جحيم الملل.. كيف دفع البشر نحو الحرب أحيانا ولازمهم فيها طويلا؟

جحيم الملل.. كيف دفع البشر نحو الحرب أحيانا ولازمهم فيها طويلا؟

ليس المللُ فراغًا في جدول المواعيد، بل فراغٌ في المعنى. لحظةٌ تُطفئ ضجيج العالم فتكتشف أنّ ما يملأ يومك لا يلامس جوهرك. حينئذٍ تشعر كأنك واقفٌ خارج اللعبة؛ تتحرّك الأشياء من حولك من غيرك، وتتحرّك أنت بينها بلا سببٍ مُقنع. تلك اللحظة مزعجة، نعم، لكنها أيضًا نافذة صغيرة على الحرّية: توقفٌ عن الركض يسمح بسؤالٍ قديمٍ وجارح: ما الذي يستحق أن تُبذَل له الحياة؟

في الأوقات الطويلة من السلم، أو في الفواصل الممتدّة بين المعارك، يتراكم هذا الشعور مثل غبارٍ دقيقٍ على الروح. لا يهدأ إلا بفعلٍ يملك وزنًا ومعنى، فعلٍ يوازن بين ما نستطيعه وما يشعرنا بالتحدّي. فإذا هان التحدّي دوّخنا السأم، وإذا جاوز طاقتنا أرهقنا القلق.

وبين هذين الحدّين يندفع الناس إلى “الفعل الكبير”؛ هناك تتحوّل الرتابة إلى رغبة جامحة في كسرها، أحيانًا بخلق حياةٍ لها معنى الرسالة، وأحيانًا، على نحوٍ أكثر خطورة، بالارتماء في أحضان العنف الذي يعد بالكثافة واليقين والانتماء.

تلك الفجوة بين ما نستطيع فعله ومعنى ما نفعله، بين ما نقدر عليه وما يُشعِرنا بأننا أحياء، ليست شأنًا فرديًّا فحسب؛ إنها شأن اجتماعي عام يظهر كلّما ازدحمت حياتنا بخياراتٍ سطحيةٍ تخلو من مقصد. عندها يغدو الملل حيلةَ التاريخ لاستدعاء الأسئلة المؤجّلة: ما العمل إذن؟ وأيُّ فعلٍ يمكن أن يملأ هذا الفراغ، وأيّ فعل يُعمِّقه؟

6- يعتبر الشعور بالملل في المدرسة أمرا عرضيا ولكن بالنسبة للآخرين فهو شكوى مستمرة- (بيكسلز)
بيولوجيا، نميل نحو الانشغال الذهني، ونشعر بعدم الراحة حين تكون قدراتنا الذهنية غير مستغلة بالكامل (بيكسلز)

الشعور المعقد

في كتاب “رأسي يتصدع”، سيكولوجية الملل يشير جيمس دانكيرت وجون د إيستوود في محاولاتهما لتعريف الملل إلى أنه افتقاد للقوة الفاعلة، وللارتباط بمن حولنا، مؤكدين أنه مثل الجمال؛ يقع في عين الناظر، فما يُسعد أحدهم قد يورِّث غيره الملل.

فسيولوجيًّا يعرف الأطباء الملل، ويقولون إنه انخفاضٌ في نشاط قشرة الدماغ أمام مثيراتٍ واهية؛ فينشّط الدماغ شبكاتٍ أخرى فتظهر أحلامُ اليقظة طلبًا للاهتمام. إنه حالة نعبرها كما نعبر أيّام الطقس السيّئ.

إعلان

وبيولوجيا نميل نحو الانشغال الذهني، ونشعر بعدم الراحة حين تكون قدراتنا الذهنية غير مستغلة بالكامل، يشبه الأمر سوء التغذية، الملل هنا إشارة تشبه الجوع عند نقص التغذية، تدفعنا لأن نبحث عن هذا الانشغال، إنه إحساس قوامه غياب شيء ما والدافع لملء هذا الغياب، تعمل فيه آليتان؛ إمكانات ذهنية غير مستغلة، ومعضلة الرغبة.

يصف مارتن هايدغر درجاتٍ للملل: الملل السطحي، مثل شعور مرور الوقت ببطء في محطّةٍ يتأخّر فيها القطار، وملل اللقاءات العابرة التي تنتهي بلا أثرٍ معنوي، نتطرق فيها للحديث عن الطقس والأبناء وقصص أخرى، إنها لحظات من الارتباط بالعالم، لحظات جميلة لكنها بعد أن تنتهي تخلف شعورا بأنها كانت مملة، وأخيرًا الملل العميق حين يبدو الكفاحُ اليومي بلا مغزى! فراغٌ مرعب حين نعجز عن خلق معنًى مُرضٍ، فتنطفئ القوّة وتغدو الحياة كأننا نقف على حافة هاوية. ويختصر ليو تولستوي المعضلة بأنّ الملل “رغبةٌ في الرغبات”.

تكمن “معضلة الملل” في حقيقة أنك تريد أن تقوم بشيء، لديك الرغبة في التدفق والانخراط في أمر ما، ولكن لا شيء يلوح في الأفق، يختلف الملل عن الإحباط؛ في الإحباط نُحرم من تحقيق هدف ما، لكن الملل هو أن نفتقد الهدف من الأساس، نريده لكننا لا نعرف كيف نحدده، يملؤنا الألم بسبب حاجة لا نعرف سبل إشباعها أصلا، وليس الأمر أننا حاولنا ولم نتمكن.

