلّ ماكرون البرلمان مرة أخرى بعد المحاولة الفاشلة العام الماضي، فإن ذلك قد يؤدي إلى منح القوى اليمينية المتطرفة فرصة للوصول إلى السلطة، والتي لا تمتلك خططًا مالية واقعية. باختصار يراقب السياسيون الفرنسيون اقتصاد بلادهم الذي ألقوه تحت العجلات، وكل يوم يمر يحمل فوائد أكثر على المديونية وعجزا أكبر في الموازنة.
by | Sep 4, 2025 | اقتصاد
كشف استطلاع للرأي أنجزه معهد أودوكساو المتخصص في قياسات الرأي (Odoxa) لصالح مجلة شالانج (Challenges) الفرنسية يومي 27 و28 آب/آب 2025، عن مستوى غير مسبوق من التشاؤم لدى الفرنسيين إزاء مستقبل اقتصاد بلادهم. وأكدت نتائج الاستطلاع أن أزمة الثقة الحالية تُذكّر بالأجواء التي سادت أثناء جائحة كوفيد-19، حيث يتقاطع فيها الاضطراب السياسي مع تراجع الثقة الاقتصادية. وبحسب النتائج، فإن 86% من الفرنسيين باتوا أقل ثقة في مستقبل الاقتصاد، مقابل 14% فقط ما زالوا متفائلين.
هذه الأرقام، التي تمثل أدنى مستوى منذ سنوات، تكشف عن تآكل سريع في المعنويات الاقتصادية. واللافت أنّ هذا الانهيار في الثقة يتزامن مع انسداد سياسي داخلي، ما يجعل التوقعات المستقبلية أكثر قتامة. ويرى 67% من الفرنسيين المستجوبين أنه في حال فشل رئيس الحكومة فرانسوا بايرو في نيل ثقة البرلمان يوم 8 أيلول/أيلول المقبل، سينعكس ذلك سلبا على مستقبل الاقتصاد الفرنسي، فيما توقع 62% اندلاع أزمة سياسية حادة، وذهب 32% إلى احتمال انفجار أزمة مالية داخلية. وبذلك يصبح مصير الحكومة مرهوناً بثقة برلمانية قد تحدد أيضاً مسار الاقتصاد الوطني.
وعلى صعيد التطلعات للعام المقبل، عبّر الفرنسيون عن توقعات شديدة التشاؤم: 68% رجّحوا تراجع النمو الاقتصادي، والنسبة نفسها توقعت تدهور القدرة الشرائية، بينما اعتقد 62% أنّ سوق العمل سيتدهور أكثر، في حين توقع 48% تراجع وضعيتهم الاقتصادية الشخصية. هذه الأرقام لا تكشف فقط عن قلق عام، بل ترسم صورة مستقبلية حيث تتشابك الهشاشة الاقتصادية مع الضغوط الاجتماعية.
أما في ما يتعلق بالحلول لتقليص العجز العام، تتضح المفارقة الكبرى. فالمواطنون يطالبون بتقاسم الأعباء لكن بشروط. إذ أيد 78% فرض ضرائب إضافية على الأغنياء، و64% خفض النفقات العمومية، و55% تقليص النفقات الاجتماعية. كما دعم 46% رفع بعض الضرائب غير المباشرة، وأبدى 37% استعداداً لتقليص عدد موظفي الدولة، و29% لتخفيض الإعانات الموجهة للشركات. غير أن 16% فقط وافقوا على فرض ضرائب إضافية على عموم الفرنسيين، وهو ما يعكس رفضاً واسعاً لأي مساس مباشر بجيوب الطبقتين الوسطى والفقيرة.
ويظهر هذا الاستطلاع أنّ فرنسا، وسط أزمة سياسية لم تُحسم بعد، وتدخل مرحلة ضبابية تسودها الشكوك والريبة. مواطنون قلقون يرفضون التضحية، حكومة مقيدة ومهددة بالسقوط، ومؤسسات أوروبية تراقب بحذر هشاشة ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو
by | Sep 3, 2025 | اقتصاد
سجلت أسعار الكهرباء في فرنسا ارتفاعاً ملحوظاً، مع تراجع الطاقة المولدة إثر إضراب عمال شركة الكهرباء الفرنسية (إي. دي. إف) ضمن موجة من الاحتجاجات العمالية تركز على المعاشات التقاعدية والأجور بقطاعي الطاقة والغاز في البلاد.
