هل أنت ضدّ التهجير حقاً؟

يقول الواقع على الأرض إنّ مليوني إنسان يحيط بهم نحو 500 مليون أخ شقيق، ولهم نحو ملياري أخ آخرين، يهيمون على وجوههم، ويتعثّرون في متعلّقاتهم، ويسقطون جوعى ومرضى، أمام عدوٍّ هو الأسفل والأشدّ انحطاطًاً في تاريخ الاستعمار، يطاردهم في العراء بالطائرات والصواريخ، بعد أن دمّر بيوتهم وهدم أبنيتهم، ويجبرهم على النزوح إلى المجهول.

لم يقدّم أحدٌ من نصف مليار شقيق وملياري أخ لهم شيئاً سوى البكاء والأسى واستنزال اللعنات على حكّام جبناء يخبّئون نذالتهم وخذلانهم في أوراق بياناتٍ لا تقدّم أو تؤخر، ولا تستر شقيقاً أو تردع عدوّاً، حتى وإن أقسموا ألف مرّة إنهم لا يقبلون بتهجير الفلسطينيين، بالمطلق وتحت أيّ ظرف وبأشدّ العبارات وأوضحها، ذلك أنّ عملية التهجير تجري على قدم وساق بالفعل، من دون أن يتراجع العدو أو حتى يخفّض وتيرة نسف المباني والأبراج وإجبار ساكنيها على النزوح. 

يعرف العدو، ويعرف الأشقاء المزيّفون الخانعون الخائفون، أنّ البيانات والتصريحات مهما التهبت سخونتها واحتدّت عباراتها واشتعلت مفرداتها لن توقف عدوّاً مدجّجاً بالخسّة والوحشية وقوّة الإمبراطورية الأميركية عن تنفيذ مشروعه لطرد الشعب الفلسطيني من أرضه واحتلال وطنه، والأمر كذلك يبقى كلّ من يلتزم موقف الكلام والصياح الدبلوماسي الركيك متفرّجاً على مؤامرة التهجير، متواطئاً معها بالكلمات الجوفاء، فيما يبقى الأشقّاء في اليمن العظيم وحدهم الذين يحقّ أن يُقال إنهم ضدّ تهجير الشعب الفلسطيني، إذ ينفردون، بالفعل، فيما يختبئ الآخرون في دخان البيانات النارية.

ولا يصحّ والمأساة تتسع يوماً بعد يوم، والمؤامرة تقترب من الاكتمال، أن يزعم أحدٌ جدّيته في التصدي، بشكل عملي، للمخطّط الصهيوني القائم على “وعد ترامب” بإخلاء غزّة من أهلها وهدمها تماماً ثم إعادة بنائها مشروعاً سياحيّاً يخضع للإدارة الأميركية الإسرائيلية، مع إسناد أدوارٍ لبعض الحكومات العربية، المُختارة بعناية، لإكمال المشروع. وضمن هذه الأدوار، تأتي آلية نشر قوات عربية ودولية في غزّة بعد إتمام القضاء على المقاومة الفلسطينية ونزع سلاحها وإخلاء المدينة وحشر أهلها في مساحةٍ ضئيلةٍ في جنوب القطاع عند الحدود المشتركة مع مصر.

بعض الأدوار المساعدة كما تصوّرها أصحاب المشروع يكون كلّ المطلوب فيها أن تصيح “لا للتهجير” عامين، تشتدّ خلالهما إجراءات تنفيذ التهجير عمليًّاً يوماً بعد يوم، وكلّما ارتفعت الوتيرة يرتفع صوتُك أكثر حتى نصل إلى المرحلة الأخيرة من إخلاء غزّة من سكّانها وحشرهم في مساحةٍ ضيقةٍ جنوبي القطاع مع المهجّرين من مناطق أخرى، من دون أن تتحرّك خطوةً واحدةً عمليةً لمنع عملية التهجير.

يقول المنطق إنه لا يمكنك أن تردع الكيان الصهيوني أو تجبره على التفكير في عواقب إجرامه إذا كنتَ تكافئه بصفقات بيزنس بعشرات المليارات من الدولار. أنت تعلم، وتعلن بعظمة لسانك، أنها صفقة تصبّ في مصلحة إسرائيل أكثر مما تُفيد مصر، كما لا يستقيم عقلاً أن تزعم وقوفك مع غزّة بينما أنت تكافئ الراعي الأكبر والشريك الأساسي في جريمة تدمير القطاع وتشريد شعبه بخمسة تريليونات دولار، توضع في يد إدارة تبدو صهيونيةً في سياساتها وانحيازاتها أكثر من الصهيونية الدينية في إسرائيل نفسها.

 كيف وزّع ترامب الأدوار؟… لا يمكن أن تكون داعماً صمودَ غزّة وأنت تحرم شعبها من شحناتٍ هائلةٍ من الإسناد الروحي يمكن أن تحقّقها مليونيات شعبية تتظاهر في كلّ مدينة عربية تُطمئن المنكوبين على أنّ لهم أشقاء وتثير رعب العدو الذي قال مجرم الحرب الذي يقوده منذ سنوات بعيدة إنّ أشدّ خطر على إسرائيل هو الشارع العربي، وليس الأنظمة، هذا الشارع مقموع ومحروم من التظاهر  حتى صار الاستثنائي والغريب في البلاد العربية أن تخرُج تظاهرة بعشرات الآلاف تضامناً مع غزة، وتنديداً بالتواطؤ مع المذبحة (باستثناء اليمن أيضاً) بينما العادي والروتيني في المدن والعواصم الأوروبية أن تخرج مليونية واحدة على الأقل أسبوعيّاً تهتف بالحرية لفلسطين وتندّد بالصمت والتواطؤ الدولي مع مذابح الإبادة الجماعية.

أنت تخشى هذه الملايين المقموعة فتصادر غضبها المحبوس في صدورها، مثل ما يخشاها رئيس حكومة المجازر الصهيونية بالضبط، وهذا وجهٌ آخر من التواطؤ، أو دور آخر في الأدوار الموزّعة بعناية على مسرح الجريمة التي توشك على النهاية.