by | Sep 2, 2025 | أخبار العالم
تظهر متابعة السجال الإسرائيلي حول حرب غزة صدمة مفاهيمية لافتة: إذ يهيمن خطاب الأمن وتحرير الرهائن على المشهد العام، فيما تمحى معاناة المدنيين الفلسطينيين أو تزاح إلى هامش أخلاقي وسياسي يكاد يخلو من الوزن.
هذا الانفصال بين الوعي الجمعي والواقع الإنساني لا يمكن اختزاله في حدود الدعاية أو التحيز الإعلامي؛ بل يكشف الحاجة إلى تفكيك البنية الأيديولوجية والذهنية التي تنظم إدراك المجتمع الإسرائيلي للصراع.
ينطلق هذا المقال من قراءة مركبة تتشابك فيها أربعة أبعاد:
- أطر قومية- إثنوسياسية ترسخ التفوق الجماعي.
- ذهنية أمنية مشبعة بصدمات تاريخية ممتدة.
- منظومات تنشئة وإعلام تحول العنف إلى مآذارة مقبولة أخلاقيا.
- وعقيدة إستراتيجية تطبِع العنف الدوري باعتباره إدارة للصراع لا سبيلا إلى حله.
وفي ضوء ذلك، تطرح مقاربة بديلة ضرورية لتفكيك دائرة “العمى الأخلاقي” وإعادة تركيب الوعي الجماعي على أسس أكثر عدالة وإنسانية.
1- الصهيونية كإطار مؤدلِج للضمير الجمعي
الصهيونية ليست مجرد حركة قومية بالمعنى التقليدي، بل هي أيديولوجية إثنوسياسية أعادت تعريف اليهودية في القرن العشرين باعتبارها قومية لها “حق حصري” في أرض محددة، أي فلسطين.
هذا الإطار يختلف عن قوميات أخرى لأنه يحمل في جوهره بعدا استيطانيا-إقصائيا، يقوم على نفي الآخر الفلسطيني والعربي. بالتالي، يصبح الأمن القومي الإسرائيلي مرادفا لـ “أمن الوجود اليهودي”، بحيث لا ترى حياة الفلسطيني إلا كخطر أمني أو كتفصيل فائض.
البنية القانونية والسياسية: من “الديمقراطية الإثنية” إلى “الإثنوقراطية”
منذ تسعينيات القرن الماضي، لم يقدم الأكاديمي الإسرائيلي سامي سموحا مفهوم “الديمقراطية الإثنية” كتوصيف أكاديمي محايد وحسب، بل كنافذة تكشف التناقض الفج في بنية الدولة الإسرائيلية: دولة تتزين بواجهات تمثيلية وانتخابات ومؤسسات، لكنها تبقي مركز الثقل السياسي والرمزي والقانوني حكرا على جماعة واحدة هي “الأمة اليهودية”.
هذا التناقض لم يبقَ في مستوى التنظير، بل وجد ترسيخه الصارخ في قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي (2018)، الذي أعلن بشكل لا لبس فيه أن تقرير المصير القومي امتياز يهودي صرف، وأن العربية ليست سوى لغة “أدنى منزلة”. هنا لم يعد الفلسطيني “مواطنا” حتى بالمعنى الشكلي، بل “مقيما مشروطا” في وطنه، محاصرا في سردية قانونية ترى وجوده عبئا لا حقّا.
ثم جاء الباحث أورن يفتاحئيل ليصوغ ذلك بما أسماه “الإثنوقراطية”: نظام لا يكتفي بإقصاء الآخر من مراكز القرار، بل يعيد توزيع الأرض والموارد والديمغرافيا كلها لخدمة تفوق إثني طويل الأمد. في هذا المنطق، لا يعود التهميش حادثة استثنائية أو خللا يمكن إصلاحه، بل يتحول إلى “قانون الحياة” اليومية، إلى طبيعة ثانية تعيشها المؤسسات كما يعيشها الأفراد.
إننا إزاء منظومة كاملة تحول الإقصاء إلى قاعدة، وتجمل السيطرة بعبارات “أمن” و”ديمقراطية”، فيما هي في جوهرها مشروع استعماري إثنوسياسي مغلف بشرعية قانونية.
