حضور لافت للأفلام الأرجنتينية في مهرجان فينيسيا السينمائي

حضور لافت للأفلام الأرجنتينية في مهرجان فينيسيا السينمائي

بعدما تضررت السينما الأرجنتينية بشدّة من تخفيضات الميزانية وعدم تمثيلها بشكل وافٍ في المهرجانات الدولية الأخيرة، تعود إلى “مهرجان فينيسيا السينمائي” (Venice Film Festival) مع خمسة أعمال، بينها فيلم وثائقي لإحدى أبرز مخرجاتها لوكريسيا مارتيل.

كانت لتولّي خافيير ميلي رئاسة الأرجنتين في كانون الأول/كانون الأول 2023 تداعيات كبيرة على القطاع السينمائي، وخصوصاً على الهيئة العامة المسؤولة عن تعزيز إنتاج الأفلام ودعمه “إينكا” (INCAA).

وبعدما كان الإنتاج السينمائي يحظى بدعم من خلال سلسلة من المنح وأحياناً على شكل سلف، بات “يتعيّن على المنتجين إيجاد تمويلهم من القطاع الخاص، وعندما تُستوفى كل الشروط، يصبح من حقكم الحصول على الدعم”، وفق ما أوضحت فانيسا باغاني، رئيسة جمعية منتجي الوسائط السمعية والبصرية المستقلة (APIMA)، لوكالة فرانس برس. وأضافت: “منذ تعيين إدارة جديدة للهيئة العامة… لم يحصل أي فيلم على تمويل”.

ولفت الباحث المتخصص في السينما الوثائقية خافيير كامبو إلى أنّه “لا أحد يعرف أين تُصرف أموال الهيئة” التي تحصل على نسبة من عائدات دور السينما، لكن الأكيد أن “هذه الأموال لا يتم استثمارها في الإنتاج الوطني”.

تعافٍ وهمي

في “مهرجان كان السينمائي” (Cannes Film Festival)، الذي لطالما كان للأرجنتين حضور قوي فيه، اقتصرت المشاركة هذا العام على فيلم قصير وفيلم “درانكن نودلز” (Drunken Noodles) للمخرج لوسيو كاسترو.

أما في مهرجان فينيسيا السينمائي، فتشارك الأرجنتين بفيلم “أون كابو سويلتو” (Un Cabo Suelto) للمخرج دانيال هندلر ومن إنتاج مشترك بين أوروغواي وإسبانيا، وفيلم “بين دو فارتي” (Pien de Parte) لأليخو موغيلانسكي، وفيلم “ذا سوفلور” (The Souffleur)” للمخرج غاستون سولنيكي من إنتاج مشترك مع النمسا، وفيلم قصير.

وسيشهد مهرجان فينيسيا عرضاً من خارج المسابقة لفيلم “نوسترا تييرا” (Nuestra Tierra) للمخرجة لوكريسيا مارتيل، الذي يتناول اغتيال الناشط خافيير تشوكوبار وتهجير جماعته من السكان الأصليين في توكومان بالأرجنتين.

ورأى خافيير كامبو أنّ “الأمل في تعافي القطاع وهمي”، لأن هذه الأعمال عبارة عن “إنتاجات مشتركة ممولة إلى حد كبير من جهات خارجية”، ما يجعل “من الصعب القول إنها أفلام أرجنتينية بالكامل”.

واعتبر هيرنان فيندلينغ، رئيس الأكاديمية الأرجنتينية للفنون والعلوم السينمائية، أنّ “التصوير مكلف (…) في ظل حكومة لا تدافع عن الثقافة” وصعوبات اقتصادية، متوقعاً أن “ينخفض إنتاج الأفلام بشكل كبير على المديين القصير والمتوسط”. وحتى لو استمر الإنتاج بفضل منصات البث التدفقي وشركات الإنتاج الكبرى، فإن ذلك ينطوي على مخاطر، وفق الخبراء، لا سيما في ما يتعلق بتراجع التنوع.

وقالت فانيسا باغاني: “نشهد فقدان جزء من السينما، ذلك الجزء الذي يحقق نجاحاً في المهرجانات ويحظى بشهرة تتجاوز عدد التذاكر المباعة”. وشدّد هيرنان فيندلينغ على أنّ “ما تقدمه المنصات قيّم جداً” لأنه “يتيح لنا الحفاظ على جزء من الإنتاج وتوفير فرص عمل. لكن لا يمكن أن يكون هذا الإنتاج الوحيد في الأرجنتين”. وبحسب المنتج، إذا تركز الإنتاج على المنصات الكبرى، “فلن يكون هناك تجديد جيلي”، لأن هذه الشركات تستهدف عادة منتجات معروفة ومخرجين وممثلين وكتّاب سيناريو سبق أن أثبتوا حضورهم.

