تدمير الأبراج في غزة… الاحتلال يتعمد تعميق خسائر الفلسطينيين

أعاد استهداف الاحتلال الإسرائيلي برج مشتهى غرب مدينة غزة الجمعة الماضي وتدميره بالكامل إلى الواجهة من جديد السياسة الإسرائيلية المتبعة في الحروب، وجولات التصعيد التي كانت تتم مع المقاومة الفلسطينية في أوقات سابقة.

كما دمر الاحتلال، أمس السبت، بصواريخ ثقيلة، برجاً سكنياً من 15 طابقاً، يضم أكثر من 60 شقة، غرب مدينة غزة. ويقع برج السوسي، الذي سوي بالأرض، على مقربة من مقر لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى “أونروا”.

وأعلن وزير الأمن الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، الجمعة الماضي، أن “باب الجحيم في غزة قد فتح الآن”، مشيراً إلى أن الجيش بدأ حالياً توسيع نطاق عملياته العسكرية في غزة حيث سيتم التركيز في المرحلة الأولى من العملية على هدم المباني الشاهقة في المدينة.

ومنذ أول حرب شهدها القطاع في عام 2009 اتبع الاحتلال سياسة قصف الأبراج بهدف تدميرها بشكل كلي أو جزئي يصعب معه إعادة ترميمها أو الاستفادة منها. وبات هذا الأسلوب يتصاعد في الحروب، التي امتدت حتى الإبادة في تشرين الأول/ تشرين الأول 2023. وكان الاحتلال يتبع سياسة تدمير عشرات الأبراج، التي كانت تعتبر معالم لمدينة غزة أو مناطق القطاع عموماً، من أجل الضغط على المقاومة للقبول بوقف إطلاق النار، أو زيادة وتيرة الضغط الداخلي عليها.

محمد الأخرس: اليمين الإسرائيلي ينظر إلى معركة مدينة غزة باعتبارها “حاسمة” لتحقيق أهدافه السياسية والأيديولوجية

وزعم الاحتلال الإسرائيلي، مع تدميره برج مشتهى الذي يعتبر أحد أكبر أبراج مدينة غزة المتبقية والمتضرر أصلاً منذ بداية حرب الإبادة نتيجة قصفه، أنه يضم بنية تحتية لحركة حماس ومنظومة قيادة وسيطرة. في المقابل، نفت حركة حماس ما قالت إنه ادعاءات ومزاعم إسرائيلية تستهدف تبرير الأبراج السكنية وتدمير مدينة غزة، حيث قال عضو مكتبها السياسي عزت الرشق، في بيان، إن “محاولات العدو تبرير استهداف الأبراج السكنية وتدمير مدينة غزة، بادّعاءات كاذبة عن استخدامها من قبل حماس، ليست سوى ذرائع واهية وأكاذيب مفضوحة، الهدف منها التغطية على جرائمه البشعة بحق المدنيين العزّل، ومواصلة سياسة الإبادة والتدمير الشامل للقطاع”.

تكثيف عمليات التدمير في مدينة غزة

وشهدت الأيام الأخيرة تكثيفاً في معدل عمليات النسف والتدمير التي تقوم بها القوات الإسرائيلية في مدينة غزة، سواء عبر عمليات التدمير بواسطة الروبوتات المتفجرة أو من خلال القصف الجوي. وإلى جانب هذا الأمر بات الاحتلال يتبع وسيلة أخرى تقوم على الحرق، من خلال استخدام مواد حارقة يجري إسقاطها على الخيام والمنازل بواسطة مسيّرات “كواد كابتر”، ما يخلف دماراً وخسائر.

وتشكل عمليات ضرب الأبراج في مدينة غزة زيادة في وتيرة الضغط على السكان حالياً، في ظل عمليات التدمير الممنهجة في مختلف مناطق القطاع، وعدم وجود منازل كافية، ووجود عدد كبير من السكان في مناطق عشوائية ومخيمات. وتترافق هذه المرة مع إطلاق جيش الاحتلال عملية “عربات جدعون 2” التي تهدف، بحسب الاحتلال، إلى حسم الحرب والقضاء على حماس تماماً، في الوقت الذي ردت فيه “كتائب القسام”، الذراع العسكرية للحركة، بإطلاق عمليات “عصا موسى” للتصدي للعملية العسكرية الإسرائيلية.

حرب نفسية وروايات مبتذلة

وقال الكاتب والباحث في الشأن السياسي محمد الأخرس إن السلوك الإسرائيلي في غزة يمكن قراءته من عدة زوايا، أولها إصرار الاحتلال على اتباع سياسة التدمير الممنهج لما تبقى من مقومات الحياة داخل القطاع، مبرراً ذلك عبر روايات “مبتذلة” ورسومات دعائية تكشف زيف ادعاءاته. وأضاف الأخرس، لـ”العربي الجديد”، أن الاحتلال يدير حرباً نفسية تستهدف بشكل أساسي سكان شمال القطاع، لدفعهم للنزوح نحو الجنوب، غير أن عملياته المكثفة في الأحياء الشرقية لمدينة غزة لم تُحقّق هذا الهدف.

