احتفاء بذكرى العصر الذهبي للبحرية الهولندية، العصر البطولي الذي ازدهرت فيه التجارة والفلسفة والعلوم، عصر رامبرانت، أقامت أمستردام في أواخر آب/ آب الماضي مهرجان الإبحار، الذي ينعقد مرة كل خمس سنوات. تصادف طبعته العاشرة هذا العام الذكرى 750 سنة لتأسيس العاصمة الهولندية.
أوغلت سفن الهولنديين بعيداً في البحار والمحيطات النائية. وكان لهم السبق في اكتشاف أراض لم تطأها قدم الرجل الأبيض من قبل. الرجل الأبيض الذي خرج فجأة من قمقمه في عصر النهضة، وغزا العالم. مضى بعيداً في الجغرافيات المجهولة. وكان الهولنديون في ذلك العصر قد امتد نفوذهم البحري تقريباً إلى جميع أصقاع الأرض.. فهم الذين اكتشفوا أستراليا وأسسوا مدينة نيويورك التي أطلقوا عليها أمستردام الجديدة، واحتلوا كوراساو في وسط أميركا وامتدت ممتلكاتهم ومصارفهم البحرية إلى البحر الكاريبي، وجزر الأنتيل. وأوغلوا في الشرق إلى إندونيسيا، و”تايوان الهولندية”، و”سريلانكا الهولندية”، و”جزر الملوك” (في ماليزيا حالياً)، بالإضافة إلى “مستعمرة كيب” في جنوب أفريقيا، ومستعمرة في الهند؛ وكذلك “السواحل الذهبية الهولندية” في غانا، والعديد من المواقع التجارية في مختلف أنحاء آسيا.
آه لهؤلاء الهولنديين سكان الماء! كما لو أن البحر عنصر أساسي من كيانهم الداخلي العميق..
كما لو أنهم حققوا كلمة فريدريك نيتشه في كتاب المعرفة السعيدة: ابنوا مدنكم على جبل فيزوف! أطلقوا سفنكم إلى بحار مجهولة!
رأيت سفينة عربية مفردة توحي بعوالم السندباد من عُمان
ودخلت السفن إلى القناة البحرية قادمة من الأقاليم الهولندية البعيدة، وخرج الأهالي إلى ميناء أمستردام القديم لاستقبال السفن التاريخية التي كانت تعبر من أمامنا لتتجمع قرب متحف البحر. نسخ جديدة لمراكب القرنين السابع والثامن عشر؛ سفن أبحرت من البيرو، ومن المكسيك، ومن الصين والنرويج وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد. شقت البحور بقوة الريح في أشرعتها. قال لي ضابط البحرية الأرجنتينية “أبحرنا من الأرجنتين إلى هنا، عبرنا المحيط الأطلسي ولم نشغل أبداً المحركات، اعتمدنا في تسيير السفينة على الرياح وأرهقنا كثيراً رفع وتحريك القلاع”.
البحار العربي حاضر
جاء البحار العربي من عُمان للمشاركة في المهرجان، ولكن على سفينة صُنعت في رومانيا. وهذا لا يغمط للعُمانيين حقّهم في المجد.. ورغم ذلك لم يبق اليوم من ذكرى العصر البطولي للبحارة العرب الذين انطلقوا في القرن العاشر إلى الصين من موانئ سيراف، والعقير، والبصرة، سوى صورة باهتة. أين سفن السندباد الخيالية والحقيقية؟ ومن يتذكر التاجر سليمان الذي سبق أول القرن العاشر الميلادي ابن بطوطة وماركو بولو إلى الصين؟ وترك كتاباً ترجم إلى كل اللغات تقريباً. ومن يتذكر ابن ماجد؟ كان ابن ماجد يضع عناوين أدبية لكتبه العلمية منها كتاب “ثلاث أزهار”، وهو جدير أن يكون عنوان قصيدة شعرية.
يختلط الواقع بالحلم، لا لم تكن هناك سفن السندباد، ولكن كانت هناك سفينة عربية مفردة توحي بعوالم السندباد هي “شباب عُمان” أخذت مكانها بين أكثر من ثمانمائة سفينة ومركب تجمعت هنا، وحولت ميناء أمستردام القديم إلى غابة من الصواري والأشرعة المتداخلة حتى الأفق… سفن يزيد طولها على المئة متر وارتفاع صواريها إلى حوالي 95 متراً تخوض في البحار والمحيطات. هي نسخ حديثة لمراكب عصر الاكتشافات البحرية الأولى في القرنين السادس والسابع عشر، يوم قسم بابا روما الأرض في خط وهمي بين البرتغاليين والإسبان حتى يكفّا عن التصارع حول المستعمرات والأراضي التي يستوليان عليها. وكان أن ذهبت مراكب القراصنة البرتغاليين والإسبان أولاً ثم التجار الهولنديين والإنكليز لاكتشاف ونهب أراضي شعوب أفريقيا وآسيا والجزر النائية شرقاً وغرباً. وكانت تلك الموجة الاستعمارية الأولى.. رحلات تجارية وعسكرية قامت بها شركات الهند الشرقية الهولندية والفرنسية شرقاً وغرباً.
تحت شمس الظهيرة ذهبت وسط الجموع إلى شمال الميناء أبحث عن “آسكوا 2″، قارب المغني البلجيكي الأسطوري جاك بريل، الذي أبحر به من ميناء بروج في بلجيكا عابراً المحيطات حتى جزر الماركيز، ها هو يرسو وحيداً يا لسخرية الأقدار قرب بارجة عسكرية داكنة في مكان جانبي من ميناء أمستردام الذي غناه في قصيدته الذائعة: في ميناء أمستردام/ ثمة بحارة يغنون/ الأحلام التي تسكنهم.
أخذت صوراً للقارب، وبقيت أتأمل حياة جاك بريل الذي على خطى رامبو وفان غوخ هرب من بلجيكا، من أوروبا الباردة إلى جزر الماركيز ليموت هناك ويدفن في المقبرة البحرية على بعد أمتار من قبر الرسام بول غوغان.