صناعة “الآخر” الفلسطيني: من العدو إلى اللامرئي
تبدو هذه البنى وكأنها قد صمِمت لإنتاج ضمير جمعي مشدود إلى سردية واحدة، لا يرى الفلسطيني جارا أو شريكا محتملا في الحياة، بل تهديدا وجوديا دائما. الإعلام بدوره يعيد تكريس هذا الإطار بتكرار صور الفلسطيني كـ “إرهابي” أو “قنبلة ديمغرافية موقوتة”، ما يجعل الخطر متخيَلا كجوهر هويته.
أما المدرسة فتلقن الأجيال رواية تأسيسية تقدِم قيام إسرائيل بوصفه “تحريرا”، بينما تمحى الذاكرة الفلسطينية وتستأصل من الفضاء المؤسسي للتاريخ.
وفي المآذارة اليومية، يتجلى أثر هذه التنشئة في ترتيب أولويات التعاطف: “الموت الفلسطيني” لا يتجاوز خبرا جانبيا، بينما يضخَم الخوف على الرهائن أو على “أمن الدولة”.
لهذا لم يكن غريبا أن يخرج أكثر من مليون إسرائيلي في مظاهرات صاخبة، ليس للتنديد بإبادة المدنيين في غزة، بل للمطالبة حصريا بتحرير رهائن يهود؛ وكأن المعاناة تصبح مرئية فقط حين تتعلق بالـ”نحن”، فيما يحجب “الآخر” خلف جدار كثيف من اللامبالاة البنيوية.
البعد السيكولوجي: التطبيع مع العنف
يساعدنا علم النفس الاجتماعي على تفكيك هذه اللامبالاة البنيوية. فوفق نظرية “نزع الإنسانية” (Haslam, 2006)، يختزل الآخر في صورة مجردة: “تهديد” أو “رقم”، لا كحياة بشرية كاملة، ما يسهل تبرير العنف الموجه ضده.
في الحالة الإسرائيلية، لم يكن هذا الاختزال حدثا عابرا، بل آلية رسختها التربية والإعلام والسياسة عبر عقود طويلة. الفلسطيني لا يرى كـ “طفل يقتل”، بل كـ “احتمال خطر تمت معالجته”، أي كموضوع أمني أكثر منه ذاتا إنسانية.
إلى جانب ذلك، يقدم ألبرت باندورا مفهوم “فك الارتباط الأخلاقي” (Moral Disengagement) بوصفه آلية تتيح إعادة تأطير الأفعال العنيفة ضمن لغة مبرِرة ومخفَفة.
فالقصف يعاد توصيفه كـ “إجراء وقائي”، والموت الجماعي يدمج تحت خانة “الأضرار الجانبية”. هذه الإستراتيجية اللغوية تنقل اللوم إلى الضحايا أنفسهم (“لأنهم يختبئون خلف المدنيين”)، وتخلق مسافة عاطفية-رمزية تقلل من إدراك الألم الإنساني، بحيث يغدو التناقض الداخلي بين القيم الإنسانية ومآذارة العنف غير وارد أصلا.
على المستوى النفسي-الأخلاقي، يحدد باندورا حزمة من آليات التسكين الأخلاقي التي تضعف الإحساس بالذنب، وتسهل تقبل الإيذاء، من أبرزها:
- التسمية التلطيفية: استبدال كلمات محايدة أو تقنية (مثل “تحييد أهداف”) بتوصيفات واقعية لعمليات القصف التي تقتل مدنيين.
- المقارنة الفضلى: تبرير الفعل عبر مقارنته بما يقال إنه “أسوأ” يرتكبه الآخرون.
- تحويل المسؤولية: إلقاء العبء على “قرارات عليا”، أو على “ضرورات الأمن القومي” بدل المسؤول المباشر.
- إلقاء اللوم على الضحية: تصوير المدنيين كجزء من المشكلة لأن الجماعات المسلحة “تتخذهم دروعا بشرية”.
