لمع اسم القائد الفاتح طارق بن زياد في التاريخ الإسلامي باعتباره واحدا من أبرز القادة العسكريين في صدر الإسلام، إذ جمع بين الشجاعة والبراعة التنظيمية، وبرز دوره خصوصا في مطلع القرن الثاني الهجري، حيث تشير روايات ابن عبد الحكم في “فتوح مصر والمغرب” والطبري في تاريخه، إلى أن طارق كان من الموالي الذين التحقوا بالجيوش الإسلامية في المغرب، حيث أظهر كفاءة قتالية جعلته يحظى بثقة الوالي العام على إفريقية وهو موسى بن نصير.
أما عن أصله ونسبه، فقد اختلفت فيه الروايات اختلافا بيّنًا، فبعض المصادر كابن خلدون في “العبر” يشير إلى أنه كان بربريا، وهو الاسم الذي أطلقته المصادر الإسلامية على سكان بلدان المغرب من قبيلة نفزة أو صنهاجة، بينما يذهب المقري في “نفح الطيب” إلى أنّه من الموالي الفرس الذين اندمجوا في المجتمع الإسلامي بالمغرب، وهو الأقرب إلى الصحة فيما يبدو.
اقرأ أيضا
list of 2 items
list 1 of 2كيف واجه العثمانيون وحشية دراكولا مصاص الدماء؟
list 2 of 2لماذا أعجب روي كاساغراندا بالصحابي خالد بن الوليد؟
end of list
ارتبط اسم طارق بعلاقة وثيقة بقائده موسى بن نصير، تلك العلاقة التي جمعت بين الطاعة العسكرية والقدرة القيادية، ويورد المقري في “نفح الطيب” أن موسى اختار طارقا لقيادة جموع البربر الذين دخلوا في الإسلام حديثا، وهو اختيار يعكس تقدير موسى لمكانة طارق وقدرته على التعامل مع المقاتلين المحليين من جهة، ومع أوامر القيادة المركزية في دمشق من جهة أخرى. هذه العلاقة التكاملية بين الرجلين ستصبح لاحقا أساسا في حملة فتح الأندلس.
الطريق إلى الأندلس
وقبيل الانطلاق نحو الضفة الشمالية من المتوسط، كانت الأوضاع الداخلية في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، ولا سيما النزاع المحتدم بين الملك القوطي المعروف باسم لذريق وبين خصومه من النبلاء والملوك المسيحيين المجاورين، قد ساهمت في تهيئة الأرضية لفكرة فتح الأندلس لدى المسلمين.
وتشير المصادر التاريخية عند المقري وابن الكردبوس وابن خلدون إلى أن هؤلاء المنافسين سعوا إلى مراسلة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، يعرضون عليه دعما وتنسيقا ضد لذريق، وهو ما دفع الخليفة إلى تكليف واليه على إفريقية موسى بن نصير بالنظر في إمكانية التوسع غربا وفتح الأندلس، فأسند موسى هذه المهمة الحساسة إلى قائده البارز طارق بن زياد.
إعلان
وكان والي سبتة المعروف باسم يُليان يلعب دورا محفزا في هذا الاتجاه، فقد قدّم وعودا موسّعة لموسى بن نصير بأن الجزيرة غنية بالغنائم والثروات، وأنه على استعداد لمدّ المسلمين بالمعلومات اللازمة مستفيدا من معرفته الدقيقة بجغرافيتها وممراتها، غير أن موسى بخبرته العسكرية آثر التريث والحذر، مُفضِّلا اختبار صدقية هذه الوعود عبر تحرّكات استطلاعية محدودة.
وبناء على ذلك جهّز موسى قوة صغيرة للعبور من أقرب المنافذ البحرية، أي ميناء سبتة، وأسند قيادتها إلى أحد القادة ذوي الكفاءة وهو طريف بن مالك، وقد نفّذت هذه القوة غارات سريعة على الأراضي الأندلسية، كان هدفها جمع المعلومات عن طبيعة الأرض وقوة الدفاعات، وهو ما شكّل المقدمة العملية لعبور الجيش الكبير بقيادة طارق بن زياد لاحقا.
تتعدد الروايات حول كيفية عبور طارق بن زياد بجيشه إلى الضفة الشمالية من مضيق جبل طارق، غير أن أكثرها قبولا لدى الباحثين هي تلك التي تشير إلى دور يليان حاكم سبتة، الذي وجد في التحالف مع طارق فرصة للانتقام من ملك القوط لذريق لخيانته له ولابنته، فقد حملت علاقة الرجلين طابعا إستراتيجيا، إذ عرض يليان دعمه اللوجستي مقابل الوقوف معه ضد الملك الذي كان بينهما ثأر قديم.
وبحسب هذه الروايات، تولّى يُليان مهمة تأمين النقل البحري للجيش الإسلامي، فبدأت سفنه تعبر المضيق في رحلات متتابعة تنقل الجنود دفعة بعد أخرى، حتى اكتمل وصول القوة بقيادة طارق نفسه في آخر الرحلات، ومن اللافت أن هذا النشاط البحري لم يُثر الريبة في بدايته، لكون حركة السفن التجارية مألوفة في المنطقة، وهو ما ساعد على نجاح العملية من دون مقاومة تُذكر.
رواية إحراق السفن عند المؤرخين والباحثين العرب
أما القصة الشهيرة بعد عبور المضيق، وإحراق طارق بن زياد للسفن حتى لا يبقى لهم أمل في العودة والإصرار على الفتح واستكماله، فقد اختلفت بشأنها المصادر، فبينما ذهب عدد منها إلى أن الهدف كان دفع الجنود إلى الاستبسال وعدم التفكير في التراجع لغياب وسيلة للعودة، رأت روايات أخرى أن هذا الفعل -إن وقع- كان يحمل بُعدا رمزيا، أراد به طارق أن يؤكد ولاءه المطلق للعرب والمسلمين، وقطع الطريق على مَن قد يشكك في إخلاصه بسبب أصوله البربرية.
وقد ذُكرت خطبته الشهيرة في عددٍ من المصادر التاريخية مثل المقري في “نفح الطيب”، وابن هذيل الأندلسي في “تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس”، وابن الكردبوس في “الاكتفاء”، والإدريسي في “نزهة المشتاق”، والحميري في كتابه “الروض المعطار”، ومن اللافت أنها جاءت في لغة حماسية جزلة يقول فيها:
“أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم.
وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب عن رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس، أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا”.
إعلان
وقد ذكرها عدد من المؤرخين المعاصرين بالدرس والتحليل منهم محمد عبد الله عنان وعبد العزيز الدوري وحسين مؤنس ومحمود علي مكي وأحمد مختار العبادي وعبد الحليم عويس وغيرهم.
ومن اللافت أن أغلب المؤرخين المحدثين يميلون إلى التشكيك في صحة قصة إحراق طارق بن زياد لسفنه بعد عبور جيشه نحو الأندلس، معتبرين أنها أقرب إلى البناء الأدبي منها إلى الواقعة التاريخية، ومع ذلك لا يخلو التراث التاريخي من أصوات تؤيد إمكانية حدوثها، مستندة إلى أن مثل هذه الأفعال تكررت في وقائع مشابهة داخل التاريخ الإسلامي وغيره، مما يجعلها ممكنة الحدوث ولو في إطار رمزي.
فمن بين الشواهد التي يسوقها المؤيدون ما أورده الطبري في تاريخه عن أرياط الحبشي الذي قاد جيشه لعبور البحر إلى اليمن لاحتلالها، فأحرق سفنه وخطب في جنوده خطبة تحثهم على الثبات، في مشهد يشبه ما يُنسب إلى طارق لاحقا، كما يشير الطبري في تاريخه أيضا إلى القائد الفارسي وهرز مبعوث كسرى إلى اليمن لتحريرها، الذي لجأ بدوره إلى أسلوب مشابه عندما قرر قطع سبيل التراجع أمام جيشه ليضمن صمودهم.
ويستشهد الباحثون كذلك بما رواه أبو بكر المالكي في “رياض النفوس” عن القائد الفقيه أسد بن الفرات (ت 212هـ) فاتح صقلية، الذي فكر في إحراق مراكبه حين ثار عليه بعض جنوده مطالبين بالانسحاب، وقد عُدّ هذا الموقف أقرب النماذج الإسلامية لخطوة طارق بن زياد المفترضة.
أما في السياق الأوروبي، فيقدّم التاريخ مثالا حديثا نسبيا مع القائد الإسباني أرنان كورتيس، فاتح المكسيك سنة 1519م، حيث يروي الدكتور أحمد مختار العبادي في كتابه “في تاريخ المغرب والأندلس” أن كورتيس اكتشف مؤامرة بين قادته للعودة إلى إسبانيا، فقام بتفريغ سفنه من العتاد والجنود ثم ثقبها وأغرقها ليمنع أي محاولة انسحاب، وهو ما يوازي من حيث الفكرة ما نُسب إلى طارق بن زياد.
يؤكد الباحث الإسباني إدواردو مانثانو مورينو أن روايات الفتح الأندلسي في المصادر الأندلسية والمشرقية المتأخرة امتلأت بالتوسعات الأدبية والتقاليد البلاغية (غيتي)
لذلك فإن القائلين بثبوت القصة لا يستندون فقط إلى ابن الكردبوس وابن هذيل ورواية المقري أو ابن عذاري، بل يحاولون تعزيزها بقرائن من أحداث مشابهة في تجارب قادة آخرين عبر العصور، مما يمنح القصة إطارا من المعقولية التاريخية حتى وإن بقيت مثار جدل.
ولكن في مقابل الأصوات التي تميل إلى إثبات حادثة إحراق السفن، يقدّم فريق من المؤرخين والباحثين جملة من الاعتراضات المنهجية التي تُضعف من صدقية القصة وتجعلها أقرب إلى الأدب الرمزي منها إلى الحدث التاريخي.
وأول هذه الاعتراضات يرتبط بالمنطق العسكري، فليس من المتصور أن يُقْدِمَ قائد مثل طارق بن زياد على تدمير وسيلة النجاة الوحيدة لجيشه وهو على أرض مجهولة المصير، يواجه فيها قوة عظمى كالجيش القوطي، فالتصرف في هذه الحالة يعادل الانتحار الجماعي أكثر منه خطة حربية مدروسة.
ثم إن الروايات نفسها تخبرنا أن طارق بعث إلى قائده الأعلى موسى بن نصير طالبا المدد حين واجه جيوش القوط، فمدّه موسى بخمسة آلاف مقاتل إضافي، وهنا يبرز التساؤل: كيف تمكّن موسى من إرسال هذه الأعداد الكبيرة عبر البحر إذا كانت السفن قد أُحرقت بالفعل؟ هذا الطرح يقود بدوره إلى إشكالية أخرى تتعلق بالقدرة اللوجستية، فهل كان بوسع الترسانات البحرية الإسلامية في تلك الحقبة أن تصنع في فترة وجيزة أسطولا جديدا لنقل الآلاف من الجنود؟ الأمر يبدو بعيدا عن المعقولية التاريخية.
ويضيف بعض المشككين بُعدا آخر للنقد، فحتى لو افترضنا أن السفن كانت تعود لحاكم سبتة يليان، فبأي حقّ يُقْدِم طارق على إحراقها؟ أليست ملكية الرجل الخاصة جزءا من اتفاقه مع الجيش الإسلامي؟ بل كيف يتصرّف طارق أصلا في موارد الدولة دون إذن الخليفة الأموي الذي تعود له الكلمة الفصل؟ من هنا يرى هؤلاء أن الخطبة المنسوبة وما فيها من مشهد إحراق السفن إنما تعكس صورة بلاغية لبثّ الحماسة في الجنود أكثر مما تعكس واقعة حقيقية.
إعلان
وفي هذا السياق يشير المؤرخ محمود علي مكي في دراسة له بعنوان “أسطورة إحراق السفن في التاريخ” إلى أن من بين النماذج التي تغذي المخيلة التاريخية في الشرق هذه الأسطورة التي ارتبطت بالقائد الفارسي وهرز حين عبر إلى اليمن لمساندة سيف بن ذي يزن في طرد الأحباش، فقد نُسب إليه أنه أحرق سفنه بعد نزول جيشه إلى البر، وألقى في جنوده خطبة حماسية شحذ بها عزائمهم، وهي صورة خطابية ستجد صداها لاحقا في روايات بعض المؤرخين عن فتح الأندلس.
ويرى مكي أن قصة إحراق وهرز لمراكبه، مقرونةً بخطبة تحثّ على الصمود، تُمثِّل الجذور الأولى لأسطورة إحراق السفن المنسوبة إلى طارق بن زياد، بوصفها رمزا للتضحية والفداء، وهي منذ ذلك الحين صارت مثالا مفضّلا عند رواة أخبار الغزوات البحرية، حيث يواجه جيش صغير خصما يفوقه عددا وعدة.
