لم يعد في غزة بيت آمن ولا خيمة مستقرة، فكل مكان مهدد بالرحيل، وكل زاوية مرشحة لأن تُمحى من الخريطة، ومع كل عملية إخلاء جديدة، تتكرر المأساة وكأنها ولادة ألم متواصلة، يخرج فيها الغزيون من بيوتهم كما لو أنهم يتركون أرواحهم خلفهم، حيث لا يعتبر الإخلاء في غزة مجرد حركة نزوح عابرة، بل أصبح طقساً من الألم يشبه انتزاع الروح من الجسد، فحين يضطر الناس إلى مغادرة بيوتهم سواء كانت قائمة على جدران نصف مهدمة أو خيام مهترئة في محيط الركام، فإنهم يرحلون مثقلين بالذاكرة، يحملون معهم مفاتيح بلا أبواب، وصوراً بلا جدران، وأحلاماً بلا سقف.
الوجع الحقيقي لا يكمن فقط في الخروج من البيوت، بل في إحساس الناس أنهم يخرجون من تاريخهم الشخصي
في الأحياء الشمالية والشرقية من مدينة غزة، تتكرر المشاهد القاسية، عائلات تُساق تحت التهديدات المتلاحقة بالاجتياح، نساء يودعن مطابخهن الصغيرة التي بالكاد وفرت لهم طعام يومهم، رجال يضعون على أكتافهم ما تبقى من أغطية، وأطفال يتشبثون بعرائس ممزقة كأنها آخر ما يربطهم ببيوتهم. الوجع الحقيقي لا يكمن فقط في الخروج من البيوت، بل في إحساس الناس أنهم يخرجون من تاريخهم الشخصي، من شجرة زرعوها، من باب ورثوه عن آبائهم، ومن حجر يعرف أسماءهم. حتى من يعيشون اليوم في خيام مهترئة فوق ركام منازلهم، يفضلون بقاءهم هناك على أن يُجبروا على الرحيل مرة أخرى، لكن التهديدات المتلاحقة للاحتلال الإسرائيلي باقتحام مدينة غزة وتفريغها من سكانها تحول الحياة اليومية إلى دائرة مغلقة من الخوف والانتظار، فكل لحظة قد تعني قرار الرحيل القسري الجديد. ولا يقتصر الإخلاء على الأثاث والجدران، بل يمتد إلى اقتلاع الإنسان من ذاكرته وكيانه، لتصبح غزة اليوم شاهدة على مشهد جماعي يتكرر، رحيل بلا وجهة، وحياة تترك أهلها وهم ما زالوا على قيدها.
في غزة النزوح وخروج الروح
ياسمين الشوربجي (45 عاماً) إحدى النساء النازحات تصف لحظة خروجها من بيتها قائلة: “كأنني تركت قلبي خلفي، كنت أسمع صرير الباب الحديدي وهو يغلق للمرة الأخيرة، شعرت أنني أدفن عمري كله هناك”. وتتابع الشوربجي حديثها لـ”العربي الجديد”: “حين خرجت من بيتي شعرت أنني خرجت من جلدي، تركت أواني المطبخ التي رافقتني في كل مواسم الفرح والحزن، تركت شجرة الليمون التي زرعها زوجي قبل أن يستشهد، لم أحمل معي سوى ثوب الصلاة وصورة أولادي، كنت أمشي والدمع يحرق وجهي، وكأنني أدفن بيتي وأنا على قيد الحياة”.
وتشاركها شعور الألم الفلسطينية سعاد حمد التي خسرت بيتها بعد أن قصفته الطائرات الحربية الإسرائيلية، ما دفعها إلى إنشاء خيمة على أنقاضه في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، لكنها نقلتها مجدداً نحو المناطق الغربية، وتعيش الآن هاجس الخروج النهائي من مدينتها. وتقول لـ”العربي الجديد” إنها ورغم تدمير بيتها كانت تعيش بجانبه في خيمة صغيرة، “عندما جاء التهديد الجديد بالرحيل، شعرت أن الاحتلال لا يكتفي بهدم الحجر، بل يريد أن يهدم فينا ما تبقى من ذاكرة، كنت أنظر للركام وأقول: هنا وُلدت، وهنا سأموت، لكنني مجبرة على تركه وكأنني أترك قلبي معلقاً بين الحجارة”.
أما الفلسطيني أحمد أبو حديد، والذي انتهي مؤخراً من تركيب الشادر بديلاً عن الجدران المهدمة في بيته وسط مدينة غزة، فيوضح أن الاحتلال الإسرائيلي يدرك جيداً مدى قسوة أوامر الإخلاء ووقعها الكارثي على نفوس الناس الذين فقدوا كل شيء. ويبين أبو حديد لـ”العربي الجديد” أن النزوح الحالي سيكون أكثر صعوبة وقسوة من أي نزوح سابق، خاصة بعد تدمير المحافظات الجنوبية وانعدام الخيارات أمام الفلسطينيين الذين خسروا مدخراتهم وقدرتهم على الحركة، وتحديداً في ظل الارتفاع الجنوني بأسعار النقل والمواصلات.ويضيف “أصعب لحظة يمكن أن يعيشها الشخص وهو يغلق باب بيته للمرة الأخيرة، وهو يدرك أنه لن يعود إليه مجدداً، وإن عاد سيجده كومة من الركام”، مبيناً أن هذا الشعور يدركه الاحتلال الذي يحاول مضاعفة الألم والمعاناة لدى الفلسطينيين عبر زيادة حالة التشتت والضياع والتشرد.
وتثبت الحالة الصعبة التي يعيشها الغزيون في هذه اللحظات أن الإخلاء ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل جرح ينزف في الروح، يخرج الناس من بيوتهم كما لو يودعون أعمارهم، تاركين خلفهم أحلاماً وأثراً وذاكرة، بين الركام والخيام والتهديدات، ليتحول الرحيل القسري إلى موت بطيء يشبه خروج الروح من الجسد.