مصر والسودان بعد تشغيل سدّ النهضة

تسعى مصر والسودان إلى صياغة موقف موحد، وخطوات منسقة في مواجهة أزمة سد النهضة، ضمن شراكة بينهما، وإلزم إثيوبيا باتفاق يحول دون الإضرار البالغ لهما، وبعد الإعلان في تموز/ تموز الماضي عن اكتمال السد وافتتاحه رسمياً أمس، 9 أيلول/ أيلول الجاري، كثف البلدان اتصالاتها وعملا على تفعيل آليات التنسيق على مستوى الوزراء واللجان الفنية، كما نشطت الهيئة المشتركة لمياه النيل المنبثقة عن اتفاقية 1959، والتمسك بها مع اتفاقية 1929 أساساً قانونيّاً، لمخاطبة الهيئات الدولية والإقليمية بشأن حصّتي مصر والسودان المائية (55 مليار متر مكعب و18 مليار متر مكعب على التوالي). وضمن تأكيد وحدة المواقف، واصلت آلية التشاور (2+2) عملها بعقد اجتماعها الثاني في القاهرة 3 أيلول/ أيلول، بحضور وزيري الري والخارجية للبلدين، وإعلانهما تكثيف العمل المشترك مع دول مبادرة حوض النيل لاستعادة التوافق وعودة المبادرة إلى مبادئها التأسيسية إطاراً يخدم مصالح جميع دول الحوض، في مواجهة مساعي إثيوبيا إلى عقد اتفاقيات ثنائية أو بناء تحالفات تعزلهما، وتضرّ مصالح البلدين. وقد تجاوزت محاولات سابقة لتعميق خلافات بينهما ارتبطت، في جانب منها، بالصراع السياسي في السودان، وليس بعيداً عن محاولات إيجاد اختلافاتٍ بين القاهرة والخرطوم، ما نشر وبدا تسريباً عن توقيع الأخيرة اتفاقا مع أديس أبابا حول السد في تشرين الأول/ تشرين الأول 2022.

ومن أجل مآذارة أقصى ضغط على إثيوبيا، سرّعت القاهرة تحرّكها الدبلوماسي، وسعت إلى توسيع حضورها في شرق أفريقيا، وتعزيز علاقاتها بدول حوض النيل إلى جانب توظيف صلاتها بقوى عربية ودولية، جاء ذلك خلال استعداد أديس أبابا لافتتاح السد بحضور دولي وإقليمي، في خطوةٍ تهدف إلى تكريس صورة المشروع باعتباره رمزاً للتنمية والسيادة والشراكة.

ستظلّ مصر أمام خيارين صعبين: التكيف مع الأمر الواقع ودفع ثمن تحكّم إثيوبيا في النيل، ومتابعة التداعيات، ومنها نقص تدفق المياه، أو الانزلاق إلى مواجهة مباشرة

وإزاء هذا الحدث الذي يتّخذ بعداً رمزياً، بعثت القاهرة رسائل واضحة برفض الإجراءات الأحادية، وفي مقدّمها تشغيل السد وتدشينه، من دون التوصل إلى اتفاقٍ ملزم، ويأتي تكرار ذلك بهدف ألا يمرّ الافتتاح الرسمي، من دون اعتراض، يعيد إثارة مشكلة السد مجدّداً على الساحة الدولية، ما يحدّ من مساعي إثيوبيا إلى تحقيق مكسب سياسي، ويقلّل من مباركة الأطراف الإقليمية والأفريقية الخطوة. وقد اعتبرت أصواتٌ إثيوبية أن القاهرة، بموقفها الرافض، حاولت تعطيل الافتتاح، وأن التأجيل قد يصبّ في مصلحة القاهرة، ويمنحها فرصة لكسب وقت، لكن رفض تشغيل السد من دون اتفاقٍ مع دولتي المصبّ لا يقتصر على تسجيل موقف، ولكنه أيضاً خطوة تمهيد لإعادة تدويل الأزمة، بعد أن أفشلت إثيوبيا محاولات سابقة (2020-2021)، انتهت بإحالة مجلس الأمن الملف إلى الاتحاد الأفريقي والشروع في مفاوضاتٍ من دون جدوى.