تكرار هذه الصيغ في الخطاب الرسمي والإعلامي لا يبرر العنف فحسب، بل ينشئ حاجزا لغويا-عاطفيا يطفئ “أجهزة الإنذار الأخلاقي” لدى الجمهور، ويحول المأساة الإنسانية إلى مجرد حدث تقني أو ضرورة أمنية، محروم من أي بعد وجداني أو أخلاقي.
هنا تتجلى خطورة البنية الأيديولوجية: فهي لا تكتفي بتحييد التعاطف، بل تنتج نوعا من “العمى الأخلاقي” الذي يمنع الحدث الإنساني من التحول إلى قضية أخلاقية. ففي اللحظة التي تختزل فيها غزة إلى “مسرح تهديد” لا إلى مجتمع بشري، يصبح الجوع والموت والتدمير نتيجة “منطقية” لمعادلة الأمن.
حتى الاحتجاجات الداخلية التي شهدتها إسرائيل في 2024 و2025 ضد حكومة نتنياهو تكشف عن هذا الانحراف البنيوي: المطلب المركزي لم يكن إنهاء الاحتلال أو وقف المجازر، بل استعادة “الرهائن” بوصفهم الامتداد المباشر لمنطق “الأمن القومي اليهودي”.
بكلمات أخرى، الضمير الجمعي لا يتم تفعيله إلا عندما يكون “اليهودي في خطر”، أما الفلسطيني فيترك خارج معادلة الاستحقاق الأخلاقي.
بهذا المعنى، لا تفهم اللامبالاة على أنها “فشل إنساني فردي” بقدر ما هي منتَج سيكولوجي-أيديولوجي ممنهج، صاغته عقود من التنشئة الإثنوقراطية والإعلام التعبوي، وحولته إلى ما يشبه “الإدراك الافتراضي” الذي يستبطنه الفرد الإسرائيلي، حتى وهو يهتف في الشارع ضد حكومته.
القوة الناعمة للأيديولوجيا: الأمن كمقدس
في إسرائيل، تتحول الأمننة (Securitization) إلى ما يشبه دينا مدنيا يسيطر على كل نقاش سياسي أو أخلاقي، بحيث يعاد تأطير أي مسألة على الفور ضمن سؤال واحد: “هل هذا يهدد أمن إسرائيل؟”.
هذا الإطار يجعل حتى اليسار الإسرائيلي عاجزا عن التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين، لأن أي اعتراف بمعاناتهم يفسر على أنه تهديد مباشر لسردية الأمن القومي. النتيجة هي مجتمع متماهٍ مع أيديولوجية تخدره أخلاقيا، وتحول دون رؤية الآخر كذات إنسانية كاملة.
الأيديولوجية الصهيونية أنتجت ضميرا جمعيا يقوم على ثلاثة محاور متداخلة:
- أولا، تفوق إثنوسياسي مكرس قانونيا ومؤسساتيا.
- ثانيا، إقصاء الفلسطيني عبر خطاب أمني مستمر ومتواصل.
- ثالثا، تطبيع العنف واعتبار معاناة الآخر “غير مرئية” أو هامشية أخلاقيا.
ما يرسم هنا ليس مجرد سياسة دولة، بل بنية متكاملة ذهنية ونفسية وقانونية تجعل المجتمع الإسرائيلي، في أغلبيته، عاجزا عن التعاطف مع الإبادة في غزة، بل يرى فيها إجراء أمنيا مشروعا.
2- ذهنية الحصار و”إيثوس الصراع”: صدمة طويلة العمر
تشتغل “ذهنية الحصار” في الوعي الإسرائيلي كعدسة معرفية لا ترى العالم إلا من ثقب التهديد. هذا ما يسميه دانيال بار-تال “إيثوس الصراع”: حزمة معتقدات جاهزة تحدد من نحن، من العدو، ما الذي يعد تهديدا، وكيف تقرأ المعاناة، ثم تصبح – بفعل التكرار المؤسسي والتعليم والإعلام والخبرة العسكرية – بديهة اجتماعية لا تحتاج إلى برهان.
حين تتجذر هذه البديهة، تتحول مشاهد غزة إلى “نتائج مؤسفة ولكن حتمية” ضمن معادلة تقدَس فيها الضرورات الأمنية، وتحذف منها كلفة الآخر الإنسانية. هنا لا يعود السؤال: “ماذا يحدث للفلسطينيين؟” بل “هل ما يحدث يقلل الخطر علينا؟”. هذا الانزياح هو جوهر الذهنية الحصارية: تحويل الأخلاق إلى ملحق للأمن.