(فرانس برس)

الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل أفلام بوليوود

الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل أفلام بوليوود

تُعرف بوليوود (Bollywood) بأغنياتها الاستعراضية الفخمة وأطقم إنتاجها الضخمة، لكنها تجد نفسها اليوم في مواجهة عرض من نوع جديد: الذكاء الاصطناعي. فمن تعديل نهايات أيقونية إلى توليد أفلام كاملة، يُحدث الذكاء الاصطناعي هزّة في صناعة السينما الهندية التي تقدر بمليارات الدولارات، مثيراً قلقاً لدى البعض وحماسةً لدى آخرين.

بدأ الجدل عندما أعاد المنتجون إصدار فيلم “رانجانا” (Raanjhanaa) الشهير عام 2013 بنهاية معدّلة بالذكاء الاصطناعي، وذلك عند دبلجته إلى اللغة التاميلية في جنوب الهند. النهاية الجديدة بدّلت المشهد المأساوي لموت البطل إلى نهاية أكثر تفاؤلاً، حيث ظهر جفن البطل وهو يرمش وكأنه عاد إلى الحياة، ما أثار غضب المخرج آناند ل. راي وبطل الفيلم دانوش، فقد ندّد الاثنان بهذا التغيير، واعتبراه انتهاكاً للحقوق الإبداعية.

وكتب دانوش عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد إصدار النسخة المعدلة في آب/آب: “لقد جُرِّدت هذه النهاية البديلة الفيلم من روحه”. وأضاف: “لقد مضت الجهات المعنية في هذا التعديل رغم اعتراضاتي الواضحة”، معتبراً استخدام الذكاء الاصطناعي لتغيير الأفلام “سابقة مثيرة للقلق العميق لكل من الفن والفنانين”. وتابع مؤكداً: “إنه تهديد لسلامة السرد ولإرث السينما”.

أما المخرج راي فشدّد على أنّ الذكاء الاصطناعي “بالتأكيد هو المستقبل… لكنه ليس موجوداً لتغيير الماضي”.

بعد أيام قليلة فقط، أعلنت شركة “كولكتيف آرتيستس نيتوورك” عن أول فيلم هندي طويل مُنتَج بالكامل بالذكاء الاصطناعي بعنوان “تشيرنجيفي هانومان – الأبدي” (Chiranjeevi Hanuman — The Eternal). الفيلم الملحمي المستند إلى الأساطير، والمقرر صدوره عام 2026، يسعى لدمج الحكايات القديمة بالتكنولوجيا الحديثة لجذب جمهور عالمي، ويروي قصة الإله القرد الهندوسي هانومان. لكن الإعلان لم يثر إعجاب الجميع.

وكتب المخرج فيكراماديتيا موتوان على وسائل التواصل الاجتماعي: “وهكذا يبدأ الأمر. من يحتاج إلى الكُتّاب والمخرجين عندما يكون الفيلم قد صُنع بالذكاء الاصطناعي؟”.

الذكاء الاصطناعي.. تكنولوجيا ديمقراطية

تتهيأ الصناعة لمعركة محتومة. فمن جهة هناك من يرون في الذكاء الاصطناعي أداة ثورية لخفض التكاليف، قادرة على الاستعاضة عن جيوش الكومبارس والفنيين الذين تشتهر بهم بوليوود بكثافة عملها. ومن الجهة الأخرى يقف المدافعون عن الفن، وعن العفوية والتعبير الإنساني. ويرى آخرون فرصة في استخدام الذكاء الاصطناعي لدعم السينما التقليدية.

وأوضح المخرج شاكون باترا، الذي أنجز سلسلة قصيرة من خمسة أفلام باستخدام الذكاء الاصطناعي: “لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يعني الاستغناء عن اللحم والدم. أفضل مستقبل هو ذاك الذي تندمج فيه المهارتان معاً”. لكنه شدّد على أنّ التكنولوجيا يجب أن تكمل الإبداع البشري لا أن تهيمن عليه. ولفت إلى أنه “لا يشجع الذكاء الاصطناعي بديلاً للجهد الإنساني في التعبير”، مشيراً إلى أعماله الدرامية العاطفية مثل “إك ماين أور إك تو” (Ek Main Aur Ekk Tu) و”كابور آند سانز” (Kapoor & Sons) و”غيرهاياان” (Gehraiyaan).

أما المخرج المخضرم شيخار كابور، صاحب أفلام كلاسيكية مثل “ماسوم” (Masoom) و”مستر إنديا” (Mr. India) وفيلم “إليزابيث” (Elizabeth) عام 1998 المرشح لسبع جوائز أوسكار، فقد بدا أقل انزعاجاً، مؤكداً أنّ الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أن يحل محل السرد الجيد.

وأوضح لوكالة فرانس برس: “أفضل القصص هي غير المتوقعة، والذكاء الاصطناعي لا يمكنه التعامل مع عنصر المفاجأة”. وأضاف موضحاً: “الذكاء الاصطناعي عاجز، في هذه اللحظة، عن إنتاج أداء عظيم على الشاشة، لأن نجوم العالم الكبار يَمثُلون بعيونهم لا بوجوههم”.