بهذا المعنى لا يكون الملل غيابًا للحركة بقدر ما هو غيابٌ للبوصلة. يمكن لليوم أن يفيض بالمهامّ ومع ذلك نشعر بأننا خارج ذواتنا. وما يعيدنا إلى الداخل ليس مزيدًا من الانشغال، بل فعلٌ يمتلك توازنًا صحيًّا بين ما نتقنه وما يستفزّ قدراتنا. هناك فقط يتبدّد الزمن وتتّقد الحواس؛ لا لأننا هربنا من السأم، بل لأننا لمسنا ما يمنح العمل قيمة.

Martin Heidegger
الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (غيتي)

الملل.. صانع الحضارة وأصل الشر

يتمثل جوهر الحياة في الرغبة والاجتهاد والاشتياق كما يقول المفكر والفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور، والسعادة حصيلة مؤقتة لإشباع الرغبة، وما أن تتحقق حتى تظهر رغبة أخرى، وقدرنا -في رأي شوبنهاور- هو أن نعاني معظم الوقت؛ إما بسبب الألم الناجم عن عدم تحقيق الرغبة بعد، أو الملل الناشئ عن عدم وجود رغبة للسعي وراءها.

ومن هنا يفهم المرء لماذا يُطفئ التحدّي المناسب مللًا مزمنًا: لأنّه يُعيد توزيع الانتباه على هدفٍ واضح، ويمنحنا اختبارًا محسوسًا للجدوى. وحين تتعذّر هذه الشروط طويلًا، يشتدّ الإغراءُ بأي إطارٍ جاهز يَعِدُ باليقين والامتلاء السريع.

لذا يقول شوبنهاور “نعتبر محظوظين للغاية إذا كان لا يزال هناك شيء نتمناه ونسعى وراءه لكي نستمر في اللعبة بأن نحول الرغبة إلى إشباع، ويتحول الإشباع إلى رغبة جديدة، فإذا كانت وتيرة هذا التحول سريعة، نسمي هذا السعادة، وإذا كانت بطيئة، فهو الحزن، وحين يصيبها الجمود يكون الملل المروع المتمثل في الحنين للحياة دون شيء محدد نعلمه”.

هذا الشعور الذي لازمنا بصور مختلفة سجل تاريخا طويلا اجتماعيا وفلسفيا وأدبيا وفنيا، وهو تاريخ معقد ومثير؛ كيف كانت حياتنا ستكون لو رضي أسلافنا بالبقاء دون أن يُشغلوا أذهانهم؟ ماذا لو كانوا قد قنعوا بالبقاء حول نار المخيم مفتقدين الإحساس بالدافعية للاستكشاف، والإبداع، والفهم، لتكون حياتهم قصيرة وغير مثمرة؟ لكن الملل مثل الألم، إشارة مهمة تخبرنا بأننا بحاجة إلى القيام بفعل لكي نحقق إمكاناتنا بصورة كاملة، ومن هنا بدأ الإنسان في بناء الحضارة.

إعلان

لكنّ الإشارة ذاتها قد تُدفَع إلى أقصى حدودها فتتعاظم الرغبة في “الفعل الكبير” على طريقةٍ تُقصي التأمّل الأخلاقي: هنا يصير الملل وقودًا لأنواعٍ من الشرّ، كما قال الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد. ففي رأيه أننا لو ابتعدنا عن مبدأ اللذة، وتناسينا شبح الملل، فسنتجه إلى أكثر طرق الحياة أخلاقية، وسيتوقف الملل عن التسبب في اضطراباتنا.

يقول برتراند راسل في كتاب غزو السعادة إن الحروب والمجازر وكل الاضطهادات كانت ملاذا ضد السأم، وإن البشر فضلوا النزاعات مع الجيران على الرتابة اليومية، ويؤكد أننا نسأم أقل مما كان يسأم أجدادنا لكننا نخشى السأم أكثر، ولا نعتبره جزءا من قدر الإنسان الطبيعي، بل نرى أن بوسعنا تجنبه ببحث نشيط عن الأحاسيس، يرى راسل أيضا أن السأم مشكلة حيوية بالنسبة للعالم الأخلاقي، لأن الخوف منه كان السبب في نصف خطايا البشر.

الملل العميق هو ما يحتاج إلى حدث جذري يعيد معنى الحياة، ليمكن التخلص منه، قد يكون صدمة أو حربا ” تنعش الروح”، كما يشير يورغ كوسترمانز في كتاب قارئ دراسات الملل “Boredom Studies Reader”، وربما يفسر الأمر تحليله لإحدى روايات الكاتب البلجيكي إلفيس بيترز، وهي تحكي عن مجموعة من المراهقين يدفعهم الملل وحده إلى التسلية عبر التمشية على جسر من غير المعتاد أن يسير عليه المشاة، يحدثون شغبا ويفاجئون السائقين بوجودهم وبأفعالهم، إنهم بعيدون لكن تأثير وجودهم يربك السائقين، وتصطدم إحدى السيارات بالجسر، فيهرع الناس للإنقاذ بينما المراهقون يلتقطون الصور وينسحبون في هدوء.

هذا ما اعتادته المجموعة، وبمرور الوقت يصبح الملل أعمق، وللتغلب عليه يصبح عنفهم أكثر تعقيدا، يكتشفون اهتمامات مختلفة وينفصل بعضهم عن المجموعة وينضم آخرون، في الأحداث يكتشف القارئ أن أحد “الأطفال” في المجموعة هو من يبتكر هذه الأفكار ويقود أصدقاءه وأنه وحده من لديه بالفعل ميول نحو العنف، أما الآخرون فيشاركون لدفع الملل، لكن كوسترمانز يلتقط فكرة مهمة؛ هؤلاء المراهقون لا يرتكبون العنف، ولا يشعرون حتى بأنهم يتورطون فيه، إنهم فقط يتسببون فيه ويراقبونه، إنه عنف بالوكالة، وهو كافٍ لإشباع رغبتهم في كسر الملل.