تتغذى هذه الذهنية بصدمات متراكمة تمتد عبر عقود، تعيد إنتاجها الصهيونية باستمرار: اضطهاد أوروبا، المحرقة، الحروب المتكررة، وكل هذه الأحداث تحوَل إلى “ذاكرة عاملة” تتكرس من خلال طقوس مدنية، ومناهج دراسية، وإعلام يومي، لتصبح جزءا من فهم المجتمع الإسرائيلي لهويته وتهديداته.
في علم النفس السياسي تسمى هذه العملية “إدامة الصراع”؛ إذ تستخرج من الماضي رواية واحدة تفسر الحاضر وتنجز مهمتين في آن: تبرير السياسات الصلبة، وتحصين الجمهور ضد المعلومات المناقضة.
لذلك تقاوم الذهنية الحصارية الحقائق التي لا تتلاءم مع قالبها الإدراكي: صور التجويع تعاد صياغتها كـ “ضغط مشروع”، وقوائم قتلى الأطفال تختزل إلى “أرقام” تلقى مسؤوليتها على “عدو يستخدم المدنيين دروعا”.
إنها آلية نزع إنسانية مركبة: ترى الآخر كناقل محتمل للتهديد، فتنزِل عليه معايير أخلاقية مخففة، وتستبدل التعاطف بـ “حس ضرورة” بارد.
تتجلى هنا ديناميات نفس-اجتماعية واضحة:
- يتيح مفهوم “الانفصال الأخلاقي” (Moral Disengagement) لأفراد عاديين تبرير أذى جسيم ما دام أنه يغلف بخطاب دفاعي.
- بينما يدفع “التنافر المعرفي” إلى تجنب الأخبار التي تهز صورة الذات “المدافعة”.
- في الوقت نفسه، تعمل “الأمننة” على تحويل كل نقاش سياسي إلى اختبار ولاء للأمن القومي.
الخدمة العسكرية الإجبارية تضيف بعدا حسيا وتجريبيا، إذ تصنع خبرة يومية تغلف العالم بمنطق “نحن/هم”، وتبسط الحياة والموت إلى معادلات عملياتية قابلة للتطبيق.
وعندما يواجه الداخل هزة- عمليات عسكرية أو أسر رهائن- يتفعل ما يمكن تسميته “الالتفاف حول العلم”، فيرتفع منسوب الامتثال وتنكمش مساحة الشك الأخلاقي، حتى يعاد تعريف الاحتجاج ذاته كأداة لتحسين الأداء الحربي لا لوقف العنف: أكبر الحشود قد تتظاهر، لكن سقف مطالبتها يظل “تحرير الرهائن” لا “تحرير الأخلاق من أسر الأمن”.
هذا الإيثوس ليس مجرد أفكار في الهواء؛ إنه بنية مؤسسية:
- القانون يعيد تعريف الانتماء واللغة والرموز بما يرسخ مركزية “الشعب المهيمن”.
- الإعلام العمومي والخاص يشتغل بمنطق “إدارة الإدراك” لا اختبار السردية.
- المدرسة تنتج مواطنا محصنا ضد الشك في بداهات الأمن.
- المؤسسة الدينية-القومية تمنح الصراع قداسة تحول “القيم المحمية” إلى تابوهات لا تقبل المقايضة (Atran: Sacred Values).
ومع الزمن، تتبلور “أمية أخلاقية انتقائية”: قدرة عالية على رصد ألم الذات مع عطب مزمن في التقاط ألم الآخر. عند هذه العتبة يصبح موت الفلسطيني “ضجيجا خلفيا” لا يقطع البث الرئيسي، ويغدو الانشغال بالرهائن هو الامتحان الأسمى للفضيلة العامة.
ولئن كانت الذهنية الحصارية تبدو عصية على الاختراق، فإن نقاط هشاشتها معروفة:
- عندما تتخالط دوائر المعرفة (شهادات جنود ومسعفين، تحقيقات حقوقية من مصادر تعد “من داخل الدائرة”، أدلة بصرية موثقة يصعب إنكارها) يبدأ التنافر المعرفي في تقويض يقينها.
