الصين تتغلغل في أميركا اللاتينية… من بوابة البرازيل

الصين تتغلغل في أميركا اللاتينية… من بوابة البرازيل

في الأشهر الأخيرة، تسارعت وتيرة التغلغل الاقتصادي الصيني في أميركا اللاتينية، وتحديداً عبر البوابة البرازيلية، حيث باتت بكين تُعيد رسم خريطة نفوذها العالمي، من خلال الاستثمار المباشر والتعاون الصناعي، وسط أجواء من التوتر التجاري المتزايد بين البرازيل والولايات المتحدة.

في هذا السياق، أصبحت شركة السيارات الكهربائية الصينية العملاقة BYD  رمزاً لتحول استراتيجي واسع النطاق، إذ بدأت تجميع سياراتها محلياً في البرازيل بجودة عالية، مستغلة الفرصة التي أتاحها القرار الأميركي الأخير بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على السيارات المستوردة من البرازيل. هذا التصعيد الأميركي، الذي جاء في ظل توترات داخلية مرتبطة بمحاكمة الرئيس السابق بولسونارو، أعاد توجيه بوصلة الاستثمار الصيني إلى داخل الاقتصاد البرازيلي، حيث وجدت بكين أرضاً خصبة للتوسع.

بحسب مؤشرات متخصصة في تتبع الاستثمار الصيني حول العالم، ارتفع حجم الاستثمارات المباشرة من الصين إلى البرازيل إلى 2.2 مليار دولار في النصف الأول من عام 2025، بزيادة قدرها 5% عن الفترة نفسها من العام الماضي. وهو ما وضع البرازيل في المرتبة الثانية عالمياً بوصفها أكبر مستقبل للاستثمارات الصينية، بعد إندونيسيا.

ويمتد هذا التوسع إلى مجالات متعددة، أبرزها:

• الطاقة المتجددة: تُعد البرازيل من الدول الرائدة عالمياً في الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة، إذ تُنتج حوالي 80% من كهربائها من مصادر متجددة. منذ عام 2007، نفذت الشركات الصينية 264 مشروعاً في هذا المجال داخل البرازيل، بقيمة تجاوزت 73 مليار دولار، شملت محطات كهرومائية وشمسية وطاقة الرياح.
• الصناعة والتحول الأخضر: أعلنت شركة Envision Energy الصينية عن مشروع مشترك مع البرازيل لإنتاج وقود الطائرات الحيوي من قصب السكر، باستثمار يفوق مليار دولار.
• الزراعة الذكية: تدخل الصين بقوة في الزراعة الدقيقة، عبر شراكات في التكنولوجيا الزراعية والطائرات المسيّرة، بما في ذلك التعاون مع شركة DJI الصينية الرائدة.

بدائل البرازيل في حرب الرسوم الجمركية

مع دخول الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة حيّز التنفيذ، تراجع موقف واشنطن في أعين صانعي القرار في برازيليا. فقد عبّرت الحكومة البرازيلية عن استيائها في منظمة التجارة العالمية، ولوّحت بإمكانية اللجوء إلى المحاكم الأميركية للطعن في القرار.

في الوقت ذاته، يُعيد الرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، تنشيط السياسة الخارجية الاقتصادية لبلاده، عبر تعزيز الروابط مع دول مجموعة البريكس، ومواصلة مفاوضات تجارية معلّقة مع الاتحاد الأوروبي وكندا، في وقت تُعد فيه الصين شريكاً أكثر مرونة وفعالية على أرض الواقع.

ولم تكن استجابة بكين لهذا الفراغ بطيئة. فعبر صندوق التعاون الصناعي الصيني-البرازيلي الذي تبلغ قيمته 20 مليار دولار، يجري تمويل مشاريع بنية تحتية رئيسية، من موانئ ومراكز بيانات إلى شبكات قطارات تربط الداخل الساحلي بالموانئ الحيوية، مثل ميناء سانتوس.

البرازيل بين واشنطن وبكين: توازن على خيط رفيع

بالتوازي مع التحولات السياسية والاقتصادية، كشفت استطلاعات الرأي الأخيرة في البرازيل عن تراجع حاد في النظرة الإيجابية تجاه الولايات المتحدة، حيث تضاعفت الآراء السلبية إلى 48%. في المقابل، ارتفعت النظرة الإيجابية للبرازيل تجاه الصين إلى 49%، في إشارة إلى تغيّر المزاج الشعبي الذي بات يرى في بكين شريكاً اقتصادياً أكثر استقراراً.

على الرغم من هذه التحولات، لا تزال الحكومة البرازيلية حريصة على عدم قطع شعرة العلاقات مع واشنطن. فقد دعا نائب الرئيس جيرالدو ألكمين، ورجال الدولة البرازيليون، رجال الأعمال الأميركيين إلى “الوساطة” لتخفيف التوتر، معتبرين أن “الضغط القضائي” على البرازيل بشأن قضايا داخلية، وعلى رأسها ملف بولسونارو، يُعد تدخلاً غير مقبول. لكن المستشار الرئاسي للشؤون الخارجية ماورو فييرا كان واضحاً حين قال: “سنُصرّ على فصل السياسة عن الاقتصاد. القضايا القضائية تخص محاكمنا، وليست جزءاً من أي مساومة تجارية”.

في نهاية المطاف، فإن الصين لا تزحف إلى أميركا اللاتينية بالسلاح أو عبر الجدل السياسي، بل عبر الاستثمار والإنتاج والتكنولوجيا. أما البرازيل، وهي القوة الصناعية الأكبر في جنوب القارة، فتجد نفسها في قلب هذا التحول الجيو-اقتصادي، مستثمرةً فرص التوتر الأميركي-الصيني لتعزيز موقعها. في المقابل، تخاطر واشنطن بخسارة حلفاء تاريخيين، ما لم تُدرك أن العالم يتغيّر… وأن الميزة التنافسية باتت تنتقل شرقاً، بخطى ثابتة.