ورأى كابور أنّ الذكاء الاصطناعي سيكون مدمراً فقط لصنّاع الأفلام الذين يعتمدون على القوالب النمطية المكررة. وبيّن: “إذا كانت أفلامك متوقعة… فمن الطبيعي أن يدمرك الذكاء الاصطناعي. ربما سيتمكن طفل ما في مكان ما من فعل ما تفعله”. لكنه استدرك أنّ الذكاء الاصطناعي، في أفضل حالاته، قد يفتح آفاقاً جديدة أمام الصناعة. وأردف: “إنه تكنولوجيا ديمقراطية للغاية لأنه يمنح فرصاً لأولئك الذين لم يكن ليحصلوا عليها. كم عدد الأشخاص في الهند الذين يمكنهم تحمّل تكاليف الالتحاق بمدارس السينما؟”.

مستقبل السينما يحدده الجمهور

يرى كابور أنّ التأثير الأكبر للذكاء الاصطناعي سيطاول في البداية الأفلام ذات الميزانيات الضخمة، مثل أفلام الأبطال الخارقين التي تعتمد على مشاهد الحركة. وكشف أنه يدمج الذكاء الاصطناعي بنشاط في مشاريعه، بل يخطط لتأسيس مدرسة سينمائية متخصصة في هذه التقنية داخل حي دارافي الفقير في مومباي. وأشار أن تلك التكنولوجيا “ستمكّن المبدعين، وتسوّي الميدان أمام صانعي الأفلام المستقلين، بل قد يؤدي إلى ظهور نجوم وشخصيات سينمائية جديدة بالكامل يجري توليدها بالذكاء الاصطناعي”.

لكن صُنّاع الأفلام يذكّرون في الوقت نفسه بأنّ مستقبل السينما يحدده الجمهور. فمخرج “رانجانا” (Raanjhanaa)، آناند ل. راي، أعرب عن ارتياحه لدعم الجمهور لنسخة الفيلم الأصلية غير المعدلة، بعد مرور 12 عاماً على صدورها. وأوضح: “رد فعل الجمهور على الذكاء الاصطناعي كان أكبر بكثير من رد فعلي أنا. إنه فيلمهم أكثر مما هو فيلمي”.

محمود حديد… شريط ذكريات يدور مع بكرات 35 مم

محمود حديد… شريط ذكريات يدور مع بكرات 35 مم

في كل مرة يستعيد محمود حديد ــ الملقب بشيخ كار السينمائيين السوريين ــ فيلم “سينما باراديزو” (1988) لجوزيبيه تورنتاتوري، يبتسم قائلاً: “هذا الفيلم عني… عني وعن نزيه الشهبندر وكل عارضي الأفلام”. يرى حديد نفسه في شخصية ألفريدو، ذاك الذي انتهى به المطاف فاقداً بصره بين أنقاض صالة محترقة، بينما شاهَدَ الصالات التي عمل فيها تُغلق واحدة تلو الأخرى، من سينما بلودان إلى سينما الدنيا. وها هو اليوم متقاعد عن العمل بعد أن أغلقت سينما الدنيا منذ عام ونصف العام مرّا عليه “كأنهما خمسون عاماً” على حد تعبيره، لكن ذاكرته ما زالت تدور مع بكرات 35 مم التي يحتفظ بها، مع آلات عرض وتصوير قديمة، وأرشيف نادر من الأغاني والأفلام العربية.

حين استحضرنا أمامه “سينما باراديزو”، شردت عيناه كمن ينقّب في ذاكرة بعيدة، أو يستعيد مشهداً غابراً من حلم. يسأل: “أرأيتِ كيف كان ألفريدو يقتطع مشاهد القُبل؟”، ثمّ يجيب: “هذا هو محمود حديد”. حياة الرجل، وقد قارب التسعين، بدت هي الأخرى شريطاً سينمائياً متواصلاً من طفولته في قضاء صفد في فلسطين، حتى لقائه بمعلمه المخرج نزيه الشهبندر، وصولاً إلى سنواته الطويلة خلف ماكينة العرض.

ولد في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وحفظ القرآن في حلقات الكتّاب قبل أن تطبع النكبة أول مشاهدها في ذاكرته. كلما نظر اليوم إلى ابن حفيده نائماً، عادت به الذاكرة إلى تلك اللحظة حين كان في العمر نفسه، واستيقظ على جدته توضب الأغراض استعداداً للرحيل. يقول: “خرجنا من صفد ونمنا في وادي الطواحين في الجليل الأعلى. سمحوا لنا أن نبيت ليلاً هناك، ثم كانت عمتي وأمي تصعدان إلينا لتأتيا بما تستطعيان حمله على رأسيهما”. كانت تلك أيام ما قبل 1948. يروي أنه “جاء جيش الإنقاذ يأخذ العائلات إلى بلد قريب، أخذونا أولاً إلى لبنان، إلى منطقة عينطورة، ثم انتقلنا لاحقاً إلى دمشق”. هناك، كان الاستقرار الأول في حي المزة الذي تنحدر منه جدته. يقول: “الشعب السوري شعب عظيم. فتحوا لنا بيوتهم. من لم يجد بيتاً أقام في الجامع، لم يتركوا أحداً بلا مأوى… جئنا ومعنا بعض المال، فالليرة الفلسطينية كانت من أقوى العملات آنذاك، لكن سرعان ما تبدلت الأحوال. كانت فلسطين بلداً صغيراً وغنياً”.