- وعندما تظهر التكاليف الإستراتيجية والاقتصادية والسمعية للحرب أنها تهديد مباشر للأمن نفسه، تتشقق قداسة “الضرورة”.
لكن ذلك لا يحدث تلقائيا؛ يحتاج إلى جسور إبستيمية [معرفية]، وإلى إعلام لا يكتفي بإعادة تدوير خطاب الخطر، وإلى نخب سياسية وثقافية تعيد تدوير الذاكرة الجمعية من “ذاكرة حصار” إلى “ذاكرة تحذير أخلاقي” ترى في أمن الآخر شرطا لازدهار الذات.
ما لم يحدث هذا التحول، سيظل الإيثوس يعمل كجهاز تخدير جماعي: يخفض الإحساس بالذنب، ويرفع عتبة تحمل الأذى الواقع على الآخر، ويحافظ على دائرة مغلقة من العنف المبرَر ذاتيا.
الخلاصة القاسية أن “ذهنية الحصار” ليست وصفا بل برنامج عمل يومي: تنتج سياسة، وتشغل إعلاما، وتعيد تنشئة أجيال. وبقدر ما تحافظ على تماسك المجتمع الإسرائيلي حول أمنه “المقدس”، فإنها تفقِد هذا المجتمع القدرة على رؤية إنسانيته كاملة لأنه لا يرى إنسانية الآخرين.
كسر الحلقة يتطلب اعترافا شجاعا بأن الأمن الذي يعفيك من الأخلاق هو أمن مؤقت، وأن إيثوس الصراع – مهما طال عمر صدمته – لا يستطيع أن يصنع سلاما ولا حتى “أمنا” مستداما؛ إنه يصنع فقط عينا لا تبصر إلا خطرها، وضميرا لا يسمع إلا صدى نفسه.
3- من التنشئة إلى التمثيل: كيف تصبح المعاناة “غير مرئية”؟
يتداخل مساران طويلان- التنشئة المبكرة والتمثيل العام- ليقودا إلى نتيجة واحدة: تحويل معاناة الفلسطينيين إلى “لامرئي”.
في المدرسة، تغرس البذرة الأولى. تظهر دراسات تحليل الكتب المدرسية الإسرائيلية أن تقديم الفلسطينيين يجري غالبا عبر محو بصري ودلالي: خرائط بلا أسماء عربية، مفردات تصف المكان كأرض “خالية” أعيد “تحريرها”، وسردية أحادية تجعل حضور الفلسطيني حدثا طارئا لا حاملا لحق ولا لذاكرة.
هذا ما وثقته نوريت بِلِد-إلحانان في قراءتها اللغوية-البصرية للمناهج، حيث تتحول اختيارات الصورة واللغة إلى أداة لتصغير وجود “الآخر” وإبعاده عن أفق التعاطف. نتيجة هذا البناء ليست “معلومة” فحسب، بل عادة نظر تعلِم الأجيال كيف لا ترى.
وحين ينتقل اليافع إلى الفضاء العام، يتلقف الإعلام الخيط من المدرسة لكنه ينسجه بخيوط “أمنية”. يبين دانيال دور، في تحليله تغطية اندلاع الانتفاضة الثانية، كيف صيغ الخبر ضمن قوالب جاهزة تؤطِر الحدث انطلاقا من مصادر أمنية رسمية، وتعيد ترتيب الوقائع بحيث تقدَم القوة على أنها “رد” والضحايا الفلسطينيون على أنهم “أضرار جانبية”، لا يدعي دور سوء نية المراسلين بقدر ما يكشف “اقتصادا سرديا” يجعل زوايا التغطية تضيق كلما ارتفع منسوب الخطر.
وفي منظور أوسع، يظهر غادي ولفسفلِد أن وسائل الإعلام في سياقات الصراع تميل إلى الاصطفاف مع البيئة السياسية السائدة؛ فحين تتقدم رواية الأمن على غيرها، يصبح دور الإعلام في الغالب تعزيز الإجماع لا زعزعته، وتعلو أصوات المؤسسة العسكرية على أصوات الضحايا. بهذه الدينامية، تتشكل “هندسة للمرئي”: ما يعرض، ومَن يقتبس، وكيف تسمى الأشياء.