ومن هذه الأرضية الأسطورية ينتقل مكي للحديث عن وقائع فتح الأندلس نفسها، مميزا بين ما هو متخيّل أدبي وما هو ثابت تاريخيا، فالمصادر المتفقة على تفاصيل العبور ومعركة شذونة (وادي لِكة) تشير بوضوح إلى حقيقة الفارق الشاسع بين جيش المسلمين وجيش القوط، وإلى أن المواجهة انتهت يوم 28 رمضان سنة 92هـ بانتصار حاسم للمسلمين الأقل عددا، دون حاجة إلى إقحام مشهد إحراق السفن في السرد، وهكذا يوضح مكي أن الفتح الأندلسي كان قائما على معطيات عسكرية حقيقية، بينما جرى استدعاء الأسطورة الشرقية لإغناء القصة ومنحها بُعدا بطوليا دراميا.
قصة الإحراق عند الباحثين الإسبان
تذهب الغالبية الساحقة من الباحثين الإسبان اليوم إلى أن قصة إحراق طارق بن زياد للسفن لا تعدو كونها خبرا أدبيا أسطوريا أُضيف لاحقا إلى روايات الفتح، وليست واقعة تاريخية تثبتها المصادر الأولى، وحجتهم الرئيسة في ذلك أن أقدم النصوص مثل “الكرونيكا الموزاربية” لعام 754، وهي أقدم شاهد لاتيني كُتب بعد أحداث الفتح بأربعين سنة، وكذلك المصادر العربية المبكرة عند البلاذري وابن عبد الحكم وغيرهم لم تذكر شيئا عن الإحراق، بل اكتفت بذكر دور يوليان حاكم سبتة في تسهيل العبور.
هذه النتيجة يؤكدها الباحث أليخاندرو غارسيا سانخوان في دراسته “أسباب الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية”، حيث يوضح أن مشاهد الخطبة والمعجزة والإحراق تنتمي إلى طبقة روائية متأخرة لا يمكن اعتبارها دليلا قاطعا على وقوع الحدث.
وبالمنهج نفسه يقدّم إدواردو مانثانو مورينو، الباحث في المجلس الأعلى للبحوث العلمية في مدريد، قراءة نقدية في بحثه “المصادر العربية حول فتح الأندلس: قراءة جديدة”، حيث يؤكد فيه أن روايات الفتح الأندلسي في المصادر الأندلسية والمشرقية المتأخرة امتلأت بالتوسعات الأدبية والتقاليد البلاغية، ومن بينها قصة الإحراق، وهو ما يُوجب على المؤرخ تغليب الروايات الأقدم زمنا وتجنّب رفع هذه الأخبار الدرامية إلى مرتبة الحقيقة التاريخية.
أما الباحثة أومايرا إيرّيرو سوتو، فقد خصّصت دراسة بعنوان “خطبة طارق بن زياد: مثال على الصياغة البلاغية في التأريخ العربي”، لتبيّن فيها أن مشهد حرق السفن ليس سوى “توبوس بلاغي” أو مجرد ثيمة متكررة في أدبيات الغزو عند ثقافات مختلفة، إذ يُستخدم لإيصال فكرة “عدم الرجوع”، بهدف رفع معنويات الجنود أكثر من كونه وصفا واقعيا.
وفي دراسة لاحقة للباحثة نفسها بعنوان “طارق بن زياد: الرؤى المختلفة لقائد بربري في المصادر الوسيطة” تؤكد أن حضور قصة الإحراق في المصادر محدود للغاية، لكنه ترسخ في الذاكرة الأدبية اللاحقة بوصفه رمزا بطوليا.
ويضيف لويس مولينا في مقاله “رواية عن فتح الأندلس” أن كتاب “أخبار مجموعة” الذي جُمِّع في قرطبة بالقرن الحادي عشر هو النص العربي الوحيد الذي يورد بصراحة عبارة الإحراق تلك، ويخلص مولينا إلى أن هذه التفاصيل الدرامية لا يجوز التعامل معها بوصفها خبرا أصيلا؛ لأنها تنتمي إلى طبقة روائية متأخرة اعتمدت على مواد أقدم لكنها أضافت إليها عناصر تخييلية.
وهكذا يتفق أغلب الباحثين والمؤرخين العرب والإسبان المعاصرين على رفض قصة إحراق السفن لأسباب تاريخية وعقلانية، كان على رأسها ضرورة وصول الرسائل والمدد إلى الفاتحين الجدد من القيادة العليا في شمال أفريقيا التي كان يقودها موسى بن نصير وقتئذ، وعدم وجود ترسانة إسلامية قادرة على صنع سفن أخرى بديلة لاستكمال عملية الفتح التي بدأت في رمضان سنة 92هـ.
في صباح الثالث من أيلول/أيلول 2025؛ وفي ساحة تيانانمن، قلب الصين الرمزي، اصطف عشرات الآلاف من الجنود الصينيين في عرض عسكري وُصف بأنه الأكبر في تاريخ البلاد الحديث، أظهرت فيه بكين كل منظوماتها العسكرية القتالية الحديثة موجهة رسالة استثنائية إلى العالم بمناسبة الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية وانتصارها على اليابان.
غير أن الاستعراض لم يكن عسكريًّا فقط، بل حمل طابعًا مسرحيًّا دبلوماسيًّا. فقد حرصت القيادة الصينية على استقطاب حضور أجنبي واسع، أرادت من خلاله تأكيد مكانتها في قيادة الجنوب العالمي، وأنها لم تعد مجرد خصم معزول للغرب. كان الحضور بمثابة تصويت بالثقة في الدور الصيني، أما الغياب فحمل دلالات لا تقل أهمية.
اقرأ أيضا
list of 2 items
list 1 of 2ماذا تعرف عن القاتل الأعمى الإسرائيلي الموجه لإبادة غزة؟
list 2 of 2للأيام الحاسمة مع إسرائيل تركيا تشيد قبتها الفولاذية الصاعقة
end of list
الفلبين، ورغم أهميتها للصين فقد تغيبت، ربما بسبب ارتباطها الإستراتيجي بواشنطن والذي ينبع من اعتبارها رأس حربة الحلفاء الأميركيين وأقربهم للصين. أما سنغافورة فاكتفت بإرسال نائب رئيس الوزراء، في إشارة إلى حياد محسوب أو ميل أوضح نحو الولايات المتحدة. في المقابل، وفّرت مشاركة فيتنام وماليزيا وإندونيسيا وكمبوديا وميانمار غطاءً دبلوماسيًّا لبكين، إذ بدا أن غالبية دول جنوب شرق آسيا تفضل التعاون مع الصين على المواجهة، رغم استمرار النزاعات في بحر جنوب الصين.
المشهد الأكثر رمزية كان جلوس الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى جانب الرئيس الصيني شي جين بينغ. بالنسبة لموسكو، الغارقة في عزلة الحرب الأوكرانية، شكّل الحضور في بكين نافذة شرعية ورسالة بأن روسيا ليست وحدها. أما بالنسبة للصين، فقد كان ذلك تجسيدًا حيًّا للثقة الإستراتيجية بين البلدين، وبيانًا سياسيًّا بأن بكين وموسكو تتجاوزان حدود اللحظة الراهنة نحو تنسيق أوسع. التوقيت أيضًا لم يكن عرضيًّا؛ ففي الوقت الذي ترعى فيه واشنطن حوارًا ثلاثيًّا مع موسكو وكييف، اغتنم شي وبوتين المناسبة لمناقشة ما بعد الحرب، بما في ذلك احتمالات السلام ورسم ملامح نظام عالمي جديد، حتى لو لم يُكشف رسميًّا عن تفاصيل هذه النقاشات.
جانب آخر لا يقل أهمية تمثل في خطاب شي جين بينغ أمام أكثر من 50 ألف متفرج. فقد أراد شي أن يُعدّل سردية تاريخية ظلّت لعقود تحت هيمنة الرواية الغربية التي منحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الحصة الكبرى من الفضل في هزيمة النازية واليابان، وهمّشت دور الصين. ومن خلال كلمته، أكد أن الصين كانت لاعبًا محوريًّا في هزيمة اليابان وشريكًا مؤسسًا للنظام الدولي. اتسم خطابه اتجاه طوكيو بالحذر، محمّلًا اليابان مسؤوليتها التاريخية دون الانزلاق إلى خطاب تصعيدي، داعيًا بدل ذلك إلى بناء “مجتمع آسيا المحيط الهادي بمصير مشترك”. والأهم أنه ربط بين ماضي الصين بوصفها أمة ضحية، وحاضرها بوصفها قوة صاعدة، ومستقبلها بوصفها مهندسا طامحا لإعادة تشكيل النظام الدولي.
إعلان
انطلاقًا من هذه الإشارات التي حملها العرض العسكري؛ يرى مراقبون أن ما جرى لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية، بل كان فعلًا استراتيجيًا بامتياز له دلالات مهمة. فقد حمل رسالة مركبة تمزج بين القوة العسكرية والتموضع الدبلوماسي وإعادة كتابة السرد التاريخي، بحيث تُوجَّه إشاراته، إلى الداخل الذي يبحث عن الثقة والفخر، وإلى الخارج الذي يتابع باهتمام رسائل الردع القادمة من بكين.
أما الإعلان الأوضح فكان موجهًا إلى واشنطن: لست وحدك في الكون. فالصين أصبحت تعرض نفسها باعتبارها قوة مسؤولة دوليا، محاطة بدائرة متنامية من الأصدقاء والشركاء، وجيش مستعد للقتال متى استدعت الضرورة، وقيادة عازمة على حماية مكانتها وصياغة ملامح النظام العالمي المقبل.
الثالوث النووي الصيني
أول الأدوات التي استخدمتها بكين في صياغة رسائلها الإستراتيجية تمثلت في إبراز ما يُعرف بـ”الثالوث النووي” الصيني، أي القدرة على تنفيذ ضربات نووية من البر والبحر والجو في آن واحد، وهو ما يضعها في مصاف القوى النووية الكبرى.
على صعيد القوة البرية، قدمت بكين الصاروخ الباليستي العابر للقارات “دونغ فنغ-61” (رياح الشرق-61)، وهو سلاح جديد بمدى بعيد وقدرة على حمل رؤوس نووية متعددة. أهم ما يميزه أنه محمول على منصات متحركة، مما يمنحه قدرة عالية على المناورة والإخفاء، ويجعله أبعد عن الاستهداف مقارنة بالصواريخ التقليدية المتمركزة في الصوامع الثابتة. إلى جانب ذلك، عُرضت نسخة مطوّرة من الصاروخ “دونغ فنغ-31” المتوسط إلى البعيد المدى، الذي يُعد أحد أعمدة الردع النووي البري الصيني منذ سنوات.
أما في مجال القوة البحرية، فقد كُشف عن الصاروخ الباليستي “جولانغ-3” (موجة المحيط-3)، المصمم للإطلاق من الغواصات النووية. هذا الصاروخ يمنح الصين القدرة على تنفيذ ضربات خفية من أعماق البحار، بما يضيف عنصر المفاجأة إلى إستراتيجيتها النووية ويعزز مناعة الردع، إذ يضمن للصين قدرة على الرد حتى في حال تعرضت لهجوم مفاجئ.
وفي القوة الجوية، استعرضت بكين الصاروخ البعيد المدى “جينغ لي-1” (الرعد الصاعق-1) المحمول على القاذفات الإستراتيجية. يتميز هذا السلاح بإمكانية إطلاقه من مسافات بعيدة، مما يوفر مرونة كبيرة في استهداف مواقع إستراتيجية للخصوم، ويكمل حلقة القدرة النووية الثلاثية بين البر والبحر والجو.
وبفضل هذا التكامل بين أذرعها النووية الثلاثة، أرادت الصين أن تؤكد أنها لم تعد قوة إقليمية فحسب، بل صارت قوة نووية عظمى مكتملة الأركان، قادرة على توجيه ضربات إستراتيجية متزامنة من كل المسارات، واضعة أي خصم محتمل تحت طائلة الردع المستمر.
ولم يتوقف الاستعراض عند ذلك، بل برز أيضًا الصاروخ الباليستي العابر للقارات “دونغ فنغ-5 سي”، وهو أحدث نسخة من السلسلة التي بدأ تطويرها منذ سبعينيات القرن الماضي. النسخة الجديدة تتميز بمدى يتجاوز 20 ألف كيلومتر، وقدرة على حمل ما يصل إلى 12 رأسًا نوويًّا، مما يجعلها نظريًّا قادرة على تغطية الكرة الأرضية كلها. هذه الصواريخ الإستراتيجية تمثل في نظر بكين الورقة الرابحة لقوة الردع النووي، وأداة لحماية “سيادة الوطن وكرامته” كما تصفها القيادات الصينية.
سهام البحر التي تطارد عمالقة المحيط
إلى جانب هذا البُعد النووي، كشفت الصين عن ترسانة متقدمة من الصواريخ الفرط صوتية المضادة للسفن. فقد ظهر الصاروخ الجديد “ينغ جي-15” (ضربة النسر-15) لأول مرة، إلى جانب عرض فئات “ينغ جي” الأخرى التي سبق اختبارها ضد نماذج لهياكل حاملات طائرات أميركية.