تمرد الابن على قرار الأسرة في أن يصبح خياطاً، ووجد ضالته الأولى في الخط العربي، فتتلمذ على يد المعلم الكبير بدوي الديراني، إلا أن القدر واحتراف الخط العربي أخذاه إلى محطة أخرى وهي الغرفة المظلمة التي ينبثق منها الضوء في السينما. هناك، سيلتقي أستاذه الثاني والأكبر أثراً في حياته، المخرج نزيه الشهبندر، رائد السينما الناطقة في سورية، وصاحب فيلم “نور وظلام” (1948)، أول فيلم سوري-لبناني ناطق. كان محمود في الخامسة عشرة حين استدعاه الشهبندر ليكتب العبارات على أفيشات الأفلام، ومن ثم راح يعلمه أسرار العرض وآلاته. كان الشهبندر يعمل على تجارب مبكرة للسينما ثلاثية الأبعاد من دون نظارات، وأطلع حديد على ما يعمل عليه ويحلم بإنجازه، فهو “كان سابقاً عصره وزمانه”، كما يقول حديد.

أشعل الشهبندر الشرارة التي سترافق محمود حديد طوال عمره، وحين يتحدث عن أستاذه وعن السينما والطفولة، ينقلب لسانه إلى لهجته الفلسطينية الواضحة: “الشهبندر هو شيخ الكار الأول. هو الذي أدخل لمبات الأكزينون إلى الصالات، منهياً زمن قضبان الفحم”. كان زمناً يتطلب من العارض أن يضرب قضيبين من الفحم بعضه في بعض، فيتولد قوس كهربائي يضيء الشاشة. طريقة مرهقة للعارض والجمهور معاً؛ لحظة غفلة واحدة من العارض تكفي لينطفئ الضوء وتغرق الصالة في عتمة مفاجئة، وتنطلق حينها صرخات الجمهور وتصفيراتهم “راحت الصورة!”، ثم “جاء الشهبندر بضوء الأكزينون، بقدرة 1600 واط، فاستقر المشهد على الشاشة وأصبح العرض أنقى”.

في الخمسينيات، بدأ عمله في صيفيات سينما بلودان، قبل أن يوصيه الشهبندر بالنزول إلى دمشق ليتابع العمل معه عن قرب. حينها ركب معدات سينما الدنيا، وشيئاً فشيئاً تجاوزت العلاقة ثنائية الأستاذ والتلميذ، وأمست أباً روحياً وابناً، حتى إن المخرج كان يناديه “محمود الشهبندر حديد” على حد تعبيره. حديد رأى في نفسه امتداداً لمعلمه، ووفياً لإرثه، ولا سيما حين ساهم بإنشاء سينما الهواء الطلق في منطقة الجديدة في ريف دمشق عام 2008، فهو حامل الإرث واللقب وتقاليد المهنة: “الشهبندر أخذ بيدي إذ كان العارض يبدأ من الصفر، أولاً يمسح آلة العرض، ثم يتدرج خطوة بخطوة، إلى أن يقف أمام شيخ الكار الذي يمتحنه، فيمنحه بطاقة عارض رسمي، كانت المهنة أشبه بتراتبية، لا يبلغها إلا من صبر وتمرّس، وأدرك المكنات وسحرها عن قرب”.

في سيرة محمود حديد تتشابك الحكايات مع وجوه النجوم على الشاشة الكبيرة، تلك الوجوه التي كانت العدسة تقترب منها حتى تكشف أدق الملامح، فيضحك معها الجمهور ويبكي معها كأن الأرواح كلها قد اندمجت في روح واحدة. من بين تلك الذكريات، يلمع فيلم “ودعت حبك” (1956) ليوسف شاهين، من بطولة فريد الأطرش وشادية وأحمد رمزي. في صيف بلودان، في العام نفسه، كان حديد يراقب من كوة العرض دموع النساء وهي تنهمر مع صوت الأطرش يغني “مكتوب عليّا أودعك واحنا سوا…”. لحظة الذروة جاءت حين قالت شادية “للأسف غنالكم لآخر مرة”، عندها تصاعد البكاء في الصالة، وتناهت الآهات إلى غرفة العرض الضيقة. لم يمض سوى القليل من زمن العرض السينمائي حتى تموت الشخصية التي يلعب دورها فريد الأطرش. يضحك وهو يروي كيف خرج الأطرش نفسه بعد العرض ليحيّي الجمهور الذي ظنه قد مات.

“كانت الناس تعيش بالفيلم… اليوم لم يعد هناك من يعيش بالأفلام. المشاعر تغيّرت.. السينما كانت مدرسة للحياة، فيها صراع الخير والشر، وفيها تجربة وجدانية كاملة”. هكذا يقول، قبل أن تقفز ذاكرته فجأة إلى أول فيلم شاهده في طفولته: “فيلم ويسترن، يومها ارتعبت واختبأت تحت الكرسي”.