فهل يمكن القول -على نطاق أوسع- إن شرارة حرب ما عبر التاريخ انطلقت لأن أحدهم كان مهتما – بدافع الملل فقط- بأن يُحدث عنفا ليراقبه ويكسر هذا الملل؟

Germany. Berlin. نيسان 1945 Soviet Il-2 attack aircraft during World War II. The exact date of the shooting has not been established. Highest possible quality. Mark Redkin/TASS وكالة الأنباء الروسية "تاس"
طائرة هجومية سوفياتية من طراز Il-2 خلال الحرب العالمية الثانية في نيسان/نيسان 1945 (وكالات)

الحرب العالمية الأولى

تشير دراسةٌ أكاديمية (جامعة كامبريدج، 2010) إلى أن الملل كان دافعًا لبعض الحروب في التاريخ القديم بالفعل؛ فالملك بيروس الإيبيري -بحسب المؤرخ اليوناني بلوتارخ- خاض معارك “كي لا يملّ”.

لكن العصر الحديث أكثر إظهارًا لتأثير الملل؛ إذ لم يعد شعورًا خاصًّا بالنبلاء بل أصبح مللًا شيوعيًّا، أو ربما “ديمقراطيًّا” بتعبير الكاتب مايكل هوارد، يتوزع على الناس ويصيب فئات المجتمع كافة، من قرار إعلان الحرب إلى شابٍّ سئم العمل البسيط فالتحقَ بالجيش جنديًّا، إلى جنودٍ طال انتظارُهم في الخنادق فازدادوا قسوة.

يبدو الملل في غمرة الأسباب الاقتصادية والسياسية بعيدا عن تصور السياسيين والأكاديميين، لكنه عامل اجتماعي وثقافي حاضر بين الناس العاديين، في مجتمع يخلو من السرديات الدينية أو الثقافية الكبرى، تحمل الحروب جاذبية خاصة، تصبح ترياقا ضد الملل اليومي، يستعيدون من خلاله الشعور بالقدرة على الفعل.

وهو مزاج وإن كان لا يمكن قياسه بدقة لكن يمكن رصده في الفن والشعر والفلسفة والأدب، تظل الأمزجة غامضة لكن هذا لا يعني كونها أقل واقعية أو أهمية.

تصور البعض -وفق الدراسة- أن التقدم الاقتصادي والسياسي في العصر الحديث إلى جانب السيطرة التقنية على الطبيعة وظهور طبقة من الأثرياء والمهندسين المبدعين ونقابات العمال ونشطاء حقوق المرأة وظهور حركة التنوير وارتفاع الأجور  وانشغال الناس بمجموعة كبيرة من الأنشطة التي تعني لهم السعادة، كلها عوامل ستجعل البشر أقدر على التوصل لتسويات سلام، وبالفعل عقد عدد من مؤتمرات السلام والاتفاقيات الدولية في جنيف ولاهاي، وبدا من غير المنطقي أن أمة ستسعى للاستيلاء على ثروات أمة أخرى في العصر الحديث وبالتالي، لن تنشب الحروب.

إعلان

لكنّ التحضّر جلبَ معه اغترابًا ومللًا، وأيقن الناس العاديون أنهم خارج صناعة القرار، فاستفحل وباء الملل. وداخل هذا المزاج، استقبل شباب أوروبا إعلان الحرب العالمية الأولى في تموز/تموز 1914 بحماسٍ عارم: كتب السياسي الألماني يوهان بيكر أن “نداءَ حربٍ عالمية عظيمة يعني أن الناس لن يظلّوا يتعفّنون على مكاتبهم”، ورأى مواطنه الرسام فرانتس مارك أنّها “حربٌ ضدّ عدوّ الروح الأوروبية الداخلي الخفيّ”.

هكذا انضم المجندون من الشباب الأوروبي ليكونوا جزءا من “حدث تاريخي عظيم”، وكانت الحرب في رأيهم نهاية لملل طويل، كانوا يأملون الشعور بالقوة والقدرة على الفعل، أو على الأقل “موتا مجيدا”.

الكاتب: الملل يعتبر “المزاج الأساسي للحداثة”(رويترز)

فصول تالية من الملل

المفارقة أن الشعور الذي ساق كثيرين إلى الحرب كان في انتظارهم هناك: فصولٌ طويلة من الملل تتخلّلها لحظات رعب. في الخنادق قلّت القرارات الشخصية، ولم يُستعد شعور الفاعلية. شهورٌ من الانتظار، وتسعة ملايين قتيل، والباقون يجرّبون عبثيةً مُنهِكة.

مع ذلك، فحينما شارك العائدون من الجبهة -بعد نحو عقد من الزمان- تجاربهم عن الحرب، بدا من كتاباتهم أن أكثر ما علق في الذاكرة هو شعورهم بالرفقة، روايات مثل “هدوء على الجبهة الغربية” لإريش ماريا ريمارك  التي قدمت عام 1928، و”وداعا لكل ذلك” لروبرت غريفز التي صدرت عام 1929، نقلت تلك الصداقة العميقة بين الجنود، والشعور بالتضحية وكثير من الفضائل الأخرى، فأعادت تلك الكتابات للحرب رومانسيتها وتجاهلت فظائعها لتعود الصورة بأنها قد تكون حلا حينما تكون الحياة مملة وبلا هدف.

