صوت أبو عبيدة

صوت أبو عبيدة

ما أبعد اليقين، وما أندره، وما أخطره إذا زاد عن حدّه أو غاب… يبدو اليقين في ظاهره حاجزاً عن الوعي، لكنهما، عند من جرّبهما، وجهان لعملة الحياة الحقيقية. حياة من يعرف المعنى، فيعيش به وله، وحين يرحل فإليه، أنّى للمتفرّجين أن يدركوا ذلك؟ وهم مجرّد مراقبين، يسمعون ويشاهدون ويصفقون أو يُبرطمون، وكفى.

مرّت لحظاتٌ قليلةٌ في تجربة جيلنا، لامسنا فيها يقيناً، فأدركنا من نحن؟ وإلى من وإلى ماذا ننتمي؟ وأين نقف؟ وإلى أين ينبغي لنا وعلينا أن نذهب؟ في تجربة جيلنا لم نشهد سوى لحظتين، ثورات الربيع العربي، ويوم 7 تشرين الأول (2023)، هكذا فرزتنا التجربة، صقلتنا، أحرقتنا، كما تحرق النار الذهب فيصير إبريزاً.

ما الهزيمة؟ الهزيمة أن نتوقّف. هكذا تعلّمنا، لست مهزوماً ما دمت تقاوم وقوفك واستسلامك، الهزيمة ليست قدراً، ولا نهاية التاريخ، بل هي نقطة على خطّه، ولنا وعلينا أن نتجاوزها، هذا هو الطريق، أيا كان اختلافنا بشأن الطريقة.

هل مات أبو عبيدة؟ ليس هذا هو السؤال، بل لماذا خطّط العدو لاغتياله؟ لماذا رآه هدفاً وانتصاراً؟ ولماذا كان الإعلان عن اغتياله (صدق أم لم يصدق) مصدر نشوة وفرحة وشماتة للعدو ولحلفائه من الصهاينة العرب؟، لا نتحدّث عن مقاتل يحمل السلاح، بل صوت يحمل قضية، فما المرعب في كلماته حد استهداف حياته؟ حين تدرك الإجابة، سوف تدرك أن العدو حكاية، وأن انتصاره المتخيّل حكاية، وأن الاستسلام “الواقعي” حكاية، وأن المقاومة حكاية، ومن يملك الحكاية يملك المستقبل، ولا يعني وصول أبو عبيدة بصوته وحكايته سوى أن ثمّة أملاً وثمّة مستقبلاً.

من هنا اندفعت النيران لتغتال المستقبل، ومعها وخلفها رصاصات الخداع الشامل. أخبار وتغطيات ومنشورات وتغريدات تستهدف انتزاع سردية أبو عبيدة من صدورنا، فهي الأخطر على مستقبل العدو وعلى مستقبل حلفائه من الصهاينة العرب. يمضي الرجال وتبقى الحكاية.

يمكنك الآن أن تقرأ بوضوح خطابات قناتي “العربية” و”سكاي نيوز” وتعليقات الكتائب الإلكترونية والتيوس المستعارة في مصر، عندها تفهم لماذا احتفوا؟ ولماذا انتشوا؟ ولماذا قلّلوا من شهيد محتمل، وشوّهوا صورته، وشكّكوا في نيته؟ إنه خط إنتاج لم يتوقّف، منذ 7 تشرين الأول، اتهامه بأنه في فنادق الدوحة لا في غزّة، معايرته بأنه ملثّم، المطالبة بتعريته ليسهل قتله، وأخيرا شماتة تجاوزت، في بعض صياغاتها، حدّ التصهين إلى حدودٍ بلا اسم، بلا أصل، بلا هوية، تماماً مثل أصحابها.

لا يدعو هذا إلى الحزن أو إلى القهر بل إلى الوعي، نقطة التفوّق، ربما، الوحيدة لدى عدونا، وعيه بنفسه ووعيه بنا، ربما أكثر منا، وعيه بأهمية أبو عبيدة، وكل أبو عبيدة، بخطورة الصوت النافذ، والرواية الحية، والحكاية المقاوِمة، ومن ثم الغد الممكن، لا المستحيل، كما كذّبونا فصدقناهم، فغدونا شهود زور على أنفسنا، وصرنا أكذب من أكاذيبهم.

“الهزيمة: أن يسكت أبو عبيدة”، هكذا يخبرنا العدو، وهكذا يردّد حلفاؤه في الداخل العربي، فهو في خطابات إعلام محور الاستسلام الواقعي ليس شهيداً، ولا مقاتلاً، ولا رمزاً، ولا ينبغي أن يكون، هكذا تجري الأمور، وهكذا تأتي الإجابات واضحة كصفعة، رغم محاولات أصحابها الفاشلة في اللفّ والدوران، والتذرّع حيناً بالواقعية، وحيناً بالوطنية، وحيناً بالخوف من الإسلاميين، وحيناً بمحاربة الإرهاب، المطلوب أن نسكت، في إسرائيل وفي فروعها الإقليمية، الكلمة هي جريمة أبو عبيدة وجيله، الكلمة هي “الشهادة” ، شهادة الحي على الأموات، الحر على السجناء، “ابن الربيع والأمل والشمس والزينة” على أولاد العتمة والرماد والهشاشة والتيه، هذه هي الحكاية، أو كما قال عم أحمد فؤاد نجم؛ “أصل الحكاية ولد/ فارس ولا زيه/ خَد من بلال ندهته/ ومن النبي ضيه/ ومن الحسين وقفته/ في محنته زيه/ قدم شبابه فدا/ والحق له عارفين/ يا ابن الربيع والأمل والشمس والزينة/ مين يا فتى أعلمك/ فعل الخريف فينا؟/ وكبرت برة الزمان/ اللي ابتلاك بينا/ نايمين على ودننا/ مع إننا عارفين”.