ويتكفل البحث التجريبي بإظهار الوجه الأكثر صرامة لهذه العملية: إزالة الإنسانية. طور نور كتيلي وإميل برونو وزملاؤهما مقياس “سلم صعود الإنسان” الذي يقيس “التجريد الصريح لصفة الإنسانية” عند النظر إلى جماعات خارجية.
في عينات شملت إسرائيليين وفلسطينيين، تنبأ ارتفاع مستويات هذا التجريد بتأييد عقوبات أقسى وسياسات أقل تسوية، أي إن تراجع الاعتراف بالإنسانية يقترن مباشرة بالقبول بمزيد من الأذى.
وتظهر أعمال لاحقة في سياق “الحرب غير المتكافئة” أن إزالة الإنسانية متبادلة ولكنها متغذية على وقع العنف، ما يجعل كل جولة أشد قسوة من سابقتها؛ لأنها جاءت مهيأة نفسيا بسلسلة من عمليات نزع الاعتراف.
النتيجة العملية: حين يتراجع حضور “الإنسان” في تمثيل الآخر، يهبط معه سقف التعاطف، ويصعد القبول بالإيذاء “بوصفه تدبيرا ضروريا”.
بهذه السلسلة الممتدة من الفصل الدراسي إلى النشرة، ومن التسمية إلى القياس التجريبي، يتحول الألم الفلسطيني إلى حدث “خارجي” لا يخترق الوجدان العام إلا استثناء. ليس لأن الأفراد مولعون بالقسوة، بل لأن البنى المعرفية واللغوية تنظم ما يرى وما لا يرى، ومن يستحق التفهم ومن يعرَف خطرا.
- المدرسة تنقص رصيد “القابلية للتعاطف” عبر محو مبكر.
- الإعلام يعيد ترتيب الخبر على محور الأمن.
- الآليات النفسية تسكن القلق الأخلاقي وتعيد تسمية الفعل.
- والنتيجة تقاس في المختبر: ارتفاع التجريد الإنساني يساوي دعما أوسع لسياسات أكثر إيذاء.
وحين تشتد التعبئة وتتكرس “ذهنية الحصار”، يصبح أي كسر لهذا النسق مكلفا اجتماعيا – إذ يقرأ التعاطف مع الضحية بوصفه “خيانة للسردية الأمنية”.
لذلك، فإن معالجة “لامرئية” المعاناة لا تبدأ بنداءات أخلاقية عامة، بل بتعديل في مصادر الرؤية نفسها: محتوى المنهاج، قوالب التغطية، لغة الفاعلين الرسميين، وآليات المساءلة التي تمنع اللغة من أن تخدر الحس الأخلاقي.
هذا هو “السر” في تلخيصه العلمي: لا حاجة لرقابة صلبة كي تطفَأ رؤية الألم، يكفي انتظام مؤسسي في إنتاج خطاب يحرك العيون بعيدا – ويقنع الضمير بأن ما لا يرى… غير موجود.
4- “جز العشب”: عقيدة إدارة الصراع بدل حله
“جز العشب” ليس استعارة بل عقيدة أمنية إسرائيلية راسخة خلال العقدين الأخيرين: جولات عسكرية دورية لتقليص قدرة الفاعلين الفلسطينيين على المقاومة، من دون أي مسعى لمعالجة جذور الصراع.
هي إدارة الخطر بدل حله، إستراتيجية تكتيكية قصيرة الأمد تحول الاحتلال إلى روتين من الضرب والتهدئة المؤقتة.
المفهوم صاغه باحثون إسرائيليون مثل إنبار وشامير كخيار واقعي أمام خصوم “غير دولتيين” بلا أفق سياسي قريب. الضربات المتقطعة تهدف إلى كبح السعة القتالية للخصم، تليها هدنة قصيرة ثم جولة جديدة، في دورة مستمرة من العنف تقدَم داخليا كـ “صيانة ردعية” ضرورية لأمن المجتمع.