أحمد الطناني: استهداف الأبراج في غزة تهدف للضغط على الكتلة السكانية الكبيرة داخل المدينة

وأوضح أن تقديرات جيش الاحتلال تشير إلى أن نسبة النزوح لا تتجاوز 5 إلى 10 في المائة، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على تقدمه نحو مركز المدينة، مشيراً إلى أن جوهر التوجه الإسرائيلي في مدينة غزة يرتبط بتهجير سكان الشمال من أجل خلق ظروف سياسية وميدانية تدفع الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع، تماشياً مع تطلعات اليمين الإسرائيلي الذي يسعى لضمان وجود استيطاني في مناطق محددة شمال غزة.

ولفت الأخرس إلى أن الاحتلال يحاول صياغة معادلة تفاوضية بعد استكمال عملياته العسكرية، تقوم على مقايضة الأرض بتنفيذ شروط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السياسية والأمنية، معتبراً أن اليمين الإسرائيلي ينظر إلى معركة مدينة غزة باعتبارها “حاسمة” لتحقيق أهدافه السياسية والأيديولوجية. وأوضح أن الاحتلال يسعى عبر دعايته المرافقة للعمليات العسكرية إلى إظهار حساسيته تجاه وجود أسرى إسرائيليين داخل المدينة، من خلال التركيز على التحذيرات والإنذارات المبكرة للسكان بضرورة الإخلاء خشية مقتل الأسرى تحت القصف. وبيّن أن المقاومة الفلسطينية نشرت تسجيلاً مصوراً يظهر أسيرين إسرائيليين يتحركان فوق الأرض داخل غزة الأمر الذي يجعل حياتهما مهددة بشكل أكبر نتيجة الاستهداف العشوائي المتواصل لمناطق المدينة.

أهداف إسرائيلية

إلى ذلك، قال مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات الاستراتيجية أحمد الطناني إن عودة الاحتلال لسياسة استهداف الأبراج في مدينة غزة تحمل مغزى رئيسياً يتمثل في الضغط على الكتلة السكانية الكبيرة داخل المدينة، سواء من سكانها الأصليين أو من النازحين إليها من شمال شرق القطاع، وهي كتلة ما زالت ترفض النزوح جنوباً رغم التهديدات المستمرة.

وأوضح الطناني، لـ”العربي الجديد”، أن استهداف برج مشتهى غرب غزة يكتسب دلالات رمزية ومباشرة، أولها أن المنطقة الغربية للمدينة لم تعد بمنأى عن القصف الكبير، وثانيها أن البرج يقع وسط تجمعات من المخيمات التي تضم عشرات آلاف اللاجئين. وأشار إلى أن تدميره لم يؤد فقط إلى محو المبنى، بل ألحق أضراراً جسيمة بالخيام والمساكن المؤقتة المحيطة به، بما يدفع سكانها نحو النزوح القسري إلى خارج حدود محافظة غزة باتجاه الجنوب. وبين أن ما يجري يأتي في إطار استكمال عملية التدمير الشامل التي يشنها الاحتلال، ويمثل مرحلة تمهيدية للعملية العسكرية الموسعة في مدينة غزة، حيث تترافق الهجمات على الأبراج مع العمليات في أحياء الزيتون والشيخ رضوان وجباليا النزلة، بهدف تشتيت الكتلة الديمغرافية المتبقية وتسهيل مهمة الجيش في التدمير المنهجي.

وأكد الطناني أن الاحتلال يسعى للسيطرة على نحو 90 في المائة من مساحة القطاع بعد تدمير مدينة غزة، لتبقى المخيمات الوسطى الهدف المقبل للعمليات العسكرية. وأضاف أن رئيس أركان جيش الاحتلال نفسه إيال زامير أشار إلى أن ما يجري يندرج في مسار السيطرة الكاملة على مدينة غزة وفرض وقائع ميدانية جديدة، معتبراً أن ما يحدث ليس مجرد “حكم عسكري” بل عملية إبادة وتطهير عرقي، تدفع سكان غزة نحو التكدس في الشريط الحدودي جنوباً، تمهيداً لحصرهم في “سجن كبير” بمدينة رفح، بما يتيح لإسرائيل التملص من مسؤوليتها عن أكثر من مليوني فلسطيني وترك عبء إدارتهم على المجتمع الدولي، الأمر الذي قد يشكّل بوابة لتهجير واسع.