السينما في الخمسينيات والستينيات لم تكن مجرد تسلية، بل نزهة ومناسبة عائلية كبرى. كانت العائلات ترتدي أجمل الثياب كما لو أنها ذاهبة إلى حفل. يبدأ العرض بالنشيد الوطني، يليه شريط إخباري قصير، وإعلانات منها للعطور وأخرى لآخر صيحات الموضة، ثم الفيلم الروائي الطويل: “كانت السينما مكاناً لمعرفة العالم، للتثقيف وتبسيط المعاني الكبرى”، يقول. لكن الصورة النمطية كانت تلاحق العاملين في السينما، فقد وُصموا بأنهم “عاطلون”، ما انعكس حتى على حياتهم الشخصية. يروي محمود حديد أنه حين تقدّم لخطبة زوجته اضطر إلى دفع مهر أعلى: “كنا نعتقد أننا خرجنا من فلسطين مؤقتاً، وظل هذا الاعتقاد إلى أن تزوجت من امرأة دمشقية. يومها كان شرط عائلتها ألا أعيدها معي إلى صفد حين نعود”. 

يلتفت إلى مهنته التي يصفها بأنها حياته كلها: “عشت مع المكنة (الآلة)، أسمع صوتها، وأراقب دورانها، وأتأكد من الصورة والصوت كل يوم”، ويرى أن في تطور السينما تحولاً على مستوى إنساني. يتحدث عن تطور السينما كما لو كان يروي سيرة حياة أخرى موازية لسيرته: “في زمن البدايات الصامتة، كان المعلّق أو الخطاط يصعد السلم إلى جوار الشاشة، يمسك بالطبشور ليكتب جملة تختصر ما يجري في المشهد، ثم جاءت الفرق الموسيقية الحيّة، تصاحب العروض بأنغام الكمان والبيانو، قبل أن يظهر جهاز تشغيل الأسطوانات في محاولة أولى لربط الصوت بالصورة”. ومع نهاية العشرينيات، أدخلت شركات مثل ويسترن إلكتريك وRCA أنظمة الصوت المتزامن، فبدأ عصر السينما الناطقة. تطورت الأحجام من 9.5 ملم للهواة، إلى 16 ملم للأغراض التعليمية، وصولاً إلى 35 ملم الذي صار معيار العروض التجارية. حتى ثقوب الشريط الجانبية استقر شكلها ليمنح حركة الفيلم سلاسة أكبر وصورة أوضح. وفي الخمسينيات، تعاقبت الابتكارات: VistaVision باتساع صورته، وStereophonic sound بالصوت المجسم، وتقنيات السينما ثلاثية الأبعاد، وصولاً إلى Cinerama، الشاشة المقوّسة التي تطلّبت ثلاث ماكينات عرض تعمل في وقت واحد لصناعة صورة بانورامية واحدة. ومع تثبيت سرعة 24 كادراً في الثانية، اكتسبت الصورة نقاءً أكبر، وامتلك المونتاج أفقاً أوسع.

مع كل هذا التطور، يأسف محمود حديد لانحسار دور السينما التقليدية، بعدما ابتلعتها المولات التجارية، وتلاشى سحرها أمام الرقمنة إلا أنه يعتقد أن صالات السينما زمان ولّى. ومع مرور السنوات، لم يعد شغفه بالعرض مجرد مهنة، بل تحوّل إلى مشروع جمع وحفظ، اقتنى آلات عرض وتصوير، وغرامافونات وأفلاماً قديمة، حتى صار يملك أرشيفاً بصرياً نادراً، خُصّصت له قاعة تحمل اسمه في دار الأوبرا السورية. ما زال يحتفظ بجهاز عرض 9.5 ملم تذكاراً من زمن البدايات، وبمايكروفون غنّى فيه عبد الحليم حافظ، إلى جانب آلات تصوير وعرض فريدة. يقول محمود حديد بفرح لا يخلو من دهشة طفل: “أسعدني أن أقتني أول آلة عرض ناطقة دخلت سورية، من نوع كومونت الفرنسية تعود إلى عام 1933. وأكثر ما أدهشني أنني عثرت على جهاز بصري من القرن التاسع عشر، يشبه تلك الألعاب التي كانت تحرّك الصورة قبل اختراع السينما”.

افتتاح مهرجان فينيسيا الـ82: دعوة إلى الرحمة والتسامح وحبّ الحياة

افتتاح مهرجان فينيسيا الـ82: دعوة إلى الرحمة والتسامح وحبّ الحياة

هل هناك رسالة مقصودة، تعمّد ألبرتو باربيرا، المدير الفني لـ”مهرجان فينيسيا”، إرسالها مع انطلاق الدورة الـ82 (27 آب/آب ـ 6 أيلول/أيلول 2025)؟ لا لبس في هذا، خاصة أن فيلمي افتتاح المسابقة الرئيسية (والمشارك فيها) وبرنامج آفاق، “الرحمة” للإيطالي باولو سورينتينو و”الأم” للمقدونية تيونا ستروغر ميتيفسكا، ورغم الاختلاف الجغرافي والزمني والأحداث، يتطابق الموضوع والأفكار الرئيسية والرسالة الضمنية فيهما إلى حدّ كبير.