فحين تغيب عن المجتمع قصّةٌ جامعة ذات مضمونٍ أخلاقيٍّ ملموس، تتضخّم السرديّات التي تقدّم وعدًا بالمجد والاصطفاف والبطولة. هنا لا يكون العنفُ مجرّد حلٍّ سياسيّ، بل وسيلةً لإعادة تشكيل الذات والجماعة بأسرع طريقة. ما يضعف سحر هذه الرومانسية هو وجود بدائل واقعية تمنح الإحساس نفسه بالكثافة والجدوى: مشروعٌ عامّ، معرفةٌ نافعة، تضامنٌ يُرى أثرُه، ومساحاتٌ تُتيح للشباب أدوارًا حقيقية لا صوريّة.

وعلى ما يبدو فقد كان البشر في تلك السنوات على موعد مع الرتابة، والملل، فبعد الحرب العالمية الأولى، شهد العمل تحولا ملحوظا من العمل الخطر الذي يتطلب مجهودا بدنيا إلى العمل الخفيف والمكرر في المصانع.

بعد الحرب الأولى تحوّل العملُ من شغلٍ خطرٍ مجهد إلى أعمالٍ خفيفةٍ مكرّرة في المصانع: مهماتٌ بسيطة لسنواتٍ طويلة؛ رتابةٌ ممتدّة. ويمكن قولُ الشيء نفسه عن حروب لاحقةٍ وبعثات حفظ السلام وحتى “الحرب على الإرهاب”: زمنٌ طويل من الانتظار بين ومضات العنف.

وبالعودة لدراسة كوسترمانز نجده يقول إن كثيرًا من الجنود لم يرَ الحربَ مغامرةً ضد الملل أصلًا؛ فقد تطوعوا أو دخلوها بدافع الواجب. أمّا من قصدها لكسر الرتابة فاستمدّ متعته لا من العنف ذاته بل من اختبار الخوف أو اكتساب مهارةٍ جديدة تمنح معنى للكفاءة، كما في شهادة قنّاصٍ بريطانيٍّ قال إنه كان يستمد متعته من دقّة التصويب أكثر مما كان يفعل من إزهاق الأرواح.

الفضاء الرقمي.. حيث الحرب لا تكفي لدفع الملل

في بحث نشرته مجلة سبكترا (SPECTRA) في كانون الأول/كانون الأول الماضي تشير الباحثة إلى أن الملل يعتبر “المزاج الأساسي للحداثة”، إنه “تجربة بلا صفات”، وعنصر خفي في الحياة اليومية والوجود الاجتماعي، ولهذا فهو يظهر فجأة، ويعد ظاهرة اجتماعية لها آثار عميقة، ويبقى متجذرا في التاريخ وإن كان عصيا على الاعتراف التاريخي، لكنه يتخذ اليوم شكلا مختلفا، إذ توفر التكنولوجيا الحديثة الكثير من الوقت.

تُوفّر التكنولوجيا وقتًا فائضًا بالفعل لكنها تَعدُنا في الوقت نفسه بتسليةٍ لا تنقطع. نهرب إلى الشاشات؛ نسترخي ونقلب الإشعارات على هواتفنا. نبدو مرتاحين ومستلّين ونحن في الحقيقة بعيدون عن ذواتنا، ويخايلنا عبثُ الفعل ذاته؛ فلا أمان من الملل.

دخلت الحروب في مشاهداتنا أيضا، وهنا تتبع الباحثة تأثير المشاهدة المستمرة للحروب، الذي بدأ بتفجير أولى القنابل الذرية في هيروشيما وناغازاكي، تجسد حينها مفهوم الإبادة المطلقة في صور ملموسة يمكن أن يراها الجميع، لكنها جعلت المأساة المستمرة لـ”الآخر” غير المحظوظ (سواء كان مسماه غير الأوروبي أو المستعمَر أو المهمَّش) أمرا مقبولا باعتباره أمرا واقعا، و”مملا على نحو مرهق” كما يشير البحث.

إعلان

في الحروب التالية أحاطنا فيض من البيانات والصور للأحداث، وحولت الصورة الفورية للحروب معاناة الشعوب إلى مادة بصرية قابلة للتداول وإثارة عواطفنا، ومن خلالها صارت الحروب تصنف؛ بعضها أكثر “فائدة” أو “أهمية” من الأخرى، ونتج عن هذا الفيض الذي يحاصرنا في كل الوسائط؛ في السينما والتليفزيون ومواقع التواصل، تبلد المشاعر اتجاه صور الموت والدمار.

مع تحولنا إلى مستهلكين سلبيين أكثر من كوننا فاعلين نشطين، تتراكم لدينا حالة من انعدام المعنى تزج بنا ناحية الملل مرة أخرى.

أسهم دور الإعلام وإنجازه في تمثيل الحرب وإعادة تجسيد وحشيتها، وفي دمجها بشكل ما داخل الخوارزميات، لتصبح جزءا من نسيج الحياة اليومية في القرن الحادي والعشرين، هكذا في خضم الترفيه والصور والتسلية، تدمج صور الحروب لتتجاور مع صور القطط والمشاهير، وصارت المعلومات والبيانات الخاصة بها مصدرا للشعور بالملل كأي محتوى آخر.

هكذا يتكاثر اللامعنى لنندمج في جماعةٍ لا مبالية، فتغدو الأحداث المهمّة مشاهد عادية تفقد أهميتها، وتخبو أصداء الصور المؤلمة في فضاءٍ رقميٍّ واسع. في النهاية، نحن شهودٌ على العادي اليوميّ والمأساوي الاستثنائي معًا، على وجبات الطعام التي ينشر صورها أصدقاؤنا والمشاهير، وعلى الأزياء والأفكار، وعلى الأشلاء الممزقة للأطفال الذين يحملون أسماءنا وأسماء أبنائنا، وعلى كل المجازر والحروب. الشهادةُ فعلٌ جوهريٌّ في صناعة التاريخ، لكننا محاصرون بثقافةِ ذنبٍ ومللٍ متلازمَين. الملل ليس خيارًا، لكن وعيَه واتّخاذ قرارٍ عمليٍّ إزاءه قد يساعداننا على مقاومة ما يستعمر كياننا بلا هوادة.