إعلان
تنتمي هذه السلسلة إلى فئة الصواريخ المجنحة أو الباليستية التكتيكية، وهي صواريخ تُطلق عادة من السفن أو الطائرات، وتتميز بقدرتها على التحليق على ارتفاعات منخفضة واتباع مسارات مبرمجة بدقة لملاحقة الأهداف البحرية الكبيرة. وعلى عكس الصواريخ الباليستية الإستراتيجية التي تُستخدم للردع النووي، فإن صواريخ “ينغ جي” مخصّصة للمعارك المباشرة، إذ صُممت لإصابة أهداف محددة بدقة عالية وإلحاق أضرار جسيمة بالقطع البحرية الضخمة مثل المدمرات وحاملات الطائرات. ويكمن تفوقها النوعي في سرعتها الفرط صوتية التي تتجاوز خمسة أضعاف سرعة الصوت، وهو ما يجعل اعتراضها مهمة شبه مستحيلة على أنظمة الدفاع الجوي التقليدية.
جنود صينيون داخل مروحيات صغيرة محمولة على شاحنات خلال عرضٍ احتفالي بالذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 (غيتي إيميجز)
أما الصاروخ الأبرز في هذه الفئة، فكان “ينغ جي-21” المعروف بلقب “قاتل حاملات الطائرات”. وهو صاروخ باليستي مضاد للسفن يُعتقد أن مداه يبلغ نحو 1500 كيلومتر، ويُنظر إليه بوصفه جزءًا من إستراتيجية بكين لتحييد أهم أدوات القوة الأميركية في البحار، أي حاملات الطائرات. يتميّز الصاروخ بسرعته الفائقة، إذ يتجاوز في مرحلة الطيران المتوسط ستة أضعاف سرعة الصوت (ماخ-6)، وقد يصل عند اقترابه من الهدف إلى عشرة أضعاف هذه السرعة، مما يجعل اعتراضه مهمة شبه مستحيلة. كما يتبع مسارًا شبه باليستي يسمح له بالمناورة أثناء الطيران، وهو ما يمنحه دقة عالية في إصابة الأهداف البحرية الكبيرة، حتى لو كانت متحركة.
زُوّد “ينغ جي-21” بأنظمة ملاحة متطورة تجمع بين القصور الذاتي والتوجيه عبر الأقمار الصناعية، بما يضمن إصابة دقيقة. ويمكن تزويده برؤوس حربية متعددة، سواء كانت تقليدية شديدة الانفجار أو ذخائر مخصصة لإلحاق أضرار قصوى بالسفن الضخمة. وقد ظهر الصاروخ لأول مرة على متن المدمرات الصينية الحديثة من طراز رنهاي، ثم جرى تطوير نسخة تُطلق من الجو بواسطة القاذفة الإستراتيجية “شيآن إتش-6″، مما وسّع بشكل كبير من نطاق استخدامه ومرونته.
وبذلك، أصبح “ينغ جي-21” سلاحًا مزدوج المنصات، يمنح الصين قدرة على توجيه ضربات دقيقة وسريعة سواء كانت من البحر أو من الجو، ويُكرّس موقعها بوصفها قوة بحرية قادرة على تحدي التفوق الأميركي في المحيط الهادي.
عاصفة من صواريخ وضوء وتشويش
وعلى صعيد الدفاع الجوي والحرب الإلكترونية، عرضت الصين أنظمة جديدة صُممت للتعامل مع طيف واسع من التهديدات المعاصرة، تبدأ من الأقمار الاصطناعية وتنتهي بالطائرات المسيّرة. أبرز هذه الأنظمة كانت منظومة “الراية الحمراء-29” (HQ-29)، وهي سلاح دفاعي مخصص لاعتراض الصواريخ الباليستية أثناء مرورها في الفضاء خارج الغلاف الجوي، فضلًا عن استهداف الأقمار الصناعية في المدار الأرضي المنخفض. وبهذا، تتيح المنظومة لبكين القدرة على شلّ وسائل المراقبة والتوجيه التي تعتمد عليها جيوش الخصوم، أي ضرب “العيون” التي ترصد وتوجّه من السماء.
كما قدمت بكين أسلحة جديدة تعتمد على الليزر العالي الطاقة، القادر على إطلاق أشعة مركّزة لتدمير الطائرات المسيّرة الصغيرة أو تعطيلها على الفور، بتكلفة أقل بكثير من الصواريخ التقليدية. وإلى جانب ذلك، ظهرت أنظمة حرب إلكترونية تعمل بالموجات الميكروية، وهي موجات كهرومغناطيسية قادرة على تعطيل أنظمة التحكم في أسراب المسيّرات، مما يفقدها الاتصال أو التوازن ويجعلها غير فعّالة.
منظومة الدفاع الصاروخي HQ-22A خلال عرض عسكري لإحياء الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية، في بكين، الصين، 3 أيلول/أيلول 2025 (رويترز)
وقد أطلق الإعلام الصيني على هذه المجموعة اسم “الثالوث الحديدي ضد المسيّرات”، لأنها تجمع بين ثلاثة مستويات من الحماية: الصواريخ التقليدية التي تُسقط الأهداف من مسافات بعيدة، وأشعة الليزر التي تعترضها بسرعة ودقة، إضافة إلى الموجات الميكروية التي تُربكها وتشوش عليها. وبذلك، قدّمت الصين صورة متكاملة عن منظومة دفاعية جديدة قادرة على مواجهة أسراب الطائرات المسيّرة.
إعلان
أما في مجال الطائرات المسيّرة والمركبات غير المأهولة، فقدّم العرض العسكري صورة واضحة عن انتقال بكين إلى ما يمكن تسميته “الحرب الذكية”. فقد استعرضت البحرية الصينية الغواصة الآلية “إتش إس يو-100″، وهي مركبة غير مأهولة بطول يقارب 20 مترًا، تشبه في هيئتها الغواصات التقليدية، لكنها مصممة للعمل من دون طاقم. ويُرجّح أن مهمتها الأساسية تتركز على جمع المعلومات الاستخبارية أو استهداف قوات العدو في أعماق البحار وعلى مسافات بعيدة داخل المحيط، بما يمنح الصين أداة جديدة للتفوق في ساحة الحرب البحرية.
وفضلًا عن ذلك، كشف جيش التحرير الشعبي عن غواصة آلية أخرى هي “إيه جاي إكس-002″، المخصّصة لزرع الألغام البحرية. ويُنظر إلى هذا السلاح باعتباره وسيلة فعّالة لفرض حصار بحري محتمل على تايوان أو لإغلاق الممرات والمضايق الحيوية في شرق آسيا إذا اندلع نزاع واسع النطاق. وبهذا، قدّم العرض العسكري صورة واضحة عن توجه بكين المتسارع نحو إدماج الأنظمة البحرية غير المأهولة في إستراتيجيتها، بما يعزز قدرتها على مراقبة أعماق البحار وتهديد طرق الملاحة الدولية عند الحاجة.
ويشير الخبير العسكري الصيني باي مينغ تشين إلى أن امتلاك الصين أحدث الغواصات الآلية الكبيرة الحجم يجعلها في وضع مثالي لمواجهة التهديدات في أعماق البحار، خصوصًا في ضوء الدروس المستفادة من حادثة تخريب خط أنابيب نورد ستريم، وهو ما يبرز البعد الإستراتيجي لهذه التكنولوجيا باعتبارها وسيلة لحماية البنية التحتية الحيوية تحت سطح البحر.
ولم يتوقف التطوير عند أعماق البحار، إذ ظهرت في العرض طائرات مسيّرة متطورة قادرة على العمل في الجو وتحت الماء معًا، إضافة إلى مروحيات مسيّرة قابلة للإطلاق من متون السفن لتوسيع نطاق الاستطلاع البحري. كما استعرضت الصين روبوتات قتالية لافتة على شكل “كلاب آلية” محمولة فوق مدرعات، يمكن استخدامها في مهام الاستطلاع والدعم اللوجستي، بل حتى في القتال المباشر إذا جُهّزت بالأسلحة.
سلاح جوّ يمنح بكين ذراعًا طويلة
أما على مستوى سلاح الجوّ، فقد كشفت بكين عن أربعة أنواع من المقاتلات المصممة للعمل على متون حاملات الطائرات، في دلالة واضحة على التسارع الكبير في تطوير قدرات سلاحها البحري والجوي. ومن أبرزها المقاتلة “جيه-15 تي”، وهي نسخة مطوّرة من الطائرة “جيه-15″، وتمتاز بقدرتها على الإقلاع بوسيلتين مختلفتين.
الأولى هي طريقة المنحدر التزلجي، المعتمدة في حاملات الطائرات الأقدم، حيث يُبنى منحدر مائل في مقدمة الحاملة يساعد الطائرة على الاندفاع والتحليق في الجو. هذه الآلية بسيطة نسبيًّا ولا تتطلب تجهيزات تقنية معقدة، لكنها تحدّ من حمولة الطائرة، فلا يمكنها الإقلاع بوزنها من الوقود والأسلحة كاملًا.
مجنّدات من جيش التحرير الشعبي أثناء تدريباتهن استعدادًا للعرض العسكري لإحياء الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان (غيتي إيميجز)
أما الطريقة الثانية فهي نظام المنجنيق أو المقلاع، المستخدم في الحاملات الحديثة، حيث تُثبَّت الطائرة على سكّة خاصة تُطلقها بقوة هائلة لتبلغ سرعة الإقلاع في مسافة قصيرة. يتيح هذا النظام للطائرة الانطلاق بحمولتها الكاملة من الوقود والسلاح، مما يعزز قوتها القتالية بشكل كبير.
وبفضل هذه المرونة، تتوافق “جيه-15 تي” مع مختلف أنواع حاملات الطائرات التي تملكها الصين، بما يمكّنها من أداء مهامها بكفاءة عالية في بيئات تشغيلية متنوعة.
أما الطائرة “جيه-15 دي تي”، فهي نسخة أخرى متخصصة في الحرب الإلكترونية، أي أنها لا تقتصر على خوض القتال المباشر، بل صُممت للتشويش على رادارات العدو وأنظمة اتصالاته، بما يجعلها “العين المموهة” التي ترافق الطائرات الهجومية وتزيد فرص نجاح مهامها. وبفضل إمكانية إطلاقها أيضًا عبر النظامين (المنجنيق أو المنحدر التزلجي)، فإنها تضيف طبقة جديدة من القوة التكتيكية للبحرية الصينية.
وعلى رأس الطائرات التي قدمتها الصين، تأتي المقاتلة الأحدث والأكثر لفتًا للانتباه: “جيه-35” الشبحية المخصصة لحاملات الطائرات، التي تتمتع بقدرات إخفاء عن الرادارات، إضافة إلى مرونتها في حمل أسلحة متطورة، بما يجعلها حجر أساس في أي معركة جوية بحرية مستقبلية.
نتيجة لذلك، يصف المراقبون “جيه-35” بأنها “القطعة البارزة من معدات الانتقال من الدفاع عن البحر القريب إلى الدفاع عن البحر البعيد”، فهي تجسد طموح الصين للانتقال من حماية سواحلها فقط إلى بسط قوتها في أعماق المحيطات.
مقاتلة صينية من طراز شنيانغ J-35A في تشوهاي بمقاطعة غوانغدونغ جنوب الصين، في 15 تشرين الثاني/تشرين الثاني 2024 (الفرنسية)
هذا التوجه يتقاطع مع ما أشار إليه الخبير العسكري الصيني باي مينغ تشين، إذ لفت إلى أن التشكيلات الجوية التي استعرضها جيش التحرير الشعبي تؤكد أن القاذفات الإستراتيجية الصينية أصبحت قادرة على ضرب أهداف أبعد بكثير، مستفيدة من قدرات التزود بالوقود جوًّا لطائرة واي-20. وهنا تتضح معالم مرحلة جديدة من تطوير سلاح الجو الصيني، قوامها الجمع بين القاذفات البعيدة المدى والطائرات الشبحية المتعددة المهام، في إطار منظومة متكاملة.
نسيج القوة: شبكة تمتد من الأعماق إلى الفضاء
بصورة مجملة؛ يمكن القول إن العرض جسّد رؤية بكين لعقيدة قتالية تسعى من خلالها إلى دمج القدرات الهجومية والدفاعية في شبكة واحدة، تمنع الخصم من الاقتراب وتتيح الاستهداف الدقيق عبر مسافات شاسعة، وتحرم العدو من أي تفوق ميداني. فكل قطعة سلاح لا تُقدَّم كمنظومة منفردة، بل كخيط ضمن نسيج شبكة قيادة وتحكم موحّدة، تُرسم من خلالها صورة كاملة للمعركة قبل أن تبدأ.