هناك رغبة جلية في تأكيد القيم الإنسانية المطروحة فيهما، ومدى أهمية حياة البشر، وقيمة الحياة، قبل أي شيء. في قلب هذا، سيادة الرحمة والمغفرة والتسامح، في ظلّ قسوة الحياة المعاصرة. وضرورة عدم التسرّع في اتّخاذ أي قرارات متعجّلة، أو منطلقة من دوافع معيّنة، بخصوص حياة البشر ومستقبلهم. تدور أحداث الفيلم العاشر لسورينتينو، المهمّ والمُثير لأسئلة وقضايا كثيرة حسّاسة، بطريقة إنسانية عميقة للغاية، عن الأيام الأخيرة لرئيس إيطالي متخيّل، يُدعى ماريانو دي سانتيس، بأداء كارزيمي مذهل لتوني سيرفيلو، بطل معظم أفلامه.

رغم انطلاقه من صلب السياسة، وما يدور في كواليس القصر الرئاسي، قبل أشهر قليلة على تقاعد الرئيس، يبتعد “الرحمة” عن السياسة كثيراً، طارحاً أسئلة إنسانية ووجودية عامة، ومُثيراً معضلات إنسانية مُربكة، تتعلّق بحسم مصائر أشخاص، والتوقيع أو عدم التوقيع على قانون القتل الرحيم وتبعاته، في بلد كاثوليكي كإيطاليا. ورغم أنّ معظم المشاهد لم تكن خارج أروقة القصر الفاخر، والحجرات الشاسعة، والإضاءة الداخلية، والرسميات، والحُلل الأنيقة، والتعامل البروتوكولي، في أجواء تعيد إلى السينما الكلاسيكية البسيطة، لكنها هنا مُعبّرة في الوقت نفسه عن روح الحاضر، وتخاطب المستقبل بطريقة بارعة. والتجربة السينمائية هذه تمزج بين العناصر المعتادة في سينما سورينتينو: النظرة الشاعرية التأمّلية العميقة للحياة والعلاقات، تتخلّلها لمحات عن العبث والفَقَد والحنين.

طبعاً، يحضر أسلوبه الساخر، قليلاً. إذْ يسبق كلّ شيء الاشتغال البصري المتقن والساحر، الذي مَيّز أعماله، واللقطات الطويلة الهادئة، والألوان المشبعة، حتى وإنْ دارت الأحداث والمشاهد في الحجرات المغلقة. كما تحضر الموسيقى الكلاسيكية، وإنْ كانت الغلبة لموسيقى الراب المعاصرة، التي تحاور الصورة، وتتفاعل معها الشخصيات، أكثر من كونها تعليقاً على الأحداث.

في النهاية، يعطي سورينتينو درساً بمعنى الكلمة للكيفية التي ينبغي أنْ تُتّخذ بها القرارات الحاسمة، سياسياً أو إنسانياً، بعيداً عن الاندفاع وإظهار القوة والأفكار الملتوية، وكيف يجب أنْ تكون عقلية مُتّخد القرار وتصرّفاته. هذا مع الابتعاد كثيراً عن الصورة التي أظهر بها سورّينتينو شخصية الرئيس الراحل جوليو أندريوتي، ورئيس الوزراء الراحل سيلفيو برلسكوني. فالانطلاقة هنا ليست ذات خلفية سياسية واجتماعية واقتصادية، بل إنسانية بحتة.

أمّا المقدونية تيونا ستروغر ميتيفسكا، فتقدّم في حبكة فيلمها العاشر أفكاراً وإحالات وتأمّلات، تشترك مع طرح باولو سورينتينو، والمُعالجة الكلاسيكية للأحداث، والاعتماد القوي على أداء الممثلين للشخصيات. “الأم” سيرة درامية مؤثرّة عن الأيام السبعة الأخيرة في حياة الأم تيريزا، ستكون مفصلية في تلك الحياة، قبل أنْ تصلها رسالة من الفاتيكان تسمح لها بمغادرة دير “لوريتو” (كُلكاتا)، منتصف القرن الماضي، والابتعاد عن حياة الدير، وتدريس التلاميذ، والإشراف على الراهبات، وغيرها من المهام، لتأسيس جمعية تبشيرية خاصة بها.

