الإضرابات والاحتجاجات تعمق أزمة باريس المالية

الإضرابات والاحتجاجات تعمق أزمة باريس المالية

تشهد فرنسا اليوم الأربعاء موجة احتجاجات وإضرابات واسعة ضمن حركة “لنعطل كل شيء” (Bloquons tout)، التي تهدد بعرقلة قطاعات النقل والصناعة والخدمات. ويأتي هذا الحراك في وقت حرج للغاية، إذ تواجه باريس ضغوطاً مالية غير مسبوقة بعد سقوط حكومة فرانسوا بايرو وانكشاف عجزها عن تمرير خطة ضبط مالي بقيمة 44 مليار يورو. وبحسب تقرير لوموند وفرانس برس، ستقام مئات من الفعاليات والاعتصامات في باريس والمناطق، من المدن الكبرى إلى البلدات الصغيرة.

وأعلن وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو نشر 80 ألف شرطي ودركي للتعامل مع تحركات وصفت بأنها قد تشمل “عمليات خاطفة” و”أعمال تخريب”، لكن السلطات لا تتوقع أن يتحول الأمر إلى حراك شامل للمجتمع المدني. وحددت النقابات الكبرى مثل الاتحاد العام للعمل (CGT) ونقابة سود (SUD) تجمعات أمام وزارة العمل في باريس ابتداء من التاسعة والنصف صباحاً، فيما تشهد رين ونانت مظاهرات منذ الساعة 11 صباحاً، وتبدأ مسيرات أخرى في بوردو وتولوز بعد الظهر. كما يخطط ناشطون لإغلاق مداخل رئيسية للطريق الدائري في العاصمة منذ منتصف الليل، بينما تشهد مدن الغرب الفرنسي محاولات لقطع الطرق الرئيسية في رين ونانت، إضافة إلى حواجز في بريست وفان وكاين.

النقل الأكثر تأثراً

وبحسب التقرير، سيكون قطاع النقل الأكثر تأثراً، إذ ستتعطل خطوط إنترسيتي (Intercités) وآر إي آر (RER) وترانسليان (Transilien) بدرجات متفاوتة، فيما تستمر قطارات TGV بشكل شبه طبيعي. كما تتوقع المديرية العامة للطيران المدني تأخيرات في جميع المطارات الفرنسية. وتشمل الإضرابات مواقع صناعية كبرى مثل أرسيلور ميتال في دونكيرك، ومصافي النفط التابعة لـ “توتال إنرجيز”، إضافة إلى مخازن أمازون. كما أعلن عمال البلديات وقطاع النظافة الانضمام عبر أكثر من 15 موقعاً محلياً. ودخل الطلاب أيضاً على خط التعبئة، حيث أعلنت جامعة ساينس بو (Sciences Po) إغلاق أبوابها، بينما تعقد 30 جامعة اجتماعات عامة لتنسيق المشاركة، في حين دعا اتحاد طلاب الثانويات إلى إغلاق المدارس باعتبار أن “الميزانية ستحدد مستقبل الأجيال المقبلة”.

انزلاق مالي

وتأتي هذه الاحتجاجات في وقت حساس جداً للأسواق المالية، وهو ما يعمق من أزمة باريس المالية. فقد ارتفعت العوائد على السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات إلى 3.47%، متجاوزة نظيرتها اليونانية (3.35%) واقتربت من إيطاليا (3.51%). وقال كيفن توزيت، عضو لجنة الاستثمار في كارمينياك لإدارة الأصول (Carmignac)، إن “فرنسا أصبحت المحيط الجديد، والعلاوة على المخاطر باتت الوضع الطبيعي الجديد”، موضحاً أن أوروبا تتحرك بسرعات مختلفة، حيث تمضي ألمانيا واقتصادات الجنوب بخطى أسرع بينما تبقى فرنسا في المسار البطيء.

من جهته، يؤكد توماش فيلادك، كبير الاستراتيجيين الأوروبيين في تي رو برايس (T. Rowe Price)، أن ما يحدث هو “هجرة بطيئة لفرنسا إلى فئة الهامش”، محذراً من أن الأسواق ستتعامل معها كدولة مثقلة بالديون ما لم يتم تصحيح المسار المالي بسرعة.
أما مايا بهانداري، كبيرة مسؤولي الاستثمار في نيوبيرغر برمان (Neuberger Berman)، فتقول إن “الرسالة الأساسية من كل السيناريوهات السياسية المحتملة هي استمرار الانزلاق المالي وصعوبة رؤية نتيجة إيجابية”، مشيرة إلى أن غياب الإصلاحات الجذرية يعني أن المستثمرين سيظلون يطلبون عوائد أعلى، ما يفاقم الضغوط على الدين العام. ويضيف ديفيد زان من فرانكلين تمبلتون أن فرنسا ستظل “مشكلة مزمنة لأسواق السندات خلال الـ 18 شهراً المقبلة”، متوقعاً استمرار تقلبات العوائد على الديون السيادية، وهو ما سيزيد كلفة الاقتراض ويقيد قدرة أي حكومة مقبلة على المناورة.