إعلان
في قلب هذه العقيدة يبرز مفهوم المنع من الوصول/الحرمان من الحركة (A2/AD)، وهو تصور إستراتيجي يهدف إلى إقامة مظلة ردعية واسعة تجعل اقتراب أي قوة بحرية معادية من المياه الصينية، أو من بحري الصين الجنوبي والشرقي، مهمة محفوفة بالأخطار. ويتحقق ذلك عبر تداخل عدة طبقات من القوة، تشمل صواريخ بعيدة المدى مثل دي إف-26، قادرة على ضرب أهداف حتى جزيرة غوام الأميركية، وصواريخ فرط صوتية مضادة للسفن مثل ينغ جي-21، تمكنها إصابة القطع البحرية الضخمة بسرعة خارقة، إضافة إلى أسراب الغواصات الآلية والمسيّرات البحرية القادرة على العمل كحقول ألغام متحركة أو شبكات إنذار مبكر في أعماق البحر.
هذا المزج يجعل مهمة حاملات الطائرات والسفن الكبرى أكثر تعقيدًا إذا ما اقتربت من السواحل الصينية أو من مضيق تايوان. فبدلًا من مواجهة تهديد واحد يمكن التنبّؤ به، تجد القوى المعادية نفسها أمام شبكة مترابطة من التهديدات يصعب اختراقها أو تعطيلها. وهو ما يعكس التحول النوعي في التفكير العسكري الصيني، من الدفاع عن الشواطئ إلى فرض واقع جديد في المحيط الإقليمي، مع رسالة واضحة بأن هذا المحيط لم يعد ساحة خالصة للولايات المتحدة.
صواريخ DF-61 شاركت في العرض العسكري (أسوشيتد برس)
وفي السياق ذاته، حمل العرض العسكري رسالة واضحة حول قدرات الردع الإستراتيجي المرن، عبر إظهار أذرع الثالوث النووي الصيني بأكملها في صورة واحدة لأول مرة. وهذا يضع أي خصم أمام معادلة بالغة التعقيد، إذ إن أي ضربة استباقية تستهدف أحد عناصر القوة النووية الصينية لن تكفي لتحييد قدرتها على الرد، بما يضمن لبكين القدرة على توجيه ضربة انتقامية مؤكدة.
ويشير الخبراء إلى أن الهدف من هذا التطوير هو سد الثغرات بين المنصات النووية المختلفة، بحيث يعوّض كل ذراع نقاط ضعف الآخر؛ فالغواصات تمنح قدرة عالية على البقاء في أعماق البحر حتى إذا استُهدفت القواعد البرية، في حين توفر القاذفات مرونة الحركة وإمكانية إطلاق الضربات من مسافات بعيدة. هذا التكامل يزيد من موثوقية الردع النووي الصيني ويمنحه مرونة أكبر، سواء عبر خيار “الضربة الثانية” من البحر أو الجو إذا استُهدفت الصواريخ البرية، أو عبر الانتشار والمناورة بما يجعل شلّ هذا الثالوث مهمة شبه مستحيلة.
وعليه، لم يكن عرض الثالوث النووي مجرد استعراض تقني، بل رسالة سياسية وإستراتيجية واضحة مفادها أن الصين أصبحت قادرة على حماية مكانتها العالمية عبر مظلة ردع نووي مرنة وموثوق بها.
وفي الوقت ذاته، تُظهر التشكيلات الصينية توجهًا واضحًا للاستفادة من دروس النزاعات الحديثة، وفي مقدمتها حرب أوكرانيا. فقد أدركت بكين أن الطائرات المسيّرة أصبحت سلاحًا حاسمًا ورخيص الكلفة، مما دفعها إلى تطوير الثالوث الحديدي ضد المسيّرات لإسقاطها بكفاءة أكبر. هذا التطوير يعزز قدرة القوات الصينية على حماية وحداتها البرية والبحرية ضد أسراب المسيّرات والصواريخ المعادية، كما يخفض كلفة الدفاع بشكل ملحوظ.
مارد.. لكن في قمقم
مع ذلك، تبقى القوة العسكرية التي يعكسها العرض الصيني مقيّدة وغير مختبرة، وهي أقرب إلى مارد في قمقم لم يُفتح بعد. صحيح أن بكين عرضت أسلحة متطورة، لكن كثيرًا منها لم يُختبر في ظروف قتال فعلية، وبعضها لا يزال في مرحلة “التجريب أثناء النشر”، مما يثير تساؤلات حول حجم هذه الترسانة؛ هل هي قدرات نخبوية محدودة العدد، أم منظومات تمتلك الكثافة الكافية والتدريب اللازم لتفعيلها على نطاق واسع؟
أما على مستوى التكامل العملياتي، فقد بدا العرض وكأنه يقدّم صورة مثالية عن تناغم القوات البرية والبحرية والجوية والسيبرانية تحت مظلة قيادة موحّدة. غير أن تحويل هذه الصورة إلى واقع يحتاج إلى بنية قيادة وسيطرة متقدمة وقدرة عالية على التنسيق اللحظي. وتاريخيًّا، عانى جيش التحرير الشعبي من البيروقراطية والتسلسل القيادي الصارم، كما أن الصين لم تخض حربًا فعلية منذ عقود، مما يجعل عقائدها القتالية الجديدة تحتاج إلى اختبار ميداني في ساحات مفتوحة.
ويظل البُعد اللوجستي نقطة ضعف غير واضحة المعالم في الاستعراض. فإدارة أسراب المسيّرات والغواصات الآلية والصواريخ تحتاج إلى منظومات إمداد وصيانة واتصالات محصنة ومخزونات ضخمة من الذخائر، وهو ما لا يمكن عرضه على الملأ.
وما يزيد المشهد تعقيدًا أن كل استعراض قوة يدفع الخصوم إلى إعادة التموضع، سواء عبر تعزيز الوجود الأميركي في آسيا وتسريع برامج التسلح، أو عبر دفع قوى إقليمية مثل اليابان إلى زيادة إنفاقها العسكري وتوثيق تحالفاتها. وهكذا، قد يتحوّل العرض إلى عامل تسريع لسباق تسلّح جديد. وليس أدلّ على ذلك من تعليق الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي كتب ساخرًا على منصة “تروث سوشيال” تعليقًا على لقاء شي وبوتين وكيم: “أنتم تتآمرون ضد الولايات المتحدة الأميركية”.
هكذا يكشف العرض العسكري عن وجه مزدوج؛ رسالة ردع أرادت بكين من خلالها الاحتفاء بذاكرة الماضي وإعلان قوة الحاضر، لكنها في الوقت نفسه أثارت مخاوف من اصطفافات دولية جديدة وتوازنات أكثر اضطرابًا. وبين ما هو مُعلن وما هو مُجرَّب، سيظل المارد الصيني محاطًا بضباب من الشكوك، ينتظر لحظة الاختبار الحقيقي التي ستحدد وحدها وزنه الفعلي في مسرح التاريخ.
في فجر أحد أيام تموز/تموز من عام 1945، حبس العالم أنفاسه بينما أضاء وميض أقوى من ألف شمس سماء صحراء نيو مكسيكو.
في تلك اللحظة، لم يولد السلاح الذري فحسب، بل وُلد عصر جديد محكوم بقوة جبارة ذات وجهين: وجه يحمل وعدًا بطاقة لا تنضب يمكنها أن تنير مدننا، ووجه آخر ينذر بفناء شامل قادر على محوها. لقد كانت تلك هي معضلة بروميثيوس التاريخية ولكن في القرن العشرين؛ فك شيفرة الذرة منح البشرية نارًا إلهية، لكنه ألقى على عاتقها عبء السيطرة على لهيبها المدمر.
نقف اليوم على عتبة تاريخية مشابهة، لكن الساحة لم تعد صحراء نائية، بل هي الفضاء الرقمي الذي يحيط بنا. الشيفرة التي نفكها الآن ليست شيفرة الذرة، بل شيفرة الذكاء نفسه. إن الذكاء الاصطناعي هو نار بروميثيوس في عصرنا؛ قوة تحويلية تحمل في طياتها وعودًا تتجاوز الخيال، وفي الوقت ذاته، تُنذر بأخطار لا تقل جسامة عن سابقتها النووية.
فكما أن الانشطار النووي يمكن أن يغذي شبكات الطاقة أو يغذي الرؤوس الحربية، فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي تحمل الازدواجية ذاتها. الإنجازات المذهلة مثل القدرة على ابتكار إستراتيجيات شطرنج لم تخطر على بال بشر، أو اكتشاف مضاد حيوي جديد في أيام، أو القدرة على محاكاة الحوار الإنساني، تمثل الجانب المشرق والمفعم بالأمل. إنها تبشر بعصر من الاكتشافات العلمية المتسارعة، والكفاءة غير المسبوقة، والقدرات البشرية المعززة.
ولكن في ظلال هذا الوعد، يكمن خطر إساءة الاستخدام. إذ إن الأنظمة ذاتها التي يمكنها تشخيص الأمراض، يمكن استخدامها لتصميم أسلحة مستقلة. والشبكات التي تنظم حركة المرور في مدننا الذكية يمكن أن تتحول إلى أدوات للمراقبة الشاملة. واللغة التي تولدها ببراعة يمكن أن تصبح أقوى أداة لنشر معلومات مضللة وتآكل نسيج الثقة الاجتماعية. الخطر هنا ليس مجرد فناء مادي، بل هو فناء للمعنى، والحقيقة، والإرادة الحرة.
وها نحن نحيا وسط هذه المعضلة منذ أحداث السابع من تشرين الأول وما تبعها من تدمير شامل وقصف متعمد للأبرياء في قطاع غزة من قبل جيش الاحتلال، لتتضح الخيوط بعد ذلك وتشير إلى تورط الذكاء الاصطناعي في هذه الإبادة الجماعية.
البيانات القاتلة!
في السادس من آب/آب 2025، نشرت صحيفة الغارديان مقالًا تشير فيه إلى تورط مزود الخدمات السحابية (Azure) التابع لعملاق الحوسبة الأميركي مايكروسوفت مع الوحدة 8200 التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي في تخزين الملايين من المكالمات المسجلة لساكني قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة قبل الحرب.
إعلان
وقد أشار التقرير إلى أن هذه المكالمات هي جزء من عملية مراقبة معلوماتية نفذها جيش الاحتلال باعتبار أن جميع قاطني منطقة غزة ما هم إلا تهديد محتمل وعناصر مشتبه فيهم.
يتفق المقال مع ما توارد سابقًا من أن جيش الاحتلال يستخدم مجموعة من برمجيات الذكاء الاصطناعي التي تم تصميمها لمهام عسكرية خاصة، ليؤكد بأن عملية تصميم نظام ذكاء اصطناعي وتزويده بالبيانات كان قد تم الترتيب لها لربما منذ 2021.
لقد أنشأ جيش الاحتلال ثلاثية الموت، وهي عبارة عن ثلاثة أنظمة ذكاء اصطناعي تتمثل في نظام لافندر (Lavender) وهو نظام توصية وتصنيف لسكان القطاع، ونظام أين أبي (where’s Dady) وهو نظام تتبع ورصد وتصنيف للإشارات، ونظام الإنجيل (the Gospel) وهو مثل نظام اللافندر ولكن للمنشآت وليس للأفراد؛ لتتشكل بذلك بيئة محوسبة تمت أتمتتها باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات واستخراج النتائج واتخاذ القرار بضربات جوية مع أقل نسبة إشراف من العامل البشري.
ولربما تبدو فكرة ذكية لتتبع المشتبه فيهم واتخاذ قرار بالقضاء على التهديدات بسرعة فائقة مع الحد من التدخل البشري، وهذا ما أراد الكيان تصديره، ولكن التفاصيل القابعة خلف ديناميكية هذه الأنظمة هي موضع النظر في هذا المقال، وبالأخص نظام اللافندر.
قبل أن نبحر في التفاصيل الخاصة بهذا النظام، دعونا نؤكد على الحقيقة التي لا يختلف عليها المختصون بعلم الإحصاء والذكاء الاصطناعي، وهي أن البيانات تمثل وقود أي نظام يعتمد على الذكاء الاصطناعي، وكلما زاد حجم البيانات التي يتم استخدامها لتدريب برمجيات الذكاء الاصطناعي زادت كفاءته، ولكن نوعية البيانات تشكل أيضًا فارقا كبيرا في توقع الأنماط والسلوك التي يتم تعلميها بدورها لبرمجيات الذكاء الاصطناعي لتتكون لديه القدرة على إيجاد هذه الأنماط وتوقعها في البيانات التي لم يتم تدريبه عليها.
فلو أردنا تجميع بيانات سكان القطاع لبناء نظام يحاكي عمل اللافندر، فسيتوجب علينا تجميع كميات هائلة من البيانات لكل فرد قد تشتمل على أنماط التواصل التي تتمثل في معدلات المكالمات الهاتفية يوميا ومن هم المتلقون وما إذا كانوا داخل القطاع أم خارجه ونشاط الشخص على مواقع التواصل الاجتماعي وصلته بأفراد قد تكون لهم صلة بأي من الشخصيات المطلوبة أو المشتبه فيها.