على الأرض، تتحول هذه الجولات إلى دمار واسع للبنية التحتية، نزوح جماعي، وقتل مدنيين، فيقدَم الفلسطينيون كثمن مقبول في خطاب الأمن. يتحول العنف إلى إجراء روتيني، ويطبع في الوعي بوصفه “قدرا لا بد منه”.
كل دورة تعيد إنتاج مقاومة جديدة، وكل دمار يولد بيئة خصبة للفقر واليأس والرغبة في الانتقام، ما يجعل العنف متكررا ويستنزف الموارد دون أي تغيير جوهري في المعادلة السياسية.
الأثر الميداني والإنساني واضح:
- انهيار الخدمات الأساسية.
- تآكل اقتصادي طويل الأمد.
- صدمات نفسية جماعية.
- بيئة إقليمية قابلة للاشتعال مع دور متزايد لقوى خارجية.
في المقابل، تمنح هذه المآذارة النخب الإسرائيلية ما يمكن وصفه بـ “مخدر أخلاقي”، إذ تقدَم للجمهور باعتبارها ثمنا أمنيا مقبولا، ما يقلل المساءلة القانونية والسياسية، ويعزز شرعية استخدام القوة بلا حدود.
نقديا، تبدو هذه العقيدة ناجعة تكتيكيا لكنها عقيمة إستراتيجيا: لا تعالج العدالة أو أفق السلام، وتحول الاحتلال إلى صيانة دورية للعنف، وتطبع الحرب كحقيقة طبيعية بدلا من كونها انحرافا عن القانون والأخلاق.
الخروج من هذا الروتين يتطلب كسر منطق العنف الدوري، واستبداله بعملية سياسية شاملة، إقرار كامل بالحقوق الفلسطينية، إعادة إعمار مستدامة تربط بين التنمية والعدالة، وآليات محاسبة صارمة تمنع تحويل القصف إلى روتين بلا ثمن.
“جز العشب” ليس مجرد إستراتيجية أمنية، بل آلية لإعادة إنتاج العنف، والبديل الحقيقي لا يكمن في جولات محسوبة بل في شجاعة سياسية تضمن الأمن عبر العدالة وتحطم العمى الأخلاقي الذي يبرر استمرار الاحتلال.
5- نحو كسر دائرة “العمى الأخلاقي”
إن “العمى الأخلاقي” الذي يطبع المجتمع الإسرائيلي ونخبه السياسية والثقافية ليس عرضا نفسيا فرديا ولا خطأ عاطفيا عابرا، بل هو بنية متكاملة تتضافر فيها المنظومات القانونية-السياسية، والذهنية الصراعية، وآليات التنشئة والتمثيل الثقافي، والعقائد الأمنية المؤدلجة.
هذه البنية تخلق حالة من التمنع البنيوي أمام الاعتراف بالذنب، وتمنح العنف شرعية دائمة عبر سردية الدولة-الأمة، بحيث يتحول الاحتلال والتمييز إلى “إجراءات دفاعية”، ويعاد إنتاج الضحية كمسؤولة عن مأساتها.
لكن السؤال المركزي يبقى: هل هذا قدر محتوم؟
الجواب: لا. العمى الأخلاقي حالة مصنعة يمكن زعزعتها عبر برنامج طويل الأمد، متعدد المستويات، يجمع بين التفكيك الداخلي، واستعادة الحقوق الفلسطينية، وإعادة تشكيل وعي دولي جديد.
1- التفكيك الداخلي: نحو تحرير اليهود من أسر الصهيونية
أي مقاربة إستراتيجية للتغيير تبدأ من الداخل الإسرائيلي، عبر:
- القانون والسياسة: إخضاع المنظومة القانونية التي تشرعن التمييز لنقد جذري، وربط شرعية إسرائيل الدولية بوقف الاستيطان والالتزام الصارم بالقانون الدولي.
- تفكيك الذهنية الصراعية: مواجهة خطاب “العدو الدائم” عبر أدوات التعليم البديل والإعلام النقدي، بما يعيد تشكيل العلاقة مع الفلسطيني لا كـ “تهديد وجودي”، بل كشريك في العدالة.