لا خلفيات فيه عن حياتها، تُحيل إلى واقعها باعتبارها إحدى أبرز الشخصيات الإنسانية في القرن الـ20، لأعمالها الخيرية في الهند، باستثناء وجودها في دير “لوريتو”، وتدريسها، ورعاية الراهبات. بينما المعروف أنّها لم تكن هندية أصلاً، رغم منحها الجنسية الهندية لاحقاً، بل مقدونية، واسمها الحقيقي أنْيِزا كونجي بوياجيو. تنقل مشاهد الافتتاح جانباً من الدور الخيري للأم تيريزا (نومي ريْباس، بأداء جيّد جداً): إطعام الفقراء، وعلاج المُصابين بالجزام، رعاية الأيتام، ومهام أخرى، شاقّة وعسيرة. إضافة إلى الصورة العامة للروتين اليومي لحياة الدير، والتعريف ببعض الراهبات. أغلبية هذه المشاهد مُصوّرة باحترافية وفنية، وتوظيف جيّد للإضاءة، ما أسهم في نقل ما هي عليه حياة الدير من قسوة وتقشّف، وانعكاسها على الشخصيات.

تتعقّد الأحداث الفيلم وتتصاعد، وصولاً إلى الذروة، بمعالجة كلاسيكية، في السيناريو والإخراج، بعد اكتشاف الأم تيريزا أنّ الراهبة أجنيشكا (سيلفيا هويكس)، المُقرّبة لها وكانت تُعدّها لتكون خليفتها، حبلى، ما يضعها في مواجهة حاسمة مع الراهبة، بل مع إيمانها ومعتقداتها وآرائها. ولاسيما أنّ الأمور تتعقّد مع رغبة أجنيشكا في التخلّص من الجنين، والتطهّر من الدنس، ومحاولة الانتحار. ثم محاولة إبقاء الطفل، وترك الدير نهائياً.

هناك أيضاً مفاهيم الرحمة والمغفرة والتسامح، وأخرى متعلّقة بأخطاء البشر ونواقصهم. حضورها بالفيلم قوي، لكنْ في إطار ربطها أكثر ليس بشخصية الأم تيريزا بذاتها، بل بما تمثّله كرمز ديني وخيري وإنساني. فرأي الدين والدولة، المُحَرِّمَين للإجهاض، وقتل الروح، في مقابل مفهوم الخطيئة والزنى، وقضايا وطروحات، تؤكّد ضرورة عدم التسرّع في الحكم على الآخر، أو إدانته، أو اتّخاذ قرارات متعجّلة، مهما كانت المنطلقات والدوافع والمرجعيات. ثم التأكيد البالغ لأهمية حياة البشر، وقيمة الحياة، والتمسّك بالإنسانية.

افتتاح مهرجان فينيسيا الـ82: دعوة إلى الرحمة والتسامح وحبّ الحياة

افتتاح مهرجان فينيسيا الـ82: دعوة إلى الرحمة والتسامح وحبّ الحياة

هل هناك رسالة مقصودة، تعمّد ألبرتو باربيرا، المدير الفني لـ”مهرجان فينيسيا”، إرسالها مع انطلاق الدورة الـ82 (27 آب/آب ـ 6 أيلول/أيلول 2025)؟ لا لبس في هذا، خاصة أن فيلمي افتتاح المسابقة الرئيسية (والمشارك فيها) وبرنامج آفاق، “الرحمة” للإيطالي باولو سورينتينو و”الأم” للمقدونية تيونا ستروغر ميتيفسكا، ورغم الاختلاف الجغرافي والزمني والأحداث، يتطابق الموضوع والأفكار الرئيسية والرسالة الضمنية فيهما إلى حدّ كبير.

هناك رغبة جلية في تأكيد القيم الإنسانية المطروحة فيهما، ومدى أهمية حياة البشر، وقيمة الحياة، قبل أي شيء. في قلب هذا، سيادة الرحمة والمغفرة والتسامح، في ظلّ قسوة الحياة المعاصرة. وضرورة عدم التسرّع في اتّخاذ أي قرارات متعجّلة، أو منطلقة من دوافع معيّنة، بخصوص حياة البشر ومستقبلهم. تدور أحداث الفيلم العاشر لسورينتينو، المهمّ والمُثير لأسئلة وقضايا كثيرة حسّاسة، بطريقة إنسانية عميقة للغاية، عن الأيام الأخيرة لرئيس إيطالي متخيّل، يُدعى ماريانو دي سانتيس، بأداء كارزيمي مذهل لتوني سيرفيلو، بطل معظم أفلامه.

رغم انطلاقه من صلب السياسة، وما يدور في كواليس القصر الرئاسي، قبل أشهر قليلة على تقاعد الرئيس، يبتعد “الرحمة” عن السياسة كثيراً، طارحاً أسئلة إنسانية ووجودية عامة، ومُثيراً معضلات إنسانية مُربكة، تتعلّق بحسم مصائر أشخاص، والتوقيع أو عدم التوقيع على قانون القتل الرحيم وتبعاته، في بلد كاثوليكي كإيطاليا. ورغم أنّ معظم المشاهد لم تكن خارج أروقة القصر الفاخر، والحجرات الشاسعة، والإضاءة الداخلية، والرسميات، والحُلل الأنيقة، والتعامل البروتوكولي، في أجواء تعيد إلى السينما الكلاسيكية البسيطة، لكنها هنا مُعبّرة في الوقت نفسه عن روح الحاضر، وتخاطب المستقبل بطريقة بارعة. والتجربة السينمائية هذه تمزج بين العناصر المعتادة في سينما سورينتينو: النظرة الشاعرية التأمّلية العميقة للحياة والعلاقات، تتخلّلها لمحات عن العبث والفَقَد والحنين.

