في مساء 12 كانون الأول/ كانون الأول الماضي، حوّلت طائرات الاحتلال الإسرائيلي منزل عائلة الشيخ علي بالقرب من مكتب البريد في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، إلى أنقاض.
في ثوانٍ، تحوّلت الطوابق إلى حفرة مليئة بالحطام، وسكتت أصوات الأطفال الذين كانوا يملؤون المكان بالضحك واللعب إلى الأبد. في تلك الليلة، استشهد 34 شخصًا وجُرح آخرون من بين 60 شخصًا معظمهم من النساء والأطفال كانوا موجودين في المنزل.
وقال أحد أفراد العائلة الناجين لموقع “ديكلاسيفايد” الاستقصائي البريطاني شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ 7 تشرين الأول/ تشرين الأول 2023: إنّ المنزل كان يؤوي عدة عائلات منها: الشيخ علي، والقصاص، ومطر، كنا نحتمي من القصف المتواصل، محاولين إيجاد شعور بالأمان من خلال قربنا وسط هذا الجحيم”.
وأضاف: فجأة ومن دون إنذار أو تحذير، أصابت عدة صواريخ أطلقتها طائرات حربية إسرائيلية المنزل في تمام الساعة الثامنة والنصف مساءً، “وانهار كل شيء فوقنا”.
عيون في سماء غزة
ولكن ما لم يكن يعلمه الناجي هو أنّ طائرتَي تجسّس أقلعتا في الليلة السابقة لهذه المجزرة من قاعدة جوية بريطانية في قبرص وحلقتا باتجاه غزة، وفقًا لموقع “ديكلاسيفايد”.
وذكر الموقع أنّ الطائرة الأولى تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، وحملت رمز النداء “ZZ419”. ومع اقترابها من ساحل قطاع غزة، أوقفت الطائرة جهاز الإرسال والاستقبال الخاص بها، واختفت عن الرادار، وهو بروتوكول تتبعه تقريبًا كل مهمة مراقبة بريطانية فوق القطاع.
أما الطائرة الثانية، فكانت مملوكة لشركة أميركية وتحمل رمز النداء “كروك 11″، فشلت في إيقاف تشغيل أجهزة التتبّع، ما جعل مسارها الدقيق مرئيًا على الإنترنت.
وأظهرت بيانات الرحلة التي نشرها الموقع، أنّ الطائرة حلّقت حول مخيم النصيرات عند الساعة 11 مساء بالتوقيت المحلي لمدة 20 دقيقة تقريبًا، قبل أن تعود إلى قبرص. وفي مرحلة ما، حلّقت الطائرة فوق منزل عائلة الشيخ علي مباشرة تقريبًا، ومرّت على بعد ثلاثة شوارع فقط.
ورفضت وزارة الدفاع البريطانية إخبار موقع “ديكلاسيفايد”، ما إذا كانت وحدة “كروك 11” تعمل لصالح سلاح الجو الملكي البريطاني، الذي يتقاسم المعلومات الاستخباراتية من غزة مع الاحتلال الإسرائيلي.
وفي اليوم التالي، قضت الطائرة “ZZ419” التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني قرابة ساعتين بالقرب من غزة بين الساعة السادسة والثامنة مساء، حيث أخفت موقعها الدقيق من خلال إيقاف تشغيل جهاز الإرسال والاستقبال الخاص بها.
ثم في الساعة الثامنة والنصف مساءً، حلّقت طائرات الاحتلال الإسرائيلي فوق النصيرات وقصفت منزل الشيخ علي، حيث زعمت أنّها استهدفت عضوًا بارزًا في حركة “الجهاد الإسلامي” من دون الكشف عن اسمه.
في هذه المجزرة، استشهد عشرات الفلسطينيين الذين تناثرت جثثهم فوق الأنقاض وتحتها، وفقًا لأحد الناجين الذي تحدّث لموقع “ديكلاسيفايد”، مضيفًا : “تهشّمت وجوه الأطفال الشهداء بشكل لا يصفه عقل ولا قلب. وحتى يومنا هذا، وبعد كل هذا الوقت، لم يُعثر على بعض الجثث التي لا تزال عالقة تحت الأنقاض”.
لم يكن أمام الناجين من المجزرة خيار سوى انتظار فرق الدفاع المدني الذين وصلوا إلى موقع القصف بمركبات قديمة وأدوات يدوية بسيطة، لعدم توفر المعدات الثقيلة. حاولوا بأيديهم وعتلاتهم الصغيرة رفع الحجارة والخرسانة عن جثث الشهداء.
“كان مشهدًا يفوق طاقة البشر على التحمّل”، قال الناجي.
بين الحياة والموت
وبينما تمسّك الناجون بالحياة، عادت “كروك 11” إلى ساحل غزة عند الساعة 11 مساءً بالتوقيت المحلي لإجراء المزيد من عمليات المراقبة وفقًا لموقع “globe.adsbexchange.com” المتخصّص برصد حركة الطيران.
وتُصرّ وزارة الدفاع البريطانية على أنّ رحلات المراقبة التي ترسلها فوق غزة، والتي بلغت أكثر من 600 رحلة منذ عام 2023، تبحث عن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية.
“لكنّ هذه التطمينات لا تُعدّ عزاءً يُذكر للمدنيين الذين تضرّروا من الغارات الجوية الإسرائيلية”، يقول الموقع الذي نقل عن أحد أفراد عائلة الشيخ علي قوله: “عندما انتشلوني من تحت الأنقاض، كنت بين الحياة والموت. قضيت ثمانية أيام كاملة في العناية المركزة، حيث عانيتُ من تمزّق في الطحال وكسور متعدّدة في قفصي الصدري، بالإضافة إلى كسور في لوح كتفي. كما تضرّرت رئتاي بشدة جراء استنشاق الغازات السامة المنبعثة من الصواريخ، وغطت الجروح جسدي بالكامل”.
وبعد مغادرة المستشفى لم تنتهِ المعاناة، بل بدأت رحلة جديدة من الألم والمعاناة، إذ قال الناجي: “حالتي الصحية لا تزال صعبة للغاية. لديّ كسر بنسبة 50% في كتفي، ويحتاج إلى وقت طويل للشفاء. لا أستطيع المشي ولو لمسافة قصيرة من دون أن أشعر بالاختناق. كل نفس يُذكرني بأنّني نجوت من الموت بأعجوبة، لكن ندوبي لن تلتئم أبدًا”.
إلى جانب الألم الجسدي، يغمره شعورٌ بالخسارة، فهو لم يفقد منزله فحسب، بل أيضًا أفرادًا من عائلته وجيرانه وأصدقائه.
يُصرّ الشاب على الإدلاء بشهادته “حتى لا تمحى الحقيقة”، مضيفًا للموقع: “إذا كان هناك دليل على أنّ طائرات الاستطلاع البريطانية شاركت في المذبحة التي ارتُكبت ضدنا، فإن بريطانيا متواطئة في الإبادة الجماعية ويجب محاسبتها دوليًا، كما إسرائيل”.
وأكد: “دماؤنا غالية، ويجب أن تتحقّق العدالة لكل من ساهم في قتل عائلاتنا”.