وكشفت أرقام للشركة الفرنسية أن طاقتها الإنتاجية من الكهرباء قد انخفضت إلى 2.7 غيغاوات حتى الآن وأن الانخفاض الأكبر حدث في إنتاج الكهرباء من المحطات النووية حيث تراجع بمقدار 2.1 غيغاوات مع تأثر أربعة مفاعلات بالإضراب، كما تراجع إنتاج الطاقة الكهرومائية بمقدار 630 ميغاوات.
ويبلغ إجمالي حجم الطاقة النووية في فرنسا 57 غيغاوات، وهو ما يكفي لإنتاج نحو 70 % من الطاقة الكهربائية السنوية للبلاد. ولا يزال تأثير هذا الإجراء محدوداً حتى الآن، لكن من المتوقع أن يتسع نطاق المظاهرات في الأسابيع المقبلة، ما يعكس انخفاض مستوى التأييد للحكومة التي تواجه اقتراعاً على الثقة يوم الاثنين.
وبالنسبة لقطاع الغاز، قال متحدث باسم شركة فلوكسيس البلجيكية المشغلة لمحطة دنكيرك للغاز الطبيعي المسال إن تأثير الإضراب في المحطة لا يزال محدوداً. وأوضح قائلاً “لا يوجد تأثير على معدل تدفق الإنتاج؛ لا على عمليات تفريغ السفن ولا على عمليات التحميل بالشاحنات”.
تُعد دنكيرك ثاني أكبر محطة في قارة أوروبا والمحطة الوحيدة المتصلة مباشرة بسوقين منفصلتين، هما بلجيكا وفرنسا، ويمثل إنتاجها نحو 20 % من حاجة الاستهلاك السنوية للغاز في كلا البلدين.
وعلى الفور تأثرت أسعار الكهرباء بموجة الاحتجاجات، إذ أفادت وكالة بلومبيرغ بأن الأسعار قفزت في السوق الفورية لليوم التالي بنسبة 66%، وسجّل سعر ساعة الذروة المسائية من الثامنة إلى التاسعة مساءً أعلى مستوى له في أكثر من أسبوع.
وتقول بلومبيرغ إن الإضرابات لم تحدث تأثيراً كبيراً حتى الآن. وظلّت فرنسا قادرة على تصدير ما يقارب 15 غيغاوات من الكهرباء صباح الأربعاء، دون تسجيل ارتفاع ملحوظ في أسعار السوق بالجملة. وبسبب الإضراب المعلن، قالت (إي. دي. إف.) إنها لن تشارك في مزاد الكهرباء الفوري المعروف باسم IDA 2 في وقت لاحق من اليوم.
قلق في ألمانيا
وفي ألمانيا، أقر تقرير حكومي بأن البلاد ربما تحتاج لبناء مزيد من المحطات العاملة بالغاز الطبيعي إذا استمر التراجع في إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة أو توفير المستهلك منها عبر التقنيات المرنة. وتوقع تقرير لوزارة الاقتصاد أن يشهد العقد المقبل زيادة كبيرة في الطلب على محطات الكهرباء العاملة بالغاز.
وقالت الوزارة، استناداً إلى تقديرات الوكالة الفيدرالية للشبكات، إن أكبر اقتصاد في أوروبا سيحتاج إلى 22 إلى 36 غيغاوات من السعة الإضافية بحلول عام 2035 لضمان استقرار إمدادات الكهرباء. وهذا يعادل تقريبًا مضاعفة السعة الحالية المركّبة، ويُقارن بتقرير نُشر قبل ثلاث سنوات توقّع الحاجة إلى 17 إلى 21 غيغاوات بحلول عام 2030.
وألمانيا، التي أغلقت آخر محطاتها النووية في عام 2023 وأوقفت استيراد الغاز الروسي عبر الأنابيب، تراهن بشكل كبير على مصادر الطاقة المتجددة. لكنها ستظل بحاجة إلى مصادر طاقة أكثر مرونة في الفترات التي لا تتوفر فيها الرياح أو أشعة الشمس. ولهذا، تسعى الحكومة إلى تحفيز إنتاج 20 غيغاوات من محطات الغاز الجديدة، مع أول مزاد مقرر بحلول نهاية العام، وهي خطوة أثارت انتقادات من نشطاء المناخ.