الفيض الرقمي إذن يقدّم لنا تسليةً لا تنتهي، لكنه لا يقدّم بالضرورة هدفًا من هذه المشاهدة. ومع تكرار المشاهدة تتسطّح المآسي على الشاشة وتفقد قدرتها على استدعاء الفعل. لذلك لعل العلاج لا يكمن في الانغلاق التامّ عن المحتوى ولا في الغرق فيه، بل في تأديب الانتباه. نضع لأنفسنا جرعات محددة من التعرض للمشاهد اليومية أو المأساوية، تليها مشاركةٌ عملية أو حركة تغييرية تعيد لأنفسنا رونقها وتعطي للخبر وزنه.

وإذا كان المللُ ينزلقُ بنا أحيانًا إلى الفعل الخاطئ، فالعلاج أن نهيّئ شروط الفعل الصحيح، ربما علينا أن نجد التوازن بين مهاراتنا وتطويرها، وتحدي أنفسنا باستمرار وبشكل معقول. ربما علينا أن نجد لأنفسنا أدوارًا ذات أثر في مجتمعاتنا ودوائرنا، وعلى المؤسسات والحكومات أن تفتح الطريق للشباب كي يختبروا المعنى والقيمة، والالتزام برسالة تعصمهم من الملل ولا تستغل عطشهم للفعل الكبير لدفعهم في مسارات مدمرة. بهذا المعنى، لا يكون الملل قدرًا، بل إشارةَ إنذارٍ مبكّرة إلى حاجةٍ للمعنى. ويكون السؤال لا كيف نقتل الملل؟ بل أيُّ معنًى جديرٌ بأن يملأ هذا الفراغ؟

نزع سلاح حزب الله.. الهاوية تحدق في وجه لبنان

نزع سلاح حزب الله.. الهاوية تحدق في وجه لبنان

أعاد قرار الحكومة اللبنانية بتكليف الجيش إعداد خطة لحصر السلاح بيد الدولة فتح أحد أعقد الملفات التي تراكمت منذ انتهاء الحرب الأهلية، وهو سلاح حزب الله. فهذا السلاح، الذي وُلد في رحم الاحتلال الإسرائيلي للجنوب في ثمانينيات القرن الماضي، وتحوّل لاحقا إلى قوة إقليمية تتجاوز حدود لبنان، يجد نفسه اليوم أمام امتحان غير مسبوق. فالقرار الحكومي جاء في سياق ضغوط أميركية متصاعدة، وحسابات إسرائيلية ترى اللحظة مناسبة للتخلص من خطر الحزب، ومواقف إيرانية تعتبر أن أي نقاش حول نزع السلاح هو استهداف مباشر لمعادلة الردع التي بنَتها طهران على مدى عقود.

وفي الداخل اللبناني، ينقسم المشهد بين رئاسة وحكومة تتذرعان بتعزيز صورة الدولة وسيادتها، وقوى سياسية ترى في القرار فرصة لإعادة التوازن، في مقابل حزب يعتبر السلاح ضمانة وجودية لا يمكن التنازل عنها. وبين هذه الأطراف، يقف لبنان على مفترق طرق خطير: إما أن يمضي في مسار نزع سلاح حزب الله بما يحمله من مخاطر احتراب أهلي، وإما أن يُبقي عليه رغم ما يجرّه من عزلة وضغوط خارجية.

الضغط الأميركي: بين العصا والجزرة

يبرز الموقف الأميركي بوصفه محرّكا أساسيا لملف نزع سلاح حزب الله، إذ ترى واشنطن أن اللحظة الراهنة، بعد تصفية أغلب قيادة الحزب وقصف المنشآت النووية الإيرانية، تُمثِّل نافذة ذهبية ينبغي استغلالها لإعادة صياغة المشهد في لبنان، وتهميش حزب الله. وفي هذا السياق برز اسم توم باراك، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا ولبنان، الذي برز منذ صيف 2025 بصفته مهندس الخطة الأميركية الجديدة تجاه لبنان بعد أن تولى الإشراف على الملف بدلا من مورغان أورتاغوس، نائبة المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط.

حمل توم باراك إلى بيروت ثلاث وثائق ومذكرات شكّلت أساس إستراتيجية واشنطن الجديدة تجاه لبنان، وتمحورت حول نزع سلاح حزب الله وفق جدول زمني واضح ومُلزِم، وتفكيك مؤسسة “القرض الحسن” الذراع المالية للحزب، والبدء الفوري بنزع سلاح المخيمات الفلسطينية، تحت لافتة حصر السلاح بيد الدولة.

إعلان

عُرفت الوثيقة الأهم التي قدمها باراك في حزيران/حزيران 2025 للحكومة اللبنانية باسم “الورقة الأميركية لضمان ديمومة وقف الأعمال العدائية”، التي ناقشها اجتماع لمجلس الوزراء اللبناني في 5 آب/آب، ثم أقرّها المجلس في جلسة أخرى بعد يومين. واستندت هذه الوثيقة إلى اتفاق الطائف وقرارَيْ مجلس الأمن 1559 و1701 اللذين أكَّدا حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية.