وتمتد هذه البيانات لتشمل معدلات تغيير أرقام الاتصال أو العنوان لنفس الشخص إضافة إلى هيئة الشخص أو حتى الأرقام المخزنة في هاتفه، وبمقارنة هذه المعلومات مع ما تم نشره في الغارديان يقودنا هذا إلى أن الوحدة 8200 بدأت في استخدام الخدمات السحابية لتخزين هذه البيانات نظرا لحجمها الهائل والاستعانة بالمختصين في شركة مايكروسوفت لتطوير بعض البرمجيات.
تشير التقارير الواردة إلى أن هذه الأنظمة المتصلة بالذكاء الاصطناعي تستخدم تلك البيانات لتقرر مواقع وتوقيتات الضربات الجوية، كما تشير إلى أن القرارات الصادرة من هذه الأنظمة كانت تُعامل مثل القرارات الصادرة من كيان بهوية إنسانية.
وبالتالي فإننا أمام معضلة إنسانية بحتة وسؤال يطرح نفسه بنفسه، عما إذا كانت هذه الإبادة الحاصلة في قطاع غزة قد تم تخطيطها وتنفيذها من قبل برمجيات ذكاء اصطناعي أم أن ما يحدث دليل على عدم قدرة جيش الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته الحديثة وأقماره الاصطناعية التجسسية، على القيام بعملية استئصالية دقيقة للعناصر المطلوبة مع الحد من قتل المدنيين الذين تجاوز عددهم 60 ألف شهيد، مع اعتبار عدم تعداد من هم تحت الركام، والمفقودين وضحايا الجوع؟
أشير إلى تورط مزود الخدمات السحابية (Azure) التابع لعملاق الحوسبة الأميركي مايكروسوفت مع الوحدة 8200 التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي (رويترز)
كيف تفوّق اللافندر على القنبلة النووية؟
يقودنا ما سبق إلى سؤال أهم: كم عدد القتلى المدنيين الذي اقترحته هذه البرمجيات مع بدء العملية الحربية ضد المدنيين؟
إعلان
لإجابة هذا السؤال، يجب أن نتعمق قليلا في السردية الإسرائيلية عن هذه البرمجيات ومعرفة كيفية عملها، فـاللافندر مُصمم للتعرف وتقييم الأشخاص المشتبه في تعاونهم مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من خلال البيانات التي أشرنا إليها وباستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
فهذا النظام يقوم بتحليل نوعية البيانات التي أشرنا إليها أيضًا لعناصر من حماس تم التعرف عليهم مسبقا أو القبض عليهم، لينشِئ نمطًا معينًا يستطيع من خلاله مقارنة هذا النمط مع بيانات سكان القطاع لتوقع ما إذا كان شخص ما لديه نمط مماثل أو مشابه للأنماط التي تم التدرب عليها، وبناء على ذلك يتم إعطاء تقييم للشخص المشتبه فيه على مقياس من 100 فحتى لو قيّم النظام الشخص بـ1 من 100 فهو مشتبه فيه وبالتالي فهو وفقا للنظام هدف تم التحقق منه، وبالتالي تصفيته!
وقد أوضحت التقارير الأولية أن جيش الاحتلال أطلق العنان لعملية توقع الأنماط التي يقوم بها النظام والتي تصل دقتها إلى 90%، كما أوضحت التقارير الأولية أن عدد القتلى المدنيين المصاحبين (collateral damage) للقضاء على الأشخاص المصنفين بأنهم مشتبه فيهم قد تصل إلى ما بين15 و20 مدنيًّا! هذا إذا ما تم تقييم المشتبه فيهم بقيمة قليلة على ذلك المقياس الخاص بالذكاء الاصطناعي.
وأحيانا يصل عدد المدنيين إلى 100 قتيل مصاحب (collateral damage) إذا ما كان الشخص المشتبه فيه قد تم تقيمه بقيمة مرتفعة! وذلك لأن جيش الاحتلال يستخدم قنابل غير موجهة (dummy bomb) في عمليات القصف الجوي. كل هذا قد يبدو سلسا ومقبولًا لدى بعض الخبراء الغربيين، شركاء هذه الإبادة، ولكن هناك شياطين عدة تكمن في التفاصيل.
وبالاستعانة بخبراء الذكاء الاصطناعي، فإن هذه السردية تحمل الكثير من التناقض، فمن المعروف أنه إذا ما تم تدريب برمجيات الذكاء الاصطناعي على عينة محدودة من البيانات فإنه بالتبعية لن تستطيع هذه البرمجيات إيجاد التشابه في الأنماط عند تعرضها لعينة أكبر من البيانات.
وإذا ما افترضنا أن الوحدة 8200 تمتلك جميع بيانات كل من تم القبض عليهم والتأكد من تعاملهم مع حماس فكم سيكون عددهم نسبة إلى مليونَي شخص يسكنون القطاع؟! إضافة إلى ذلك، فما هو العامل الأساسي في العوامل المضمَّنة في البيانات المجمعة، فهل هو معدل الاتصال اليومي مثلا أم وجود الأشخاص في مناطق قريبة من أماكن محددة؟
يقودنا كل ما سبق إلى الأسئلة التالية: إلى ماذا تشير دقة أداء تلك البرمجيات التي زعم جيش الاحتلال أنها قد تصل إلى 90%؟ كيف تم التأكد من أن الضربات الجوية العمياء قد أصابت هدفًا معينًا وأن هذا الهدف متورط مع عناصر حماس؟ أم أن هذه النسبة تمثل دقة تدريب البرمجيات على البيانات المحدودة الخاصة بعناصر حماس؟ أم أن هذه النسبة لا تمثل حقيقة التوقعات الخاصة بتلك البرمجيات؟ أم أنه قد تم تجهيز وتحضير مجموعة بيانات تحمل خصائص محددة مسبقة لاختبار البرمجيات وإظهار نتائج زائفة؟
إذ إن هذا ما حدث مع العملاق الأميركي مايكروسوفت، حينما طرحت الشركة نموذج الذكاء الاصطناعي ” Phi-3″ وصدرت أنه قد أدى أداءً مذهلًا في اختبارات مثل “MATH ،GAM8k” وغيرها، ليتضح بعد ذلك أن البيانات التي تم تدريب النموذج عليها تحتوي على عينات من البيانات الموجودة في تلك الاختبارات، وأن النموذج قد حفظ تلك البيانات ليلقيها أثناء الاختبار، وأنها ليست نتائج توقع أو تحليل.
وعوضا عن ذلك، فإن هامش خطأ الـ10% يعني أن بين كل 10 أشخاص هناك شخص واحد أخطأ النظام في تقييمه، شخص واحد مع القتلى المدنيين المصاحبين له.
وهذا يقودنا إلى النقطة التالية، وهي كم عدد القتلى المدنيين المتوقع إنهاء حياتهم لمجرد أن النظام المعتمد على الذكاء الاصطناعي قد قرر ذلك؟
إعلان
عند التعمق نجد أن اللافندر قد صمم للإبادة طبقا لعدد القتلى المدنيين المحتملين مع كل عنصر مشتبه فيه. فقد أشارت التقارير الأولية إلى أنه بعد أحداث السابع من تشرين الأول تم إجراء بعض التعديلات على اللافندر ليحدد بعدها ما يقرب من 37 ألف شخص مشتبه فيهم داخل القطاع ويجب أن يتم استهدافهم.
وإذا ما افترضنا فرضية هزلية، أن جميع المشتبه فيهم من المصنفين بتصنيف منخفض، فطبقا للنظام فإن كل شخص سيصطحب معه 15 شخصًا مدنيًّا قتيلًا في الحد الأدنى، وبضرب 37 في 15 فإن ناتج عدد القتلى المدنيين يصل إلى نصف مليون مدني، منهم نصف مليون قتيل نتيجة الخطأ الإحصائي المتمثل في 10% والباقي أضرار جانبية طبقا لوصفهم! ليتجاوز بذلك إجمالي ضحايا القنبلة النووية التي ألقيت على “هيروشيما” و”نغازاكي” مجتمعين.
ولربما يسعى جيش الاحتلال إلى تحطيم الأرقام المسجلة للضحايا الأبرياء عبر التاريخ وصولا إلى تحطيم أرقام الضحايا الأبرياء نتيجة قصف لندن وباريس من قبل الجيش النازي بعدما أسفرت عملياته الجوية على القطاع عن قتل أكثر من 60 ألف شخص كما أشرنا.
جثث الذكاء الاصطناعي
يبقى معنا آخر مسمار أخلاقي في نعش هذه البرمجيات، وهو عملية الأتمتة بذاتها التي تقلل الإشراف البشري للحد الأدنى، فقد أفادت التقارير أن قرار الضربات الجوية يخضع للمراجعة البشرية مدة 20 ثانية فقط، وبالتالي فإن التحيز الرقمي الناتج عن التوقعات الخاطئة وغير الدقيقة لتلك البرمجيات يستمر بدون التعرض للمراجعة البشرية الكافية.
والسؤال الملحّ هنا: ما الفائدة من وضع برمجيات الذكاء الاصطناعي قيد التنفيذ مع وجود كل هذه النواقص والأخطاء؟ طبعًا مع افتراض مُتخيّل بأنها “أخطاء غير متعمدة”، وهي التي شملت المحرمات المعروفة لدى متخصصي الأتمتة والذكاء الاصطناعي، ابتداء من الأخطاء الشمولية (generlization error)، مرورًا بالتحيز لنمط محدد بعينة بيانات قليلة وبدون التأكد من نواتجها (training error)، وصولا إلى أخطاء تحيز الأتمتة (automations error).
إضافة إلى ذلك، من هو المسؤول عن تحمل هذه الأخطاء؟ أهم المدنيون الأبرياء المقتولون نتيجة هذه البرمجيات أم أن تلك البرمجيات صممت للإبادة ولذا لم تراع فيها الإشكاليات السابقة الذكر؟ ولربما قد يستنتج بعض المختصين أن ما يحدث في غزة ما هو إلا عملية تدريب لتلك البرمجيات، ليتم بعد ذلك تسويقها للعالم، بأن هذا النوع من الذكاء الاصطناعي مخصص لمكافحة الأبرياء! وليضع بذلك أول عملية قتل للمدنيين في العالم لغرض محاكاة وتصحيح الذكاء الاصطناعي.
أصبحنا الآن نُدرك بشكل أكبر أهمية أنظمة الدفاع الجوي متعددة الطبقات لأمننا. إذا كان لديهم (إسرائيل) قبة حديدية، فسيكون لدينا قبة فولاذية.. لن ننظر إليهم ونقول لماذا لا نمتلكها؟
بواسطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مقر صناعات الفضاء الجوي التركية (TUSAS) في 29 تشرين الأول/ تشرين الأول 2024
في 27 آب/آب الماضي، حضر الرئيس التركي أردوغان مراسم تسليم الدفعة الأولى من منظومة الدفاع الجوي “القبة الفولاذية” إلى الجيش التركي، وتشمل 47 مركبة مجهزة بنظامي حصار وسيبر، وهما أول نظامين صاروخيين قصيري وطويلي المدى تُنتجهما تركيا محليًا، بتكلفة 460 مليون دولار.
طرحت تركيا مشروع “القبة الفولاذية” في 6 آب/ آب 2024 بوصفها منظومة دفاع جوي متكاملة، تعتمد على شبكة متعددة الطبقات قادرة على التعامل مع طيف واسع من التهديدات.
وكانت بعض المكونات التي أُدمجت ضمن مشروع القبة قد بدأ العمل عليها في 2018، مثل منظومات KORKUT و HİSAR. وبخلاف “القبة الحديدية” الإسرائيلية، التي تركز على اعتراض الصواريخ قصيرة المدى، فمن المخطط له أن يغطي المشروع التركي المجال الجوي بمختلف تهديداته، من المسيّرات منخفضة الارتفاع إلى المقاتلات الهجومية، مرورًا بالصواريخ الباليستية، وعلى امتداد الأراضي الوطنية.
تعمل المنظومة على دمج أسلحة متنوعة مع منظومات استشعار متطورة في بنية واحدة أشبه بدرع شبكي. كل طبقة تؤدي وظيفة محددة، لتواجه نوعًا معينًا من المخاطر. وعندما تعمل تلك الطبقات معًا، تشكّل مظلة متكاملة للحماية، أقرب إلى شبكة متراصة تلتقط مختلف التهديدات بدلًا من الاعتماد على حل واحد محدود الفاعلية.