- النخب الجديدة: لن يتحقق تحول بنيوي دون بروز نخب يهودية- دينية وعلمانية، من الداخل والخارج – مناهضة للصهيونية، تدعو إلى إعادة تعريف الهوية اليهودية خارج منطق الدولة الاستيطانية. هذه النخب يمكنها أن تحرر اليهود من سجن الأيديولوجيا الصهيونية الذي حولهم إلى أدوات احتلال، وتمنحهم فرصة لاستعادة معنى إنساني-أخلاقي لهويتهم.
مبادرة مستقبلية مقترحة: “منتدى اليهود ضد الصهيونية”، شبكة دولية تجمع مثقفين وفنانين ويهودا تقدميين يعيدون صياغة خطاب بديل، يفتح الطريق أمام شراكات عادلة مع الفلسطينيين والعالم.
2- استعادة الحقوق الفلسطينية: العدالة كشرط للسلام
لا معنى لتفكيك العمى الأخلاقي دون إعادة الحقوق الفلسطينية كاملة:
- الحق في العودة: ليس شعارا عاطفيا، بل هو قاعدة قانونية (قرار 194) وأساس لأي تسوية عادلة.
- بناء الدولة الفلسطينية المستقلة: بحدود واضحة، وسيادة حقيقية على الأرض والموارد والمعابر.
- التعويض والعدالة الانتقالية: إنشاء صندوق دولي لتعويض ضحايا الاحتلال والتهجير والدمار، يمول من الدول الداعمة للاحتلال منذ الانتداب البريطاني إلى اليوم، ومن أصول مجمدة، ليكون أداة للإنصاف التاريخي.
- الاعتراف التاريخي: إلزام إسرائيل والمجتمع الدولي بالاعتراف بالنكبة كجريمة مؤسسة، وبالفلسطينيين كفاعلين تاريخيين كاملين لا مجرد “أزمة إنسانية”.
مبادرة مستقبلية مقترحة: “محكمة الذاكرة الفلسطينية” – هيئة رمزية-أكاديمية-حقوقية توثق جرائم التهجير والقتل وتبني أرشيفا مفتوحا، يفرض سردية بديلة ويقطع مع محاولات محو التاريخ.
3- وعي دولي جديد: من التواطؤ إلى التضامن الفاعل
التحول لا يكتمل دون إعادة تشكيل الوعي العالمي:
- حركات المقاطعة والتحالفات الشعبية: تعزيز التضامن عبر الجامعات، النقابات، والحركات الشبابية، بما يخلق ضغطا متواصلا على الحكومات.
- إعادة صياغة الشرعية الدولية: الانتقال من أحادية الهيمنة الغربية إلى تعددية مراكز الشرعية (أميركا اللاتينية، أفريقيا، آسيا)، ما يمنح الفلسطينيين حلفاء أقوياء في مواجهة احتكار القرار.
- مأسسة المقاومة الرمزية: إدماج المجتمع المدني العالمي في قرارات الشرعية الدولية، عبر آليات استشارية وحملات إعلامية دولية تفضح التواطؤ المستمر.
مبادرة مستقبلية مقترحة: “تحالف العدل العالمي لفلسطين”، تجمع دولي-شعبي يربط بين مناهضة الاستعمار والفصل العنصري في فلسطين وقضايا العدالة في جنوب العالم.
الخلاصة التحليلية
العمى الأخلاقي ليس قدرا مفروضا، بل بنية قابلة للتفكيك. والتحرر منه يتطلب:
- تفكيك داخلي يحرر اليهود أنفسهم من أسر الصهيونية ويفتح المجال أمام نخب جديدة.
- استعادة الحقوق الفلسطينية كاملة: عودة، دولة، تعويض، اعتراف.
- إعادة تشكيل وعي عالمي ينتج شرعية متعددة الأقطاب ويحول التضامن إلى قوة ضاغطة.
إن الحل ليس في ترقيع الإصلاحات ولا في “إدارة” العنف، بل في إعادة بناء حقل الشرعية ذاته: من تعريف الضحية والجاني، إلى تصور جديد للعدالة والسلام، يقوم على الحرية المتبادلة، والاعتراف المتبادل، والخروج من منطق الاستعمار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.