تضمنت الوثيقة خطة من مراحل متدرجة تنتهي بنهاية كانون الأول/كانون الأول 2025 لنزع سلاح حزب الله بشكل كامل، وتلزم الحكومة اللبنانية بصياغة جدول زمني لنزع سلاح الحزب، بحيث يبدأ خلال فترة تتراوح من 15 إلى 60 يوما بمصادرة الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة وصواريخ أرض جو، ثم يتدرج نحو السلاح المتوسط بما يشمل مدافع الهاون والقنابل اليدوية والمتفجرات. وفي المقابل، نصت الوثيقة على بعض الخطوات التي يُفترض أن تلتزم بها إسرائيل، مثل أن يبدأ جيش الاحتلال في اليوم 45 بالانسحاب التدريجي من النقاط الخمسة التي يحتلها في جنوب لبنان، ووقف الغارات الجوية.

ربط باراك هذه المطالب بسلسلة من الضغوط، فقد لوّح علنًا بأن أي تباطؤ حكومي لبناني في التنفيذ سيؤدي إلى تعليق الدعم الدولي، وحرمان لبنان من مساعدات إعادة الإعمار، وأشار إلى فتح المجال لإسرائيل كي تتصرف بحرية كاملة في الساحة اللبنانية، وأكد أن المفاوضات الأميركية – الإسرائيلية بشأن ترتيبات وقف إطلاق النار ستتوقف تماما ما لم تُظهر بيروت تقدما ملموسا. وبذلك، تحوّلت وثائق باراك إلى ما يشبه الإنذار النهائي، إما السير في طريق نزع سلاح حزب الله، وإما مواجهة عزلة دولية وضغوط إسرائيلية متصاعدة. وقد فهمت بيروت الرسالة بوضوح، وهي ضرورة ترجمة القرارات الحكومية إلى خطوات عملية.

توماس باراك - Thomas Joseph Barrack)
حمل توم باراك إلى بيروت ثلاث وثائق ومذكرات شكّلت أساس إستراتيجية واشنطن الجديدة تجاه لبنان (غيتي)

التحفز الإسرائيلي

من زاوية تل أبيب، يُمثِّل الوضع الراهن لحظة مثالية للتخلص من حزب الله. فالحزب تعرض لضربات قاسية، من أبرزها تصفية أغلب قياداته، وتدمير بنيته التحتية، وفقدانه خط إمداده مع سقوط نظام الأسد في سوريا. وقد اعتبرت إسرائيل أن عدم تدخل الحزب خلال حرب “الأيام الـ12” مع إيران دليل على تآكل قدرات الحزب.

وانطلاقا من ذلك، طرحت إسرائيل شروطا قصوى لنزع السلاح، فرضت مبدأ “خطوة مقابل خطوة”، وشددت على تفكيك ترسانة الحزب بالكامل قبل أي انسحاب لجيشها من الأراضي اللبنانية المحتلة أو وقف للغارات الجوية، كما تتحفظ على عودة سكان قرى الحد الأمامي في الجنوب اللبناني إلى أراضيهم، وطلبت إخلاء عدد من القرى اللبنانية على الحدود لتصبح منطقة عازلة بين البلدين.

إن هذه المقاربة الإسرائيلية تحمل مخاطر متنوعة، فالإصرار على شروط قصوى سيدفع حزب الله إلى التصلب، وربما التصعيد إذا شعر أن وجوده مهدد بالكامل. كما أن تجاهل هشاشة التوازن اللبناني الداخلي قد يؤدي إلى فوضى ستعود بالضرر على إسرائيل نفسها.

جبهة مواجهات الحدود سوريا وحزب الله منصة اكس - @janoubia_news
حزب الله يعتبر السلاح ضمانة وجودية لا يمكن التنازل عنها (مواقع التواصل الإجتماعي)

الحكومة اللبنانية ومفترق الطرق

تقف الحكومة اللبنانية، بتركيبتها التكنوقراطية برئاسة نواف سلام، وقيادة الرئيس جوزيف عون، أمام منعطف جوهري: إما الامتثال للمطالب الأميركية والإقليمية شرطا لوقف اعتداءات إسرائيل والحصول على دعم من صندوق النقد والبنك الدولي ومن أطراف عربية، أو المخاطرة بالبقاء في عزلة مالية ودبلوماسية قد تعجّل بانهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة. وبجوار تلك الثنائية تبرز حسابات سياسية داخلية لا تقل أهمية، فالنخبة السياسية التي تتصدر المشهد الحكومي أرادت أن ترسل رسالة إلى الشارع اللبناني الغاضب من تردي الأوضاع بأنها تسعى لفرض هيبة الدولة، ورسالة ثانية إلى القوى المسيحية والسنية المناهضة لحزب الله بأنها غير خاضعة لفيتو الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل.

إعلان

ولذلك حرص نواف سلام على استخدام خطاب سيادي مرتفع السقف خلال لقائه مع علي لاريجاني، أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني، سعيا لتأكيد أن القرار اللبناني بات خارج دائرة الوصاية الإيرانية. لكن الحكومة تدرك في الوقت ذاته أن أي محاولة لفرض نزع سلاح الحزب بالقوة قد يقود إلى حرب أهلية. ومن هنا جاء تكليفها للجيش بصياغة خطة نزع السلاح، بما يفتح الباب للتفاوض مع الحزب وحركة أمل على الجدول الزمني والآليات.