إضرابات عمالية تهز إنتاج فرنسا النووي

إضرابات عمالية تهز إنتاج فرنسا النووي

تشهد فرنسا اضطرابا جديدا في قطاع الطاقة الحيوي مع إعلان شركة الكهرباء الوطنية إلكتريسيتيه دو فرانس عن تراجع إنتاج عدد من مفاعلاتها النووية بسبب الإضرابات العمالية، وذلك في وقت تتفاقم الأزمة السياسية في البلاد على خلفية خلافات حادة حول الموازنة العامة. ووفقا للإشعارات الرسمية الصادرة عن الشركة، بلغت التخفيضات في الطاقة المنتجة نحو 2 غيغاواط في محطات نووية رئيسية مثل دامبيير 2 وسان ألبان 1 وفلامانفيل 2، وهي نسبة مؤثرة في سوق الطاقة الأوروبية بالنظر إلى اعتماد فرنسا الكبير على الطاقة النووية التي تشكل ما يقارب 70% من إنتاجها الكهربائي. ويستمر التأثير حتى نهاية الأسبوع الجاري، حيث يتزامن مع سلسلة من الإضرابات الوطنية التي دعت إليها النقابات العمالية احتجاجا على السياسات الاقتصادية للحكومة.

وأكدت النقابة العمالية “CGT”، التي تعد الأكثر نفوذا في قطاع الطاقة، أن دوافع الإضراب تتراوح بين المطالبة برفع الأجور للعاملين في قطاع الكهرباء، وبين الضغط من أجل خفض فواتير الطاقة للأسر الفرنسية التي تعاني من ارتفاع تكاليف المعيشة. يأتي ذلك في وقت يواجه رئيس الوزراء فرانسوا بايرو تهديدا مباشرا بسحب الثقة منه، حيث يعتزم التقدم بطلب تصويت على الثقة يوم الاثنين المقبل في البرلمان، في محاولة لتجاوز الانقسامات العميقة داخل الطبقة السياسية بشأن الموازنة.

ورغم القيود على الإنتاج النووي، حافظت فرنسا على قدرتها التصديرية، حيث أشارت البيانات الصادرة أمس الأربعاء إلى أنها ما زالت تصدر نحو 15 غيغاواط من الكهرباء إلى جيرانها الأوروبيين، وهو ما يعكس مرونة نسبية في النظام الكهربائي. كما لم تسجل قفزات حادة في أسعار الكهرباء بالجملة، ما يوضح أن الأسواق حتى الآن قادرة على امتصاص آثار الإضراب، ربما بفعل وفرة الإمدادات في لحظة زمنية محدودة. إلا أن المخاطر تظل قائمة إذا ما استمرت الإضرابات لفترات أطول أو إذا تراكمت الضغوط على منشآت التوليد الأخرى، خاصة مع دخول الشتاء الذي يرفع عادة مستويات الطلب على الكهرباء.

وتستعد فرنسا لموجة أوسع من الاحتجاجات الشعبية في العاشر من أيلول/أيلول الجاري، إذ أعلنت النقابة العمالية CGT ومعها عدد من القوى السياسية عن تنظيم مظاهرات جماهيرية لمعارضة الخطة الاقتصادية للحكومة. كما تخطط النقابات لإضراب جديد يوم الثامن عشر من الشهر ذاته، ما قد يطيل أمد حالة الاضطراب في الاقتصاد الفرنسي. ويرى مراقبون أن هذا التصعيد النقابي يعكس فقدان الثقة المتزايد في قدرة الحكومة على تحقيق توازن بين متطلبات خفض العجز المالي وضمان العدالة الاجتماعية، خاصة مع شعور شريحة واسعة من المواطنين بأنها تتحمل كلفة السياسات الاقتصادية دون الحصول على مقابل ملموس في تحسين مستوى المعيشة. وتعد فرنسا أكبر مصدر للكهرباء في أوروبا، لذا فإن أي تراجع مطول في إنتاجها قد يحدث هزات في أسواق الطاقة الإقليمية، خصوصا في دول مثل ألمانيا وبلجيكا التي تعتمد بشكل متزايد على الواردات الفرنسية لتغطية ذروة الطلب.