إستراتيجيًا، تعزّز تلك المنظومة المتطورة سيادة تركيا العسكرية، وتقلّص من اعتمادها على أسلحة الحلفاء الدفاعية، وتضع أنقرة في موقع فاعل رئيسي ضمن أسواق السلاح العالمية، بحسب تقرير منصة ناشونال إنترست. فما القبة الفولاذية، وما طبقاتها المتعددة للدفاع الجوي؟ وكيف تستفيد تركيا منها عسكريًا ودبلوماسيًا؟
حضر الرئيس التركي أردوغان مراسم تسليم الدفعة الأولى من منظومة الدفاع الجوي “القبة الفولاذية” (وكالة الأناضول)
ولادة الدرع الوطني
في 6 آب/آب 2024، اتخذت اللجنة التنفيذية للصناعات الدفاعية (SSİK) قرار إطلاق مشروع “القبة الفولاذية”، وأوضحت التصريحات السياسية اللاحقة أن المشروع سيُنفذ على أساس “محلي ووطني”، أي أن تصميم وتصنيع المواد بالكامل سيجري داخل تركيا من شركات وطنية. تعتمد الشركات الرئيسية المختارة للمشروع، وهي أسيلسان، وروكيتسان، وتوبيتاك ساجي، وMKE، على مقاولين محليين من الباطن، لكنها قد تلجأ إلى موردين أجانب عند الضرورة، مع الحفاظ على مشاركتهم في أدنى مستوى ممكن لإبراز الهوية التركية للمواد.
إعلان
قبل ذلك، وخلال أعوام 2019–2022، دخلت منظومات HİSAR وKORKUT إلى الخدمة تدريجيًا بوصفها اللبنات الأولى للطبقات القصيرة والمتوسطة، قبل دمجها في الشبكة الموحدة المدعومة بخوارزميات ذكاء اصطناعي، ضمن المشروع الجديد.
وكانت قد أعلنت تركيا أخيرًا عن مشروع ضخم بقيمة 1.5 مليار دولار، وُصف بأنه “أكبر استثمار في تاريخ الصناعة العسكرية التركية”، وهي قاعدة “أوغول بي” للتكنولوجيا، قاعدة عسكرية ضخمة تهدف إلى مضاعفة القدرة الإنتاجية لمكوّنات منظومة “القبة الفولاذية”.
ومن المفترض أن تبدأ قاعدة “أوغول بي” عملها في منتصف عام 2026، غير أن شركة “أسيلسان” أكدت أنها شرعت فعلًا في تزويد القوات المسلحة التركية بمكوّنات المنظومة. الصحفيون الذين زاروا الموقع، قبل يوم من الإعلان الرسمي عن المنظومة، شاهدوا 47 منصة متنقلة جاهزة للتسليم، تتعلق بالقبة الفولاذية ومزوّدة برادارات وأنظمة مرافقة. وشملت هذه الدفعة منظومات “سيبر” (SİPER) للدفاع الصاروخي بعيد المدى، ومنظومة “حصار” (HİSAR) متوسطة المدى، و”كوركوت” (KORKUT) قصيرة المدى، إضافة إلى رادارات الاستطلاع الجوي وأنظمة الاتصالات والحرب الإلكترونية.
طبقات حماية متعددة
تبدأ أولى مستويات الحماية بالطبقة قصيرة المدى، ومهمتها التصدي للتهديدات القريبة والمنخفضة، مثل المسيّرات الهجومية أو قذائف الهاون والصواريخ الموجهة نحو أهداف مدنية أو عسكرية. وتعتمد تركيا في هذا المستوى على مدافع “كوركوت” عيار 35 ملم المثبتة على عربات مدرعة، إلى جانب صواريخ “سونغور” (Sungur) المحمولة على الكتف، فضلا عن أنظمة أخرى. وتتيح هذه الأسلحة تحييد المسيّرات والمروحيات والصواريخ ضمن مجال بضعة كيلومترات، ما يوفر الحماية اللازمة للقواعد العسكرية والمدن.
ثاني طبقة هي الطبقة متوسطة المدى، مستهدفة الطائرات الهجومية المقاتلة وصواريخ الكروز والأهداف الأسرع والأعلى ارتفاعًا. وتضطلع منظومات “حصار” بهذا الدور، بنسختيها البرية والبحرية. وتتمتع هذه المنظومات بقدرة إصابة أهداف على ارتفاعات ومسافات متوسطة تصل إلى عشرات الكيلومترات، ما يجعلها قادرة على حماية مساحات واسعة ووحدات قتالية متحركة.
أما الثالثة؛ فهي الطبقة بعيدة المدى، وهنا تعتمد القبة على المنظومة الدفاعية التركية “سيبر” (Siper)، المصممة للتعامل مع التهديدات البعيدة والمعقدة، من مقاتلات تحلق في طبقات الجو العليا إلى المسيّرات الثقيلة والصواريخ الباليستية في مراحلها النهائية. وقد بدأت القوات المسلحة التركية فعلًا في تسلم النسخ الأولى، بينما يجري تطوير إصدارات أكثر تطورًا يُتوقع أن يصل مداها إلى 100 كيلومتر أو أكثر. وتمنح منظومة “سيبر” تركيا قدرات دفاعية مقاربة لمنظومتي “باتريوت” الأميركية و”إس-400″ الروسية، مع هدف أساسي هو حماية المدن والبنى التحتية الحيوية من التهديدات الكبرى.
المنظومة الدفاعية التركية “سيبر” (الأناضول)
القبة الفولاذية.. ابتكار يطارد التهديدات
رغم أن كل طبقة دفاعية في “القبة الفولاذية” تمتلك قدراتها الخاصة، فإن القوة الحقيقية للنظام تتجلى عند ربطها جميعًا ضمن شبكة موحدة متطورة. فالرادارات، ومنصات الإطلاق، ووحدات الاعتراض تحتاج إلى العمل بتكامل عبر نظام مركزي للقيادة والسيطرة.
إعلان
ولأن أساليب الهجوم الجوي الراهنة لم تعد تقتصر على هدف منفرد يسهل رصده واعتراضه، بل تطورت إلى مواجهة أسراب من المسيّرات منخفضة التكلفة أو وابل من الصواريخ يُطلق دفعة واحدة، فمثل تلك التهديدات تتجاوز قدرة أي مشغّل بشري على الاستجابة السريعة والفعالة. من هنا جاء الدور الحاسم للذكاء الاصطناعي في منظومة القيادة والسيطرة، إذ يتولى معالجة كميات هائلة من البيانات لحظة بلحظة، ويُنسّق بين مختلف طبقات الدفاع سريعًا.
وهنا يأتي دور منظومة “حكيم”؛ مركز قيادة وسيطرة يعتمد على برمجيات متطورة وتقنيات الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال؛ تشير معلومات شركة “أسيلسان” إلى أن منظومة “حكيم” يمكنها ربط الرادارات ومنظومات الدفاع الجوي المحلية بمصادر خارجية، مثل طائرات الناتو والسفن الحربية ومنظومة “إس-400” الروسية، لتؤسس شبكة موحّدة عابرة للأنظمة.
تدمج المنظومة البيانات الفورية من مختلف المستشعرات لإنتاج صورة جوية موحّدة، تمنح القادة رؤية شاملة ودقيقة للموقف في السماء. إذ تعتمد على خوارزميات متطورة لتقييم طبيعة التهديدات وترتيب أولوياتها، ثم توزيع مهام الاعتراض على المنظومات المناسبة، بما يضمن سرعة الاستجابة ودقة القرار في مواجهة أي هجوم جوي.
ومن الابتكارات اللافتة في فكرة “القبة الفولاذية” دخول الأنظمة غير المأهولة إلى ميدان الدفاع الجوي. ومن أبرزها منصة “غورز” (Gürz) وهي مركبة دفاعية يمكن تشغيلها من بُعد أو الاعتماد على عملها الذاتي بالكامل. فعلى عكس البطاريات الصاروخية التقليدية التي تتطلب طاقم تشغيل بشري، صُممت “غورز” لتعمل بحد أدنى من الإشراف البشري، فبإمكانها إعادة التموضع ذاتيًا، والتعامل مع التهديدات ضمن الشبكة الدفاعية فور ظهورها، وفقًا لما تذكره شركة أسيلسان.
بذلك تمثل منصة “غورز” جيلًا جديدًا من وحدات الدفاع الجوي القصيرة المدى الآلية بالكامل، وتكشف عن توجه أوسع لتوظيف الأنظمة غير المأهولة في عملية الدفاع، ولا تقتصر على الهجوم فحسب كما هو الحال مع استخدام المسيّرات. إذ يمكن نشر المنصة في مناطق عالية الخطورة دون تعريض الجنود للمخاطر المباشرة، مع الاستفادة من سرعة استجابتها بفضل ارتباطها المباشر بشبكة القيادة والسيطرة الموحدة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
منصة “غورز” (أرمي ريكوجنشن)
منظومة متكاملة
وفقا لتصريحات المدير العام لشركة أسيلسان فإن “التكامل بين المكونات التقليدية والأنظمة المستحدثة يجعل من القبة الفولاذية منظومة ديناميكية قابلة للتطوير والتحديث المستمر، وقادرة على مواجهة أخطر التهديدات الحديثة في بيئة جغرافية وأمنية معقدة بما فيها الطائرات المسيرة الصغيرة والصواريخ الجوالة والصواريخ الباليستية التكتيكية والهجمات السيبرانية”.
إذ لا تقتصر فكرة “القبة الفولاذية” على الصواريخ الاعتراضية وحدها، بل تُجهز أيضًا لمواجهة التهديد المتسارع للطائرات المسيّرة، ولهذا تُدمج تقنيات الحرب الإلكترونية مع الأسلحة الموجّهة بالطاقة. في تموز/تموز الماضي، كشفت شركة “أسيلسان” عن إدخال جيل جديد من الأنظمة الدفاعية ضمن منظومة “القبة الفولاذية”، وذلك استجابةً لتغير طبيعة التهديدات، وعلى رأسها “أسراب المسيّرات الصغيرة” و”الهجمات المتزامنة المعقدة”. ومن أبرز تلك الإضافات نظام “أجدرها”، وهو سلاح ليزري محلي الصنع يعتمد على الموجات الدقيقة لتحييد المسيّرات الصغيرة والطائرات الانتحارية بدقة وسرعة، خصوصا في المسافات القصيرة، مما يعزز قدرة حماية المنشآت الحيوية.
تدعم تلك المنظومات السابقة رادارات متطورة متعددة المهام، وتتميز بقدرتها على تتبع مئات الأهداف المختلفة، سواء كانت جوية أم برية أم بحرية، مع دقة عالية في الرصد والتصنيف. بالإضافة إلى أنظمة الحرب الإلكترونية “إخطار”، المصممة للكشف والتشويش على إشارات التحكم والتوجيه الخاصة بالطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة، مما يعطل قدرتها على إصابة الأهداف. كما تتوافر البنية السيبرانية الدفاعية اللازمة لتأمين حماية إلكترونية شاملة لبنية المنظومة، وتضمن استمرارية التشغيل عند التعرض لهجمات سيبرانية معقدة.
إعلان
هذا النمط من الدفاع الجوي يوازي ما يُعرف في الولايات المتحدة وحلف الناتو بالدفاع الجوي والصاروخي المتكامل، لكنه قد يكتسب في الحالة التركية دلالة خاصة، إذ يجري تطويره بالاعتماد على تقنيات محلية في المقام الأول، وبذلك يشكّل هذا المشروع محطة مفصلية في مسار أنقرة نحو بناء قدرات دفاعية مستقلة.
المقاتلة الشبحية الأميركية “إف-35” (غيتي إيميجز)
درع السيادة ورسائل التوقيت
قبل أقل من شهر على تسليم الدفعة الأولى من منظومة “القبة الفولاذية”، صدر تقرير عن أكاديمية الاستخبارات التركية تناول بالتفصيل وقائع حرب الاثني عشر يومًا بين إسرائيل وإيران، وهي المواجهة التي شكّلت اختبارًا عمليًا لنظم الدفاع والهجوم في المنطقة. وقد انتهى التقرير بجملة توصيات أبرزها ضرورة أن تعمل أنقرة على بناء منظومة دفاع جوي متعددة الطبقات، تحسبًا لأي مواجهة عسكرية محتملة مع تل أبيب، ولضمان سد الثغرات التي أظهرتها تلك الحرب في موازين القوى الدفاعية.
ورغم أن مشروع “القبة الفولاذية” كان قد قررته أنقرة منذ آب/ آب 2024، وقبل ذلك بدأ العمل في بعض المكونات التي أدمجت فيه منذ عام 2018، إلا أن توصيات الدراسة الأخيرة تطابقت مع أهداف القبة الفولاذية واعتبرتها أحد أهم الأركان الدفاعية التي يجب أن تمتلكها تركيا استعدادا لأي تدهور أمني وعسكري في الإقليم أو أي مواجهة قد تقع مع اسرائيل.