حزب الله: رفض القرار والتهديد بالحرب الأهلية

منذ اللحظة الأولى لصدور قرار مجلس الوزراء بحصر السلاح بيد الدولة، سارع حزب الله إلى إعلان رفضه القاطع له، واعتبر أن القرار “غير ميثاقي” لأنه اتُّخذ دون توافق وطني، فيما انسحب وزراء حزب الله وحركة أمل من الجلسة الحكومية التي ناقشت نزع السلاح. وبهذا المعنى، رفض الحزب الاعتراف بشرعية القرار من أساسه، وصرح في بيان رسمي بأنه سيتعامل معه كأنه غير موجود. وساق على لسان أمينه العام نعيم قاسم عدة دوافع لرفض القرار، وهي تدور حول أربعة محاور رئيسية:

المحور الوطني الأمني: أصر الحزب على أن سلاحه هو الذي دفع إسرائيل للانسحاب من جنوب لبنان في عام 2000، ومنع جيش الاحتلال في عام 2024 من احتلال الجنوب بالكامل فضلا عن الوصول إلى بيروت. وشدد على أن إسرائيل لم تنسحب بعد وقف إطلاق النار الأخير بالكامل من الأراضي اللبنانية، فما زالت تحتل خمس تلال حاكمة بالجنوب، فيما غاراتها الجوية مستمرة، وبالتالي فإن الحديث عن تسليم السلاح في ظل هذا الواقع يُعدّ استسلاما مجانيا لإسرائيل.

المحور الطائفي الهوياتي: يعكس خطاب قادة الحزب -من نعيم قاسم إلى نواب كتلة “الوفاء”- قناعة متجذرة بأن السلاح يُمثِّل ضمانة وجودية للطائفة الشيعية. وفي هذا السياق، تتكرّر في أحاديثهم عبارة “التسليم يعني الانتحار” أو “تسليم الشرف”، لتقديم السلاح بوصفه حدّا فاصلا بين حياة الطائفة وموتها. مع استدلالهم بما حدث للعلويين في منطقة الساحل بسوريا، وللدروز في السويداء. ومن خلال هذا الخطاب، يحاول الحزب تحويل النقاش من كونه ملفا سياسيا عسكريا إلى كونه مسألة وجود وبقاء للطائفة الشيعية.

المحور الإقليمي الإستراتيجي: يشدد الحزب على أن الأوضاع في سوريا غير مستقرة، وأن المنطقة قد تدخل في فوضى لا تُبقي ولا تذر، كما يتخوف من إشارات المبعوث توم باراك بإلحاق لبنان بسوريا الجديدة. كذلك يدرك الحزب أن أي تفكيك لترسانته سيُضعف إيران في معادلة الردع الإقليمي، ويعتبر أن الضغط يندرج ضمن توجه عام بنزع سلاح الجماعات والمكونات المحسوبة على طهران، فالحشد الشعبي يتعرض لضغوط لإعادة هيكلته ودمجه داخل بنية القوات المسلحة العراقية، فيما تعمل إسرائيل على قضم مساحات واسعة من الجنوب السوري، وفرض معادلة إخلاء المنطقة الممتدة من جنوب دمشق إلى الجولان من أي سلاح ثقيل.

محور التشكيك في الضمانات الأميركية: يعتبر حزب الله أن أي تعويل على واشنطن هو وهم، لذا يقول نعيم قاسم: “مَن يراهن على الضمانات الأميركية واهم، فهذه الضمانات لا تُعطي أمانا للبنان ولا تحميه من العدوان، بل تُقدَّم فقط لحماية إسرائيل ومصالحها. نحن لا نثق بوعود أميركا، ولا نقبل أن نرهن مستقبل لبنان بضمانات أثبتت الوقائع أنها مجرّد حبر على ورق”. وأشار قاسم إلى اقتصار تعهد باراك في مواجهة أي خروقات إسرائيلية بالحصول على إدانة من مجلس الأمن. وبهذا التشكيك يسعى الحزب إلى تعزيز شرعية رفضه للقرار الحكومي وتبرير تمسّكه بالسلاح باعتباره الضمانة الوحيدة لأمن لبنان، وخارجيا، توجيه رسالة بأن الضغوط الأميركية تستدرج لبنان لتسليم أوراق قوته بما يمهد لإضعافه في مواجهة الطموحات التوسعية الإسرائيلية.

وفي مواجهة تلك الضغوط، أطلق الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم سلسلة من التصريحات التي شدد فيها على “أن كل مَن يطالب بتسليم السلاح، داخليا أو ‏خارجيا أو عربيا أو دوليا، يخدم المشروع الإسرائيلي، مهما كان اسمه، ومهما كانت صفته… الحكومة اللبنانية تنفذ الأمر الأميركي الإسرائيلي بإنهاء المقاومة، ولو أدى ذلك إلى حرب أهلية وفتنة داخلية، وتتحمل مسؤولية أي انفجار داخلي، وأي خراب للبنان”. وبهذا الخطاب، رفع قاسم السقف إلى حدّ إشهار شبح الحرب الأهلية بوصفها أداة ردع في وجه الحكومة والضغوط الأميركية.

إيرج مسجدي Iranian ambassador in Iraq Iraj Masjedi gives a press conference outside the new building of the Iranian consulate in the southern city Iraqi city of Basra on أيلول 11, 2018 after the old building was set ablaze by protestors a few days earlier. Anger in Basra flared after the hospitalisation of 30,000 people who had drunk polluted water, in an oil-rich region where residents have for weeks complained of water and electricity shortages, corruption among officials and unemployment. Demonstrators have set fire to government buildings, the Iranian consulate and the offices of pro-Tehran militias and political parties. / AFP / Haidar MOHAMMED ALI
أعلن إيرج مسجدي، مسؤول التنسيق بفيلق القدس بالحرس الثوري، أن خطة نزع سلاح حزب الله هي خطة أميركية صهيونية (الفرنسية)

الموقف الإيراني الداعم

رفضت إيران بشكل قاطع نزع سلاح حزب الله، فأعلن إيرج مسجدي، مسؤول التنسيق بفيلق القدس بالحرس الثوري، أن خطة نزع سلاح حزب الله هي خطة أميركية صهيونية، فيما وصف أكبر ولايتي، مستشار المرشد للشؤون الدولية، سلاح الحزب بأنه “رأس مال للبنان”. وشكَّلت زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى بيروت في آب/آب 2025 تتويجا لهذا الموقف. فخلال اجتماعاته مع الرئيس عون ورئيس الوزراء سلام، حاول لاريجاني تثبيت موقف يعتبر أن المقاومة خيار إستراتيجي للبنان، فيما أبلغ الرئيس عون ورئيس الحكومة ضيفهما بأن “قرار نزع السلاح شأن لبناني سيادي”.