وبعد اكتمال بناء السد، وجّه رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في كلمته في مجلس النواب (3 تموز/ تموز) دعوة إلى مصر والسودان للمشاركة في حفل الافتتاح، غرضها الحقيقي دفع دولتي المصب إلى التسليم بالمسار الذي أفضت إليه جولات المفاوضات، وتصويره فرصة للتعاون وليس تهديداً، في حين ترى القاهرة في المقابل المشروع ضمن ضغوطٍ تآذار عليها وإقرار معادلة جديدة في إدارة مياه النيل.

وتقدّم إثيوبيا السد داخلياً دليلاً على السيادة والتحرّر الوطني، ومشروعاً جامعاً موحّداً للإثيوبيين، يعود بمليار دولار سنويّاً من عوائد الكهرباء، بجانب فوائد مشروعات زراعية واستصلاح تعزز الأمن الغذائي، ويروّج مشروعاً للوحدة والتحدّي وتجاوز الصعاب، ويعكس الاستقلال وتقديم التضحيات، وأفريقيا (وعلى مستوى دولي) تقدّمه إطاراً للتكامل الإقليمي، ونموذجاً قابلاً للتكرار في حوض النيل، بالاستفادة من خبراتها، وتقدّم سردية، أنها تغلبت على العقلية الاستعمارية التي منعت استغلال مواردها الطبيعية قروناً، على اعتبار أن النيل الأزرق ملكٌ لها، ينبع من أراضيها، وترفض الاتفاقيات التي تقرّر الحصص المائية بوصفها “استعمارية” لذلك تستند إلى اتفاقية عنتيبي 2010 لإيجاد طريق جديد، تعتبره يضمن الاستخدام العادل للمياه، بينما يمكنها عملياً احتجاز جزء من حصّتي مصر والسودان (المحدودة) بعد بناء السد في تهديد حقيقي للأمن المائي، بينما تصوّر إثيوبيا السد “نموذجاً للاعتماد الأفريقي على الذات”، يطيح المعاهدات الاستعمارية ومساعي الهيمنة.

تحرص مصر على نزع الشرعية عن سد النهضة بوصفه مخالفاً للقانون الدولي ومصدراً للنزاع يهدّد الاستقرار. وتؤكّد أن الأزمة لا تزال قائمة

في المقابل، تحرص مصر على نزع الشرعية عن السد بوصفه مخالفاً للقانون الدولي ومصدراً للنزاع يهدّد الاستقرار. وتؤكّد أن الأزمة لا تزال قائمة، وأن انتهاج سياسة فرض الأمر الواقع لن يُلغي حقوقها التاريخية، أو يدفعها إلى التسليم. وترد القاهرة بخطابٍ مضادٍّ، يعتبر المشروع إطاراً للنزاع، وأنه يفتقد لاتفاق يضمن التشغيل الآمن وعدم إلحاق ضرر لدولتي المصبّ. وتؤكد القاهرة أن السد يمثل مشروعاً سياسيّاً يهدف إلى مآذارة ضغوط عليها، وأن تمريره من دون اتفاق سيفتح الباب لأزماتٍ مائيةٍ أخرى. لذا توظّف مصر أدواتها الدبلوماسية والسياسية والأمنية، بما في ذلك تكثيف اتصالاتها بأطراف عربية وإقليمية ودولية، وتعزيز علاقاتها مع دولٍ أفريقية.

ويعد الخطاب المشترك بين القاهرة والخرطوم خطوة تمهيدية لإعادة تدويل ملف الأزمة، بعد عقد من فشل المفاوضات منذ توقيع إعلان المبادئ 2015 والذى كان محطة غيرت فيها مصر موقفها من رفض السد إلى السعي لاتفاق ملزم بشأن الملء والتشغيل، واليوم ليس أمامها سوى أن تحاول، مرّة أخرى، تدويل القضية والتوجّه إلى كل الهيئات الدولية والإقليمية، مع السعي إلى تحقيق ضغوط دبلوماسية على إثيوبيا. وفي هذا السياق، أسّست مصر آلية للتشاور مع السودان (شباط/ شباط 2025) وأخرى مع أوغندا (كانون الأول/ كانون الأول 2024) تركز على إدارة مياه النيل والتعاون الأمني والمشروعات التنموية، وعقد اجتماعها الثاني في آب/ آب، وخلالها أعلنت القاهرة استعدادها لتمويل مشروع سدٍّ بين أوغندا وكينيا بقيمة مائة مليون دولار، في خطوةٍ تعكس الجمع بين العلاقة السياسية وجذب الأطراف وتقديم حوافز تنموية ضمن استراتيجية أوسع لكسب حلفاء. وخلال زيارة الوفد المصري، نقل وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، رسالة إلى الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، إن القاهرة ستتخذ كل الإجراءات لحماية أمنها المائي، في رسالة إلى أديس أبابا، وحثّ أوغندا على لحوار والوساطة، ورفضها استخدام السدّ أداة ضغط.