بيد أن مشروع “القبة الفولاذية” لا يتوقف عند بعده العسكري أو التقني، بل يتجاوز ذلك ليحمل أبعادًا دبلوماسية وإستراتيجية أوسع. فمشاركة تركيا في مبادرة “الدرع الجوي الأوروبي” –وهو إطار تعاون متعدد الجنسية لتطوير قدرات دفاع جوي مشتركة– تعكس رغبة أنقرة في الانخراط ضمن مشاريع الأمن الجماعي، والاستفادة من خبرات الحلفاء، وفي الوقت نفسه الإسهام في صياغة مفاهيم دفاعية جديدة داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد حرص الرئيس رجب طيب أردوغان على التأكيد أن بلاده تعمل على إتاحة أنظمتها الدفاعية لحلفائها وأصدقائها، معتبرًا أن ذلك يعزز النشاط الدبلوماسي التركي ويضيف إلى نفوذها السياسي.
في المقابل، فإن امتلاك تركيا درعًا متكاملًا خاصًا بها يمنحها قدرًا أكبر من الاستقلالية، ويقلّص اعتمادها الكامل على قدرات الناتو في بعض السيناريوهات الحساسة. فالتجربة التاريخية لا تزال حاضرة في ذاكرة صانعي القرار؛ ففي العقد الأول من الألفية، حاولت أنقرة مرارًا شراء بطاريات الدفاع الصاروخي الأميركية “باتريوت” لتأمين أجوائها، لكنها قوبلت بالرفض بسبب خلافات جيوسياسية عميقة مع واشنطن. هذا الرفض دفع تركيا عام 2019 إلى اتخاذ خطوة مثيرة للجدل بشراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية “إس-400″، وهو القرار الذي ترتب عليه استبعادها من برنامج المقاتلة الشبحية الأميركية “إف-35” كإجراء عقابي، ما شكّل ضربة إستراتيجية لطموحاتها الجوية.
تلك التجربة رسخت لدى القيادة التركية قناعة راسخة مفادها أنه إذا أرادت أنقرة درعًا جويًا موثوقًا يضمن حمايتها في بيئة إقليمية معقدة، فلا بد أن تبنيه بقدراتها الذاتية. من هنا، جاء تطوير “القبة الفولاذية” بوصفه خطوة فارقة تضع تركيا في موقع مختلف، إذ تمنحها استقلالية أكبر في إطار الناتو، وتمكّنها ليس فقط من تقليل اعتمادها على المنظومات الغربية، بل من أن تكون مصدّرًا للأمن الدفاعي داخل الحلف. وفي هذا السياق، سعى المسؤولون الأتراك إلى طمأنة الحلفاء بأن المنظومة الجديدة ستكون متوافقة مع أنظمة الناتو الدفاعية، وقابلة للتشغيل البيني، بما يضمن تكاملها ضمن بنية الأمن الجماعي للحلف، ويجنّب أنقرة أي اتهامات بتكرار سيناريو “إس-400”.
الصورة الأوسع للصعود العسكري التركي
في نهاية شهر آب/آب الماضي، عقد في أنقرة مؤتمر دولي حمل عنوان “من الجذور إلى الآفاق: قصة صعود الصناعات الدفاعية التركية”، نظمته دائرة الاتصال في رئاسة الجمهورية التركية. وقد شكّل المؤتمر مناسبة لاستعراض الإنجازات التي حققتها أنقرة في بناء قاعدة صناعية عسكرية متكاملة، ولإبراز التحول الإستراتيجي الذي نقلها من خانة المستورد إلى خانة المنتج والمصدّر الفاعل في أسواق السلاح العالمية. حضر المؤتمر مسؤولون حكوميون بارزون إلى جانب قادة كبرى الشركات العاملة في قطاع الصناعات الدفاعية، في إشارة واضحة إلى أن المشروع لم يعد مجرد بعد اقتصادي أو أمني، بل صار ركيزة من ركائز رؤية تركيا لمكانتها الدولية.
إعلان
أكد المسؤولون الأتراك خلال جلسات المؤتمر أن نسبة الاكتفاء الذاتي في قطاع الصناعات الدفاعية وصلت إلى نحو 83%، وهو رقم يعكس حجم القفزة مقارنة بالعقود الماضية. ويستند هذا النجاح إلى شبكة وطنية واسعة تضم أكثر من 3500 شركة توظف ما يقارب 100 ألف موظف من مهندسين وفنيين وخبراء، يعملون في تنفيذ وتطوير ما يزيد على 1380 مشروعًا محليًا.
وفي جانب الصادرات، أشار المشاركون إلى أن صادرات الدفاع والطيران التركي تجاوزت 7.1 مليارات دولار في عام 2024، مسجلة زيادة بلغت 29% مقارنة بالعام السابق. وتُعزى هذه الطفرة –بحسب الخطاب الرسمي– إلى الاعتماد المتزايد على حلول وطنية متقدمة تشمل تقنيات الذكاء الاصطناعي، أنظمة الحرب الإلكترونية، الهندسة عالية المستوى، إضافة إلى برامج الفضاء. هذه العوامل مجتمعة عززت قدرة الشركات التركية على المنافسة في الأسواق العالمية التي تبحث عن بدائل أقل تكلفة وأكثر مرونة من المنظومات الغربية.
أما على صعيد تطوير الأسلحة النوعية، فقد أوضح المدير العام لشركة “توساش” أن مشروع المقاتلة الشبح “قآن” يواصل تقدمه بخطوات ثابتة، مع خطة لتحليق النموذج الثاني في نيسان/نيسان 2026، بما يمثّل نقلة كبرى في مسار الصناعات الجوية التركية. كما استعرض مشروع الطائرة المسيّرة النفاثة “عنقاء-3″، مشيرًا إلى خصوصية تصميمها الذي تطلّب تجاوز تحديات هندسية بالغة التعقيد. ووفق ما طرحه مسؤولو الشركة، فإن هذه المشاريع تضع تركيا على مسار الانضمام إلى نادي الدول الرائدة في تطوير مقاتلات الجيل السادس، وهو ما سيساهم في سد الفجوة القائمة مع القوى الكبرى في مجال الطيران الحربي.
من جانبه، أعلن المدير العام لشركة “روكيتسان” أن شركته أنتجت الصواريخ الأساسية لمنظومة “القبة الفولاذية”، إلى جانب تطوير الصاروخ الباليستي بعيد المدى “طيفون”، وهو ما يشكل نقلة في قدرات الردع بعيدة المدى لتركيا.
أما شركة “بايكار” فقد استعرضت سلسلة من إنجازاتها التي رسخت حضورها عالميًا، بدءًا من المسيرة “بيرقدار تي بي 2” التي أصبحت رمزًا للتكنولوجيا التركية الحديثة، وصولًا إلى المسيرة الثقيلة “آقنجي” التي أثبتت فعاليتها في أكثر من ساحة حرب، بما فيها أوكرانيا. كما جرى تسليط الضوء على المقاتلة النفاثة “قزل إلما” التي يُنتظر أن تدخل الخدمة على متن السفينة البرمائية “أناضولو”، لتمنح تركيا قدرة إسقاط قوة بحرية وجوية متقدمة. وأكد مسؤولو الشركة أن النجاحات العملياتية لهذه المسيرات –من الشرق الأوسط إلى أوروبا الشرقية– رسخت مكانة تركيا كأحد أبرز مصدّري الطائرات المسيرة عالميًا، مشيرين إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي لتنسيق أسراب من المسيّرات في مهام قتالية مشتركة.
وبالعودة إلى المشهد العام، فإن العقدين الماضيين شهدا تحولًا جذريًا في مسار الصناعات الدفاعية التركية. فبعد أن كانت أنقرة تعتمد بصورة شبه كاملة على الاستيراد الخارجي لتلبية احتياجاتها العسكرية، أصبحت اليوم في موقع المصدّر الذي تنافس منتجاته في أسواق متعددة. ويؤكد مسؤولو الدفاع أن تركيا صارت الأولى عالميًا في تطوير ذخائر المسيّرات الذكية، بفضل قدرتها على تزويد طائراتها بمجموعة متنوعة من الأسلحة، تشمل الصواريخ المضادة للدروع، وصواريخ جو–جو، وصواريخ كروز فرط صوتية.
وصورة عامة؛ تؤشر هذه التطورات إلى رؤية إستراتيجية أوسع تسعى منها أنقرة إلى تعزيز استقلالها العسكري وتقليص اعتمادها على شركاء الخارج، مع تحويل الصناعات الدفاعية إلى رافعة للنفوذ السياسي والاقتصادي. فالصادرات العسكرية لم تعد تدر أرباحًا مالية فحسب، بل باتت أداة دبلوماسية تمنح تركيا قدرة على التغلغل في أسواق وتحالفات جديدة، وتفتح أمامها مساحات أوسع للمناورة على الخريطة الجيوسياسية العالمية.
“ليست البراعة أن تنتصر في مئة معركة، بل أسمى درجات البراعة أن تُخضع عدوك دون قتال”.
الفيلسوف والمنظر العسكري صن تزو – من كتاب فن الحرب
في يوم الجمعة الموافق 20 حزيران/حزيران الماضي، وقرب شعاب سكاربورو المتنازع عليها في بحر جنوب الصين، واجهت سفينة حرس حدود صينية سفينة حكومية فلبينية.
ووفقا للرواية الصينية، أُطلق تحذير واضح للسفينة الفلبينية عبر اللاسلكي بمغادرة المنطقة فورا، لكن السفينة الفلبينية تجاهلت النداء، مما دفع السفينة الصينية لإطلاق تيار مياه عالي الضغط، من مدفع المياه على متنها، ليقذف السفينة الأخرى بعيدًا.
لم يكن هذا المشهد سوى فصل جديد في سلسلة متصاعدة من المواجهات، حيث تهاجم سفن صينية قوارب وسفنا تابعة للدول التي تنازعها السيطرة على بحر جنوب الصين، وتدفعها للتراجع باستخدام مدافع المياه.
فقبل تلك الحادثة بأسابيع، شهدت منطقة قريبة من جزيرة “ساندي كاي” (وهي موطن نزاع بين بكين ومانيلا أيضا) حادثًا مشابهًا، حين أطلقت سفينة خفر سواحل صينية مدفع مياه تجاه سفينة أبحاث فلبينية، مما أدى إلى تصاعد التوتر الدبلوماسي بين البلدين.
غالبا ما تعتمد قوات خفر السواحل حول العالم على “القوة غير المميتة”، ومنها مدافع المياه عالية الضغط، لردع المنظمات الإجرامية العابرة للحدود، بمن في ذلك القراصنة ومهربو المخدرات وتجار الأسلحة والمتاجرون بالبشر، مما يسهل عملية إيقاف القطع البحرية المشتبه بها والصعود إليها وتفتيشها.
لكن الصين وحدها توسع استخدام هذا النوع من الأسلحة غير المميتة بما يتجاوز أغراضها الشائعة، إذ يذكر كيفن إديس، المحلل في مجال الأمن البحري، بأنه لا توجد قوة خفر سواحل باستثناء الصين تستخدم مدافع المياه ضد سفنٍ حكومية تابعة لدولٍ أخرى. إذ يعمد خفر السواحل الصيني إلى توجيه مدافع المياه عالية الضغط نحو السفن المعادية، مستهدفًا سفنًا من الفلبين وفيتنام على وجه الخصوص في المناطق المتنازع عليها ببحر جنوب الصين.
إعلان
لفعل ذلك، وضعت الصين إطارا قانونيا خاصا يبرر هذا النوع من العمليات. ففي كانون الثاني/كانون الثاني عام 2021، أقرّت بكين قانونًا لخفر السواحل يمنحه صلاحية اتخاذ جميع التدابير اللازمة، بما فيها استخدام الأسلحة، ضد السفن التي تُصنَّف بأنها “تنتهك السيادة الصينية” عبر الإبحار في المياه المتنازع عليها. ومؤخرًا أصبحت مدافع المياه هي التكتيك المفضل ضمن تكتيكات الحرب الرمادية الصينية، خاصة مع إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين دقة تلك المدافع.
تعرف الحرب الرمادية بأنها ذلك النوع من الصراعات التي تقع في منطقة وسيطة بين الحرب الشاملة والسلام، وتنطوي على عمليات غير عسكرية مثل التجسس والتخريب وتقويض سلاسل الإمداد ومنع الوصول، تماما كما تفعل الصين مع خصومها في البحار.
وتتعامل بكين على نحو متزايد مع أدوات مثل مدافع المياه باعتبارها ضرورية لتعزيز قبضتها على المناطق البحرية المتنازع عليها في بحر جنوب الصين، مع تقليل احتمالات اندلاع اشتباكات مسلّحة.
وبحسب باحثين مطلعين، يُتوقع أن يتصاعد تكرار وشدة استخدام مدافع المياه في بحر جنوب الصين. ويرى هؤلاء أن مدفع مياه قوي –لا سيما حين تدعمه دقة الذكاء الاصطناعي– يمثل الأداة الأنسب لتوفير “قوة محسوبة”، وفي الوقت نفسه “رادعة” للخصوم من دون إيقاع خسائر بشرية، مما يخفض خطر اندلاع النزاعات الكبرى أو الحرب الشاملة.