طبعاً، يحضر أسلوبه الساخر، قليلاً. إذْ يسبق كلّ شيء الاشتغال البصري المتقن والساحر، الذي مَيّز أعماله، واللقطات الطويلة الهادئة، والألوان المشبعة، حتى وإنْ دارت الأحداث والمشاهد في الحجرات المغلقة. كما تحضر الموسيقى الكلاسيكية، وإنْ كانت الغلبة لموسيقى الراب المعاصرة، التي تحاور الصورة، وتتفاعل معها الشخصيات، أكثر من كونها تعليقاً على الأحداث.

في النهاية، يعطي سورينتينو درساً بمعنى الكلمة للكيفية التي ينبغي أنْ تُتّخذ بها القرارات الحاسمة، سياسياً أو إنسانياً، بعيداً عن الاندفاع وإظهار القوة والأفكار الملتوية، وكيف يجب أنْ تكون عقلية مُتّخد القرار وتصرّفاته. هذا مع الابتعاد كثيراً عن الصورة التي أظهر بها سورّينتينو شخصية الرئيس الراحل جوليو أندريوتي، ورئيس الوزراء الراحل سيلفيو برلسكوني. فالانطلاقة هنا ليست ذات خلفية سياسية واجتماعية واقتصادية، بل إنسانية بحتة.

أمّا المقدونية تيونا ستروغر ميتيفسكا، فتقدّم في حبكة فيلمها العاشر أفكاراً وإحالات وتأمّلات، تشترك مع طرح باولو سورينتينو، والمُعالجة الكلاسيكية للأحداث، والاعتماد القوي على أداء الممثلين للشخصيات. “الأم” سيرة درامية مؤثرّة عن الأيام السبعة الأخيرة في حياة الأم تيريزا، ستكون مفصلية في تلك الحياة، قبل أنْ تصلها رسالة من الفاتيكان تسمح لها بمغادرة دير “لوريتو” (كُلكاتا)، منتصف القرن الماضي، والابتعاد عن حياة الدير، وتدريس التلاميذ، والإشراف على الراهبات، وغيرها من المهام، لتأسيس جمعية تبشيرية خاصة بها.

لا خلفيات فيه عن حياتها، تُحيل إلى واقعها باعتبارها إحدى أبرز الشخصيات الإنسانية في القرن الـ20، لأعمالها الخيرية في الهند، باستثناء وجودها في دير “لوريتو”، وتدريسها، ورعاية الراهبات. بينما المعروف أنّها لم تكن هندية أصلاً، رغم منحها الجنسية الهندية لاحقاً، بل مقدونية، واسمها الحقيقي أنْيِزا كونجي بوياجيو. تنقل مشاهد الافتتاح جانباً من الدور الخيري للأم تيريزا (نومي ريْباس، بأداء جيّد جداً): إطعام الفقراء، وعلاج المُصابين بالجزام، رعاية الأيتام، ومهام أخرى، شاقّة وعسيرة. إضافة إلى الصورة العامة للروتين اليومي لحياة الدير، والتعريف ببعض الراهبات. أغلبية هذه المشاهد مُصوّرة باحترافية وفنية، وتوظيف جيّد للإضاءة، ما أسهم في نقل ما هي عليه حياة الدير من قسوة وتقشّف، وانعكاسها على الشخصيات.

تتعقّد الأحداث الفيلم وتتصاعد، وصولاً إلى الذروة، بمعالجة كلاسيكية، في السيناريو والإخراج، بعد اكتشاف الأم تيريزا أنّ الراهبة أجنيشكا (سيلفيا هويكس)، المُقرّبة لها وكانت تُعدّها لتكون خليفتها، حبلى، ما يضعها في مواجهة حاسمة مع الراهبة، بل مع إيمانها ومعتقداتها وآرائها. ولاسيما أنّ الأمور تتعقّد مع رغبة أجنيشكا في التخلّص من الجنين، والتطهّر من الدنس، ومحاولة الانتحار. ثم محاولة إبقاء الطفل، وترك الدير نهائياً.

هناك أيضاً مفاهيم الرحمة والمغفرة والتسامح، وأخرى متعلّقة بأخطاء البشر ونواقصهم. حضورها بالفيلم قوي، لكنْ في إطار ربطها أكثر ليس بشخصية الأم تيريزا بذاتها، بل بما تمثّله كرمز ديني وخيري وإنساني. فرأي الدين والدولة، المُحَرِّمَين للإجهاض، وقتل الروح، في مقابل مفهوم الخطيئة والزنى، وقضايا وطروحات، تؤكّد ضرورة عدم التسرّع في الحكم على الآخر، أو إدانته، أو اتّخاذ قرارات متعجّلة، مهما كانت المنطلقات والدوافع والمرجعيات. ثم التأكيد البالغ لأهمية حياة البشر، وقيمة الحياة، والتمسّك بالإنسانية.