تقدّم إثيوبيا السد داخلياً دليلاً على السيادة والتحرّر الوطني، ومشروعاً جامعاً موحّداً للإثيوبيين

وفي إطار سعيها إلى تعزيز نفوذها في شرق أفريقيا، تقدّم القاهرة نفسها طرفاً داعماً لوحدة أراضي السودان والصومال، ورافضةً أي مساس بجيبوتي وإريتريا، معتبرة أن أمن القرن الأفريقي جزءٌ من أمنها القومي. وجاءت مشاركتها في بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال استناداً إلى تفويض أممي، بما منحها غطاءً شرعيّاً لوجود عسكري- سياسي في منطقة حسّاسة لإثيوبيا، وربط أمن البحر الأحمر بملف المياه والنزاع حول سد النهضة. لذلك، لم يكن مستغرباً أن تعتبر أديس أبابا هذا الوجود تهديداً لموازين القوى في جوارها، خصوصاً وأنه تزامن مع توقيع بروتوكول دفاعي مع مقديشو، يُنظر إليه إسناداً في مواجهة مساعي إثيوبيا للحصول على منفذ بحري عبر اتفاقها مع إقليم صومالي لاند الانفصالي، والذى سبّب توتّراً بين البلدين، تحاول إصلاحه أديس ابابا، لكن مطلبها بميناء يبقى مسعىً يتجاوز الأبعاد الاقتصادية إلى أهداف استراتيجية، أبرزها تأمين وجود عسكري على البحر الأحمر، بعد إعادة تفعيل قواتها البحرية عام 2018، بما يضعها طرفاً مؤثّراً في معادلة الأمن الإقليمي.

وارتباطاً بملف القرن الأفريقي، تتحرّك القاهرة عبر مشاورات مع الرياض لتأسيس قوة بحرية عربية– أفريقية، بما يعزّز حضورها في معادلات الأمن الإقليمي ويمنحها أوراق ضغط إضافية. وكان لقاء قيادات من القوات البحرية في البلدين أول أيلول، خطوة لتفعيل مجلس الدول العربية والأفريقية للبحر الأحمر، الذي تأسس في كانون الثاني 2020 ويضم الأردن وجيبوتي وإريتريا والصومال، وفي الأغلب ستكون قاعدة برنيس العسكرية شرق أسوان (جنوب مصر) أحد مراكز النشاط للتحالف، وهي أقرب نقطة لدول القرن الأفريقي، وتأتى الخطوة ضمن سعي إلى بناء شبكة من التحالفات، تجعل من معركة السد جزءاً من معادلة التوازنات الإقليمية والأمن الاستراتيجي، وتعتبره القاهرة حالياً أزمة جيوسياسية، تستدعي السير في كل الاتجاهات، واستخدام مختلف السبل الدبلوماسية والسياسية والأمنية، وتحاول الضغط على إثيوبيا لتظهر استجابة مغايرة، عبر تكثيف اتصالاتها بأطراف عربية وإقليمية ودولية، وتعزيز علاقتها مع دول أفريقية، مع اتخاذ خطواتٍ تضمن موقفاً مشتركاً مع السودان والتقدم بشكاوى رسمية لدى هيئات الأمم المتحدة، ومخاطبة المنظّمات متعدّدة الأطراف، لحثّ إثيوبيا على تغيير موقفها، وإن لم يأت هذا نتيجة بعد التشغيل الرسمي للسد، ستظلّ مصر أمام خيارين صعبين: التكيف مع الأمر الواقع ودفع ثمن تحكّم إثيوبيا في النيل، ومتابعة التداعيات، ومنها نقص تدفق المياه، أو الانزلاق إلى مواجهة مباشرة، وهو الاحتمال الذي لا تزال القاهرة تحاول تفاديه، عبر استراتيجية الردع والضغط المتدرّج، ومراقبة قدر النقص في تدفّقات المياه.