في مشهدٍ يلتقط الأنفاس، يُفتتح مسلسل Smoke من إنتاج “آبل تي في” بلقطة حارقة: مصباح مشتعل، غرفة مليئة بأثاث محترق، وبحر من اللهب يبتلع الشاشة ببطء. يتسلل الدخان متقطّعاً، بينما يحاول راوٍ مرتبك أن يجد البداية المناسبة، قبل أن يستقر على عبارة: “النار لا تقيم وزناً” كاشفاً منذ اللحظة الأولى عن عالمٍ مشبع بالتوتر، حيث تتساوى الحياة والمال والسلاح أمام قوة النيران.
يروي القصة ديف غادسن (تارون إيغرتون)، محقق حرائق ورجل إطفاء سابق، يعيش ظاهريًا حياة منظمة مع زوجته وابنها، لكنه سرعان ما يدرك أن هناك ما يختبئ خلف هذا الهدوء. تعليقاته الصوتية المستوحاة من أفلام النوار لا تتوافق مع صورة الأب الطيب، بينما يتأرجح سلوكه بين التفاخر الذكوري والروح المتواضعة للمسعف. يبدو أن غادسن يمثل دوراً ما، لكن أي دور بالضبط؟ صرامة القائد أم هشاشة الأحمق؟
هذا الغموض يجعل الحلقات الأولى بطيئة نسبياً، وكأن تارون إيغرتون وفريق الكتابة يتلمسون الطريق لفهم الشخصية الرئيسية. غير أن هذا التباطؤ يتحول لاحقًا إلى جزء من البناء الدرامي المتقن، حيث تتضح ملامح البطل تدريجياً مع تصاعد الأحداث.
المسلسل مقتبس عن أعمال الكاتب الأميركي دينيس ليهان، صاحب “نهر غامض” و”جزيرة شاتر”، الذي اشتهر ببناء حبكات قابلة للاشتعال حرفياً ومعنوياً. في “دخان” حيث يعمل ليهان كاتب سيناريو ومنتجاً، نلمس بصمته الواضحة: حبكة معقدة، شخصيات مأزومة، وتوتر متصاعد لا يهدأ.
يتكون العمل من تسع حلقات مستوحاة من أحداث حقيقية، ويتتبع قصة محققة شرطية معذبة ومحقق حرائق غامض، في مواجهة اثنين من مشعلي الحرائق المتسلسلين اللذين ينشران الرعب في مدينة خيالية تدعى أمبرلاند.
في أمبرلاند، موجة من حرائق الحرق العمد توازي في معدلاتها جرائم القتل والسرقة، ما يجعل المهمة بالنسبة لغادسن قضية شخصية بقدر ما هي مهنية. يطارده ماضيه رجل إطفاء عاش كثيرًا وسط اللهب، حتى أنه يصف النار بأنها “كائن حي ينتظر ويراقب”، ويروي كيف واجه “العدم نفسه” حين اختلط الوقود بالأكسجين والحرارة في لحظة قاتلة.
لهذا يقرر كتابة مذكراته، في محاولة لفهم النيران التي أنقذ منها أرواحاً، لكنها تركت بداخله جراحاً لا تُشفى. تتخلل كل حلقة تعليقاته الصوتية المصاحبة، محملة باقتباسات فلسفية حول النار والوجود، ما يمنح السرد طبقة إضافية من العمق النفسي.
يظهر المشتبه به الأول فريدي (نتاري غوما مباهو موين)، شاب هادئ يعمل في مطعم للوجبات السريعة، يعيش على هامش الحياة ويتوق لأن يراه الآخرون ويأخذوه على محمل الجد. تركيبه النفسي المعقد يدفع المشاهد للتساؤل: هل يستخدم الحرائق كوسيلة للفت الانتباه وتحقيق قيمة لذاته؟
في المقابل، يبقى الجاني الثاني غارقاً في الغموض – أو كما يوحي عنوان المسلسل – مغطى بالدخان حتى وقت متأخر من الحلقات. يكشف النص في وقت مبكر عن هوس المجرمين المشترك بالنار، لكن دوافعهما المختلفة تلتقي في نقطة واحدة: الرغبة الحارقة في الظهور وإثبات الذات.
على الرغم من حبكته البوليسية، لا ينحصر “دخان” في مطاردة الجناة فقط، بل يغوص عميقاً في نفسيات الشخصيات، كاشفاً عن صدماتهم وخيباتهم. كل شخصية تقريباً، من المحققة الشرطية إلى المشتبه بهم، تحركها أسرار غامضة وجراح دفينة.
حتى مع اعتماده على قوالب مألوفة مثل “الشرطي الفاسد” أو “المحقق المدمن على الكحول”، إلا أن المسلسل ينجح في تقديم مقاربة أكثر إنسانية، تجعل المتفرج يتعاطف حتى مع شخصيات تبدو على الهامش.
يُحسب للممثل نتاري غوما مباهو موين أداؤه البارع في تجسيد شخصية فريدي الممزقة بين الخوف والرغبة في الظهور، بينما يبرع تارون إيغرتون في تقديم شخصية غادسن التي تتكشف خباياها تدريجياً. يرافق ذلك إخراج مشحون بالتوتر البصري، حيث تتحول النار من مجرد حدث عابر إلى رمز فلسفي عن الهوس والفناء.
المسلسل مأخوذ عن بودكاست يحكي عن مشعل الحرائق الأميركي جون ليونارد أور، لكنه لا يلتزم بسرد الأحداث بدقة، بل يعيد صياغتها في قالب درامي أقرب إلى دراما الإدمان النفسي منه إلى التحقيقات الإجرائية التقليدية.
كل حلقة تستند إلى فكرة محورية، مثل “الإبداع”، “الإنكار”، أو “الغضب”، وتوظف النار كرمز خفي أكثر من كونها عنصر دمار فحسب، ما يجعل “دخان” تجربة بصرية وذهنية متفردة لعشاق الغموض والسرد المركب.