إعلان

وفي العمق، تنظر طهران إلى سلاح الحزب من زاوية تتجاوز لبنان، حيث تعتبره ركيزة في معادلة الردع الإقليمي، إذ يظل الحزب قادرا على فتح جبهة الشمال ضد إسرائيل إذا اندلعت مواجهة كبرى. ومن هنا، تُقرأ في طهران أي محاولة لتفكيك ترسانة الحزب بوصفها جزءا من مشروع يستهدف حصارها، ومن ثم تشدد على مواصلة دعمها للحزب وتتعهد بمساعدته على ترميم ما لحق به من خسائر.

خيارات حزب الله

منذ بدء تطبيق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/تشرين الثاني 2024، تجاوب حزب الله مع نزع سلاحه في جنوب نهر الليطاني سعيا لامتصاص الضغط الدولي والحصول على استراحة للتعافي وإعادة ترتيب أوراقه، فيما كرر مقولته التي تربط مسألة السلاح بالحوار الوطني حول “الإستراتيجية الدفاعية للبنان”.

يدرك الحزب أن الدخول في مواجهة مباشرة مع الدولة اللبنانية، في ظل التوازنات الحالية، قد يؤدي إلى حرب أهلية مفتوحة تضره وتضر لبنان. ولذلك يُفضِّل إبقاء الباب مفتوحا للحوار، مع التلويح بالتصعيد دون الذهاب إليه، على أمل تغير المعطيات الإقليمية من قبيل اتضاح أبعاد ونتائج ملف المفاوضات الإيرانية الأوروبية والأميركية، وتبلور توجهات الإدارة الجديدة في سوريا.

ولكن مع صدور قرار الحكومة بنزع سلاحه، لجأ الحزب إلى التحرك الميداني المحسوب، فحرّك أنصاره في مسيرات ليلية بالدراجات النارية في الضاحية الجنوبية وبعض أحياء بيروت، في استعراض للقوة الشعبية، دون أن يذهب إلى حدّ التصعيد الواسع الذي يجرّ البلاد إلى صدام مباشر مع الجيش.

وسعى الحزب عبر هذه التحركات لتوجيه رسالة بأنه لا يزال قادرا على تحريك الشارع عند الحاجة، وأن أي محاولة جدية للمُضي في تنفيذ القرار الحكومي ستُواجَه بتوترات يصعب احتواؤها، فيما هدد أمينه العام بتوجيه المظاهرات مستقبلا نحو السفارة الأميركية. وقد ربط الحزب الحوار حول نزع سلاحه بانسحاب إسرائيل أولا من الجنوب ووقف اعتداءاتها على لبنان، وهو ما ترفضه واشنطن التي تشدد على نزع سلاح الحزب أولا قبل انسحاب إسرائيل.

المستقبل الغامض

في نهاية المطاف، تكشف أزمة نزع سلاح حزب الله عن مأزق لبناني يتجاوز ثنائية الدولة والمقاومة. فبينما يرى كثيرون في قرار حصر السلاح بيد الدولة خطوة نحو استعادة السيادة وبناء مؤسسات قادرة، يراه آخرون قفزا نحو المجهول قد يفتح الباب أمام صدام داخلي ويكشف لبنان أمام أخطار إقليمية وجودية.

فالحكومة اللبنانية تتحرك في ظل ضغوط اقتصادية خانقة، واشتراطات دولية صارمة، وتحاول إعادة ترميم صورة الدولة المنهكة، لكنها تدرك أن التنفيذ الكامل لأي خطة نزع للسلاح أمامه عقبات وتحديات داخل المجتمع نفسه، وربما في الجيش. أما حزب الله، فيتحرك تحت وطأة حسابات حساسة، فلديه بقايا ترسانة عسكرية بنى عليها معادلة الردع مع إسرائيل، وقاعدة مجتمعية تعتبر السلاح ضمانة وجود، وارتباط إستراتيجي بمحور إقليمي يرى في السلاح ورقة نفوذ لا يمكن التفريط بها مجانا.

من هنا، يبدو أن الطرفين، أي الحكومة وحزب الله، يشتركان في إدراك أن الاصطدام المباشر ليس خيارا واقعيا في اللحظة الراهنة. فالحكومة، رغم تشدد خطابها، لا تبدو مستعدة لدفع البلاد إلى مواجهة مفتوحة، والحزب، رغم رفضه القاطع، لا يسعى إلى تفجير الوضع من الداخل.

وهكذا، يجد لبنان نفسه مجددا أمام معضلة لا يمكن حسمها بقرار محلي صرف، ولا بفرض إرادة خارجية. وكما ارتبطت نشأة حزب الله وصعوده بتحولات كبرى في لبنان وإيران وفلسطين وسوريا، فمستقبل سلاحه يظل رهينة للتوازنات الإقليمية والدولية، أكثر من كونه نتاجا للتوازنات الداخلية. وفي ظل غياب تسوية شاملة تعالج جذور الأزمة، قد يبقى ملف حزب الله معلَّقا على حبال انتظار تحولات تُرسم خطوطها العريضة في عواصم الإقليم ومراكز القرار الدولي، لا داخل لبنان فقط.