ترامب يغيّر السياسات الأميركية: جموح عسكري واستراتيجيات متحوّلة

أمور كثيرة تغيرت منذ 20 كانون الثاني/كانون الثاني الماضي، تاريخ بدء الرئيس الأميركي دونالد ترامب ولايته، الثانية بعد الأولى (2017 ـ 2021)، معبداً الطريق أمام تغيير السياسات الأميركية، محلياً سواء في قلب النظم الانتخابية عبر إعادة صياغة خرائط الدوائر في قلب الولايات، أو لجهة نشر الحرس الوطني في مدن أميركية، من “أجل محاربة الجريمة”، أو في السياقات العسكرية خارجياً. ولم تكن محطات مثل الضربات الأميركية على الحوثيين في اليمن والغارات على ثلاث منشآت نووية إيرانية في 22 حزيران/حزيران الماضي، سوى مقدمة عملياً لخطوات أشمل. وتوّج ترامب هذه الخطوات بإعادته يوم الجمعة تسمية وزارة الدفاع (بنتاغون) بوزارة الحرب، كما كان اسمها منذ تأسيسها في 1789 وحتى عام 1947. كذلك، مهّد بتصنيفه أخيراً عصابات عدة بكونها “كيانات إرهابية”، الدرب للجيش الأميركي بالعمل العسكري ضدها خارج الحدود الأميركية. وهو ما حصل أخيراً في المياه الدولية المقابلة لشواطئ فنزويلا، حين أغار الأميركيون على مركب، ذكروا أنه كان يهرّب المخدرات إلى أميركا، وسط تسريبات بلغت حد الترويج في الساعات الأخيرة أن الرئيس الأميركي يدرس خيارات لتنفيذ ضربات عسكرية تستهدف عصابات مخدرات تنشط في فنزويلا، منها ضربات محتملة داخل البلاد.

رؤية ترامب

وعملياً، يعمل ترامب وفق رؤية تمزج بين نهج أكثر عدوانية وانعزالية في الآن نفسه ويلاقيه فيها عدد لا بأس به من مسؤولي إدارته السياسيين والعسكر. في السياق، كشفت صحيفة بوليتكو، أن مسؤولي بنتاغون، اقترحوا أن تعطي وزارة الحرب أولوية للمهمات المحلية والإقليمية المحيطة، واعتبرت أن الاقتراح يمثل تحولاً ملحوظاً في استراتيجية الجيش الأميركي، الذي يركز على التهديد الصيني وعلى خصوم مثل بكين وموسكو. وطبقاً لثلاثة مصادر اطلعوا على النسخ الأولى من التقرير تعطي مسودة استراتيجية الدفاع الوطني الجديد، التي قدمت إلى وزير الدفاع بيت هيغسيث الأسبوع الماضي، الأولوية للمهمات المحلية والإقليمية. واعتبرت الصحيفة أن هذه الخطوة تمثل تحولاً كبيراً عن سياسات الإدارات الديمقراطية والجمهورية السابقة، بما فيها ولاية ترامب الأولى، التي وصف الصين بأنها المنافس الأكبر لأميركا، ورجحت أن تثير هذه الخطوة غضب الصقور في كلا الحزبين. ولا يزال بإمكان هيغيسث إجراء تعديلات على الاستراتيجية التي ستتبعها الإدارة الفترة المقبلة.

توجس أوروبي من خطط واشنطن لخفض تمويل الدفاع

 

وقال شخص اطلع على مسودة الوثيقة إن هذا “يمثل تحولاً كبيراً للولايات المتحدة وحلفائها في مختلف القارات، فالوعود الأميركية القديمة الموثقة أصبحت محل تساؤل”. واعتبرت الصحيفة أنه بدأ التحول بالفعل من أكثر من ناحية، إذ أرسل بنتاغون الآلاف من الحرس الوطني إلى لوس أنجليس والعاصمة واشنطن، وأرسل عدداً من السفن الحربية والطائرات المقاتلة من طراز أف 35 إلى منطقة الكاريبي لمنع وصول المخدرات إلى أميركا، كما أنشأ منطقة عسكرية على طول الحدود الجنوبية مع المكسيك تسمح باحتجاز المدنيين”. ونقلت “بوليتيكو” عن خبير جمهوري في السياسة الخارجية اطلع على التقرير، ولم تكشف اسمه، قوله إن “هذا التحول لا يبدو أنه يتوافق على الإطلاق مع آراء الرئيس ترامب المتشددة تجاه الصين”.