مدافع مياه بالذكاء الاصطناعي
من الناحية التقنية لا يعد مدفع المياه سلاحا فتاكا، فهو جهاز ثابت أو قابل للتوجيه، موصول بخط الإطفاء الرئيسي على متن السفينة، ومُصمَّم لإطلاق تيارٍ مياه عالي الضغط. ويبلغ معدل التدفق النموذجي للمدفع نحو 20 لترًا في الثانية، وغالبا ما يُستخدم للترهيب والتشتيت والإرباك للسفن المعادية.
ولكن في بعض السيناريوهات، قد يتسبب ارتفاع ضغط الارتطام في تلف المعدات الخارجية أو إلحاق إصابات جسيمة بالأفراد المعرضين لتيار المياه مباشرة.
وبعيدا عن القدرات الميكانيكية التقليدية لمدافع المياه، يستند الجيل الأحدث لخراطيم المياه الصينية إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يمنحها قدرة دقيقة على التحكم والتصويب. وتتيح هذه الابتكارات لبكين ميزة تقنية نوعية، تجعل استجابتها أسرع وأكثر فاعلية مقارنة بمنافسيها.
وفي نيسان/نيسان عام 2024، أعلن باحثون في معهد ووهان لأبحاث الدفع الكهربائي البحري عن تطوير “أول مدفع مياه ذكي في العالم بالذكاء الاصطناعي”، ويُعدّ المعهد البحثي أبرز مورّد لمعدات الدفع الكهربائي المخصصة للسفن الحربية في الأسطول البحري الصيني، ويتولى إدارة مجموعة من المختبرات الرائدة في تطوير التكنولوجيا البحرية المتقدم.
يهدف النظام الذكي إلى زيادة دقة وفعالية هذه الاشتباكات غير القاتلة، وهو مزوّد بكاميرا كهروضوئية ومستشعرات حركة، تمكّنه من تتبع السفن واستهدافها تلقائيًا وسط الأمواج المتلاطمة، مع القدرة على تثبيت خرطوم المياه على الهدف وضبط قوة واتجاه تدفق المياه في الوقت الفعلي وفق حركة السفينة المعادية.
إعلان
ويطلق المدفع تيار مياه عالي الضغط بمدى يتجاوز 100 متر، خالقا ضغطا (الضغط فيزيائيا هو مقدار القوة العمودية المؤثرة على مساحة ما) يتجاوز 1.2 ميغاباسكال. للتقريب فإن ذلك يشبه أن يتعرض شخص للدهس بكتلة تعادل 9 أطنان، وهو وزن فيل أفريقي ضخم، مما يعني أن المدفع قادر -في أدنى الأحوال- على إيقاف أو دفع أي جسم أو شخص يعترض طريقه.
وأظهرت التجارب الصينية أن المدفع أصاب أهدافه بهامش خطأ لا يتجاوز مترين، حتى في ظروف صعبة تشمل رياحًا عاتية وأمواجًا بارتفاع 4 أمتار. ووفقًا للفريق البحثي الصيني، تمثل تلك النتيجة تحسنًا في الدقة بنسبة تتراوح بين 33% و54% مقارنة بمدافع المياه التقليدية.
ومن خلال تحسين الدقة، خصوصًا في البحار المتقلبة التي تقوّض فاعلية مدافع المياه التقليدية، يهدف النظام الذكي إلى تمكين السفن الصينية من إصابة أهدافها بدقة من دون اللجوء إلى استخدام الرصاص.
نتيجة لذلك، خلص تقرير أعدّه فريق الباحثين بأكاديمية الشرطة البحرية الصينية، أن نشر هذه المدافع الذكية يرسّخ حضور الصين في المناطق المتنازع عليها، بوصفها أدوات حاسمة تمنح قواتها البحرية تفوّقًا ميدانيًا وقدرة على “إخضاع العدو دون قتال”، انسجامًا مع إستراتيجيات الجنرال والفيلسوف العسكري التاريخي صن تزو -مؤلف كتاب فن الحرب- التي تهدف إلى تحقيق النصر من دون خوض حرب شاملة.
تصاعد المواجهات
ولأن كافة الأطراف المتنازعة “تتمسك بكل شبر من أراضيها وترفض التنازل عنه”، حذّر التقرير الصيني السابق الإشارة إليه من أن اللجوء إلى الأسلحة التقليدية المميتة في مناوشات محدودة قد يدفع نحو تصعيدها إلى نزاعات مسلّحة واسعة النطاق، وهو سيناريو لا ترغب الصين، ولا سائر دول الجوار في بحر جنوب الصين، في حدوثه.
خريطة لتايوان والبر الرئيسي للصين و”خط الوسط” بينهما (الجزيرة)
وذكر التقرير أن “الأسلحة غير المميتة لا تؤدي مباشرةً إلى وفاة الأفراد أو تدمير المعدات أو الإضرار بالبيئة، بل تعتمد وسائل تقنية محددة لحرمان الأفراد أو المعدات لدى الطرف الآخر من الفاعلية القتالية، محققة هدف قهر العدو دون قتال”، وهو ما يمكن الصين من تحقيق أهدافها في السيطرة البحرية خاصة في بحر جنوب الصين.
تشهد هذه المنطقة توترا متصاعدا منذ عام 2012، حين سيطرت الصين على شعاب سكاربورو –الغنية بمصائد الأسماك والواقعة على بعد 120 ميلا بحريًا من الفلبين. وبحلول عام 2014، كانت بكين تعمل على ترسيخ سيطرتها من خلال إبعاد الصيادين الفلبينيين فعليًا عن المنطقة.
وفي 27 كانون الثاني/كانون الثاني 2014، طردت سفينة تابعة لخفر السواحل الصيني مجموعة صيادين فلبينيين احتموا بشعاب سكاربورو، بعدما رشّت قواربهم الصغيرة بتيارات مياه عالية الضغط. أثار الحادث احتجاجًا رسميًا من مانيلا، التي حذرت من أن هذا النوع من المضايقات “يؤجج التوتر في المنطقة ويهدد السلام والاستقرار”، كما أوردت وكالة رويترز حينها.
من جانبها، رفضت وزارة الخارجية الصينية تلك الشكوى بصورة قاطعة، قائلة إن السفن الصينية كانت تطبق القوانين الوطنية في مياه تقع ضمن “الولاية القضائية الصينية”. وقد شكّل حادث مدفع المياه في سكاربورو إحدى أوائل حالات الاستخدام البارز للقوة غير المميتة في هذا النزاع، مرسلا رسالة واضحة مفادها أن الصين عازمة على فرض سيادتها على هذه المياه بصورة نهائية.
إعلان
وفي 16 تشرين الثاني/تشرين الثاني عام 2021، وبعد فترة من الهدوء النسبي، أعادت الصين تفعيل تكتيك مدافع المياه ضد الفلبين، بعدما اعترضت 3 سفن تابعة لخفر السواحل الصيني قاربين فلبينيين مدنيين، مستأجرين لنقل الغذاء والماء إلى وحدة بحرية فلبينية عند شعاب توماس الثانية، وأطلقت عليهما تيارات مياه عالية الضغط أجبرتهما على التراجع. ورغم أن الحادثة لم تسفر عن إصابات، فإنها مثلت تصعيدًا لافتًا في مساعي بكين لعرقلة وصول الإمدادات إلى الموقع العسكري الفلبيني.
تسارعت وتيرة المواجهات لاحقا، وفي آب/آب 2023، أطلقت سفينة خفر سواحل صينية مدفع مياه على قارب إمداد فلبيني متجه إلى شعاب توماس الثانية، فمزقت قوة المياه هيكل القارب الخشبي وأغرقت أجهزة الملاحة، مما أجبره على التراجع. وصفت الحكومة الفلبينية الحادثة بأنها غير قانونية وخطرة، فيما سارعت الولايات المتحدة لإدانة “تصرفات بكين الخطرة” وتأكيد التزامها بدعم مانيلا.
مع اقتراب عام 2023 من نهايته، بلغت المواجهات البحرية بين الصين والفلبين مستوى لم يشهد مثله منذ سنوات. ففي 22 تشرين الأول/تشرين الأول، وقعت أخطر الحوادث قرب شعاب توماس الثانية، حين اصطدمت سفن الطرفين بشكل مباشر. أظهر مقطع مصوّر لخفر السواحل الفلبيني سفينة صينية وهي تعترض مسار قارب إمداد فلبيني أصغر بكثير، مما أدى إلى تمزيق أجزاء من ذراع التوازن وهيكل القارب، وفقًا لوكالة أسوشيتد برس.
وفي آذار/آذار عام 2024، وفي نفس المنطقة السابقة، استخدمت سفن خفر السواحل الصيني مدافع المياه واصطدمت بمهمة إمداد فلبينية متجهة إلى السفينة “سييرا مادري”، مما أدى إلى إصابة بعض أفراد طواقم السفن الفلبينية وألحق بها أضرارًا واضحة.
تشير هذه الوقائع، وغيرها أن مدافع المياه أصبحت تكتيكا صينيا مفضلا في هذا النوع من المواجهات وأن بكين تستخدمه بجرأة ملحوظة، أحد أسباب ذلك هو القانون الدولي لا يعدّ هذا النوع من الهجمات “هجوما مسلحا” وهو ما يقلل من تكاليف هذه الأنشطة دبلوماسيا على بكين ويقلص كذلك من الاهتمام الإعلامي بها.
والأهم من ذلك، أن هذه الهجمات تظل منخفضة المستوى بشكل لا يسمع بتفعيل المعاهدات الدفاعية خاصة معاهدة الدفاع المتبادل بين الولايات المتحدة والفلبين “MDT” واتفاقية التعاون الدفاعي المعزز “EDCA” المكملة لها.
تكتيكات الحرب الرمادية
يشير المحلل كيفن إديس في تقريره لموقع “سي لايت” المتخصص في رصد الصراعات البحرية إلى أن استخدام الصين لمدافع المياه يندرج ضمن “تكتيكات حرب المنطقة الرمادية” التي توفر وسيلة فعّالة لفرض سيادتها البحرية، مع تقليل التكاليف السياسية والدبلوماسية.
كما أنها تضع خصومها أمام معضلة في الرد. ومن خلال الاعتماد على سفن خفر السواحل و”المليشيات البحرية” -أي السفن غير النظامية- بدلا من القطع الحربية، تمضي بكين في فرض مطالبها وهي تحافظ على هامش الإنكار وتتجنب الظهور بمظهر المعتدي العسكري المباشر، وفق التقرير.
تستثمر الصين بشكل ملحوظ في هذا النوع من القدرات. يشير تقرير صادر عام 2024 من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) إلى أن “خفر السواحل الصيني يظل الفاعل الحكومي المهيمن في المياه المتنازع عليها ببحر جنوب الصين” مشيرًا إلى الدور المحوري لهذه القوة في عمليات الصين السلمية لبسط سيطرتها على تلك المناطق. ووفق التقرير، غالبا ما ترافق تلك السفن أساطيل من قوارب الصيد المدنية التي تعمل كـ”مليشيات بحرية”، لتشكّل معًا خط المواجهة الأول في مناطق مثل شعاب سكاربورو وجزر سبراتلي.
لفعل ذلك، عززت بكين القدرات الميدانية لخفر سواحلها، من خلال إدخال سفن جديدة ضخمة قادرة على إزاحة ما بين 10 آلاف و12 ألف طن من المياه (وهو رقم هائل وغير مسبوق عالميا على صعيد قدرات خفر السواحل) بجانب أسطولها الحالي من سفن الدوريات الصغيرة والمتوسطة. ففي عام 2016، أطلقت الصين السفينة “سي سي جي – 3901” بوزن يتجاوز 12 ألف طن، لتصبح أكبر سفينة خفر سواحل في العالم، متفوقة على الطرّاد الأميركي من فئة “تيكونديروجا”.
إعلان
تزود هذه السفن الصينية بمدافع مياه ثقيلة وهياكل مدعمة للاصطدام، تمنحها تفوقًا ميدانيًا واضحًا، إذ لا تملك القوارب الفلبينية أو الفيتنامية الصغيرة سوى خيار الانسحاب أو المخاطرة بالغرق أمام سفينة عملاقة. وتشير التقارير إلى امتلاك الصين لأكثر من 150 سفينة خفر سواحل كبيرة، يتجاوز وزن الكثير منها ألف طن، مما يضمن سيطرة واسعة على الشعاب والمياه المتنازع عليها.
في الوقت الراهن، تبدو الصين عازمة على توظيف كل أداة متاحة في ترسانتها، من دون الانزلاق إلى استخدام القوة القاتلة، لترسيخ نفوذها في بحر جنوب الصين. وتحتل مدافع المياه القوية، المزودة حديثا بتقنيات الذكاء الاصطناعي، موقعًا محوريًا في هذه الترسانة. تعتمد الإستراتيجية على مبدأ الترهيب، عبر رفع كلفة المقاومة إلى حد يدفع الخصوم إلى الإذعان دون مواجهة مباشرة، تجسيدًا لما قاله صن تزو حول البراعة التي تعني إخضاع العدو دون قتال.