ويقود هذه الاستراتيجية، إلبريدج كولبي كبير مسؤولي السياسات في بنتاغون، ويؤيد سياسة أميركية أكثر انعزالية، ويتوافق مع رؤى نائب الرئيس جي دي فانس في رؤيته إزاء إنهاء الالتزامات الخارجية الأميركية. ويتولى فريق كولبي مسؤولية مراجعة الأوضاع العالمية، التي تحدد مواقع تمركز القوات الأميركية حول العالم، ومراجعة قوات الدفاع الجوي والصاروخي الميداني والتي تقيم الدفاعات الجوية للولايات المتحدة وحلفائها، وتقدم التوصيات بخصوص مواقع نشر الأنظمة الأميركية. وأشارت المصادر لـ”بوليتيكو” إلى أن الإدارة الأميركية ستطالب الحلفاء بتحمّل مزيد من المسؤولية عن أمنهم.

ويتزامن هذا مع ما نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، نقلاً عن مسؤول في بنتاغون ودبلوماسي أوروبي، بأن مبادرة أمن البلطيق التي كانت تمنح مئات الملايين من الدولارات لإستونيا وليتوانيا ولاتفيا للمساعدة في بناء بنيتها التحتية العسكرية، ستفقد تمويلها هذا العام. حول ذلك، قال مصدر مطلع على المناقشات ومساعد بالكونغرس، تحدثا بشرط عدم الكشف عن هويتهما لوكالة أسوشييتد برس، إنه سيتم تقليص تمويل بنتاغون للبرامج التي توفر التدريب والمعدات لتعزيز الأمن. ولم يتضح بالضبط الأموال التي ستتأثر، على الرغم من أنها يمكن أن تكون مئات الملايين من الدولارات.

وتشمل هذه الخطوة التمويل بموجب القسم 333 ومبادرة أمن البلطيق، التي تساعد في تمويل مشتريات الأسلحة من الدول على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، بما في ذلك الأنظمة الأميركية، وكذلك الذخيرة وتدريب القوات الخاصة والدعم الاستخباري. وقال مسؤول بالبيت الأبيض لـ”أسوشييتد برس”، إن هذا الإجراء تم تنسيقه مع الدول الأوروبية وهو جزء من خطة ترامب لضمان أن “أوروبا تتحمل مسؤولية أكبر عن دفاعها”. لكن بعض وزراء الدفاع في منطقة البلطيق إنهم لم يتلقوا إخطاراً رسمياً بهذا الصدد. وفي مقابل تشجيع أوروبا على إنفاق المزيد على أمنها الذاتي والتخفيف من الاعتماد على الحليف الأميركي، باشر ترامب خطوات عسكرية بعيداً عن الأوروبيين، عبر الإعلان في أيار/الماضي عن إنشاء “القبة الذهبية”، التي يفترض أن تغطي كامل الأراضي الأميركية، بحلول عام 2029، وذلك لحماية الولايات المتحدة من أي اعتداء خارجي، وفق ترامب.

أولوية المهمات المحلية والإقليمية أمنياً تطغى على عقلية صنّاع القرار في البيت الأبيض ووزارتي الحرب والخارجية

 

ومع أنه كرر مراراً نيته وقف الحروب في العالم، مشيراً إلى أنه أوقف سبعة منها بحسب زعمه، لم يتأخر ترامب في توقيع أمر تنفيذي، أول من أمس الجمعة، أعاد فيه تسمية وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، معتبراً أن الاسم ملائم أكثر. لكن قد لا تكون لترامب القدرة على اتخاذ القرار بشكل منفرد بشأن تغيير الاسم، إذ إن ذلك يتطلب موافقة الكونغرس. كذلك، أصدر الرئيس الأميركي مساء الجمعة، توجيهات بإزالة خيمة مقامة قبالة البيت الأبيض منذ 30 عاماً، وترمز إلى الاحتجاج على الحروب. وخلال مؤتمر صحافي في المكتب البيضاوي، تطرق ترامب إلى موضوع الخيمة في حديقة “لافاييت” أمام البيت الأبيض، وذلك رداً على سؤال أحد الصحافيين الذي وصفها بأنها تحولت إلى “مكان معادٍ لأميركا”. أمر ترامب المسؤولين قائلاً: “أزيلوها فوراً. اليوم، حالاً. لقد نصبها اليساريون المتطرفون. إذا كانت في لافاييت بارك، فلتُرفع من هناك”. وأضاف أنه لم يكن على علم بوجود الخيمة في ذلك المكان، مشيراً إلى أن السلطات في واشنطن أزالت مئات الخيام في إطار مكافحة الجريمة، وأن هذه الخيمة أيضاً ستُزال. وتُعد الخيمة، التي تجاوز وجودها أكثر من 30 عاماً أمام البيت الأبيض، رمزاً للاحتجاجات المناهضة للحروب في الولايات المتحدة.

ومع أنه علّل إزالتها بإزالة الخيام من العاصمة، غير أن هذه الخطوة تُشكّل امتداداً لسلوكات الرئيس الأميركي في الداخل، بدءاً من قرار نشر قوات الحرس الوطني في لوس أنجليس وواشنطن، والتلويح بنشرها في مناطق أخرى، وعلى رأسها شيكاغو. وفي الإطار فإن العسكرة الداخلية التي يغذيها ترامب بعبارات من قبيل “لدينا أقوى جيش في العالم”، فضلاً عن تنظيمه عرضاً عسكرياً في 14 حزيران الماضي بمناسبة الذكرى الـ250 لتأسيس الجيش الأميركي، بالتزامن مع ذكرى ميلاده، تؤشر إلى وجود نيّات مناقضة لشخص يسعى للحصول على جائزة نوبل للسلام، رغم كونه مؤمناً بمبداً “السلام من خلال القوة”. أما في الخارج، فيبرز في الأيام الأخيرة ارتفاع نبرة التهديدات الأميركية تجاه فنزويلا.

في السياق، حذّر ترامب فنزويلا من أن طائراتها العسكرية ستُسقط، إذا شكّلت تهديداً للقوات الأميركية، وذلك رداً على تحليق طائرتين عسكريتين فنزويليتين، الخميس الماضي، فوق سفينة تابعة للبحرية الأميركية. وقال ترامب في تصريح لصحافيين، مساء الجمعة، في المكتب البيضوي رداً على سؤال بشأن الخطوات التي سيتّخذها في حال تكررت الواقعة: “إذا وضعتنا (الطائرات الفنزويلية) في موقف خطر، فسيتم إسقاطها”. وكانت قناة سي أن أن الأميركية، قد ذكرت مساء الجمعة، نقلاً عن عدة مصادر، أن الرئيس الأميركي يدرس خيارات لتنفيذ ضربات عسكرية تستهدف عصابات مخدرات تنشط في فنزويلا، منها ضربات محتملة داخل البلاد.

ومن شأن توجيه ضربات داخل فنزويلا أن يمثل تصعيداً كبيراً في التوتر بين الولايات المتحدة والدولة الواقعة في أميركا الجنوبية. والثلاثاء الماضي ضرب الجيش الأميركي قارباً من فنزويلا في جنوب البحر الكاريبي، مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً، وهو ما عزاه ترامب إلى أنه كان ينقل مواداً مخدرة محظورة. وبحسب “سي أن أن” فإن الضربة كانت مجرد بداية لجهود أكبر بكثير لتخليص المنطقة من نشاط تهريب المخدرات وربما إزاحة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو من السلطة. ولم يرد البيت الأبيض ولا وزارة الإعلام الفنزويلية على طلبين منفصلين من “رويترز” للتعليق. ورداً على سؤال عما إذا كانت الولايات المتحدة تتطلع إلى تغيير النظام في فنزويلا، قال ترامب لصحافيين “لا نتحدث عن ذلك، لكننا نتحدث عن حقيقة أنكم أجريتم انتخابات أقل ما توصف به أنها كانت غريبة للغاية”. ويأتي التصعيد ضد فنزويلا في إطار سياسة يطالب بها وزير الخارجية ماركو روبيو منذ زمن، وصلت إلى حد مطالبته باستهداف قادة دول أميركا اللاتينية اليساريين.

ترامب يدرس شن ضربات عسكرية ضد عصابات مخدرات داخل فنزويلا

 

غضب أميركي من فنزويلا

وكان روبيو وصف فنزويلا على أنها بقايا الأيديولوجية الشيوعية في نصف الكرة الغربي، وهو ضغط باستمرار من أجل إطاحة مادورو، داعياً إلى فرض عقوبات اقتصادية على كراكاس، بل دافع عن التدخل العسكري الأميركي في الحروب. وتشارك حالياً ثماني سفن تابعة للبحرية الأميركية بجهود مكافحة المخدرات في أميركا اللاتينية هي: ثلاث سفن هجومية برمائية ومدمرتان وطرّاد وسفينة قتال للسواحل في منطقة الكاريبي، إضافة إلى مدمرة في المحيط الهادئ. كذلك، ذكرت وسائل إعلام أميركية، ومنها نيويورك تايمز وسي بي أس نيوز وذا هيل، نقلاً عن مسؤول في بنتاغون ومصادر مطلعة قولهم مساء الجمعة، إنه تم نشر عشر طائرات من طراز أف-35 في بورتوريكو، من أجل “المساعدة في مكافحة عصابات المخدرات”. وبورتوريكو هي مجموعة جزر تابعة للولايات المتحدة وتقع في منطقة البحر الكاريبي، شمالي فنزويلا. وكان ترامب قد أدرج عدة عصابات على لائحة “الكيانات الإرهابية”، وهي ست عصابات مكسيكية: كارتيل سينالوا، وكارتيل خاليسكو، وكارتيل نوريستي، وكارتيل لا نويفا فاميليا ميشواكانا، وكارتيل دي غولفو، وكارتيليس أونيدوس. أما العصابة الفنزويلية، فهي ترين دي أراغوا، فيما العصابة الأخيرة سلفادورية الجنسية وهي مارا سالفاتروشا (إم إس 13). وفي 25 تموز/تموز الماضي، أضافت إدارة ترامب كارتيل الشمس الفنزويلية إلى قائمة الكيانات “الإرهابية” متهمة مادورو بقيادته. وضاعفت إدارة ترامب مكافأة القبض على مادورو إلى 50 مليون دولار متهمة إياه بأنه أحد أكبر مهربي المخدرات في العالم، ولعمله مع عصابات تغمر الولايات المتحدة بالكوكايين المخلوط بالفنتانيل.

وأمام هذه المتغيرات، دعا مادورو الولايات المتحدة إلى احترام سيادة بلاده. وقال في تصريحات صحافية مساء الجمعة إنه “يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تتخلى عن خطتها لتغيير النظام في فنزويلا وفي كل أميركا اللاتينية بالعنف، وأن تحترم السيادة والحق في السلام والاستقلال”. وندد بالتعزيزات العسكرية الأميركية معتبراً أنها “أكبر تهديد تشهده قارتنا خلال الأعوام المائة الماضية”. وأعلن استعداد بلاده “للكفاح المسلح دفاعاً عن أراضيها”، وحشد الجيش الفنزويلي الذي يبلغ تعداده حوالى 340 ألف عنصر، وجنود الاحتياط الذين يُعتقد أن عددهم يتجاوز ثمانية ملايين. وتملك فنزويلا 15 مقاتلة من طراز أف-16 اشترتها من الولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي، بالإضافة إلى عدد من المقاتلات والمروحيات الروسية. لكن مادورو شدّد على ضرورة ألا تؤدي خلافات كاراكاس مع واشنطن إلى صراع عسكري. وقال في رسالة بثتها وسائل الإعلام الفنزويلية مساء الجمعة: “ينبغي ألّا يؤدي أي خلاف مع الولايات المتحدة إلى صراع عسكري”، موضحاً أنه “لا مبرر له”.

(العربي الجديد، قنا، الأناضول، أسوشييتد برس، فرانس برس، رويترز)