في تحوّل دبلوماسي لافت، أعلنت الدنمارك أن قرار الاعتراف بدولة فلسطين لم يعد مشروطاً بموافقة الحكومة الإسرائيلية، في مؤشر واضح إلى تغيير مهم في توجهات السياسة الخارجية الدنماركية تجاه القضية الفلسطينية، وذلك في وقت يتصاعد فيه الزخم الدولي المؤيد للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وقال وزير الخارجية الدنماركي لارس لوكا راسموسن، في تصريحات لهيئة البث العام “دي آر” مساء الخميس: “في الواقع، كنا قد منحنا الحكومة الإسرائيلية نوعاً من حق النقض (الفيتو) بشأن اعترافنا بفلسطين، وهذا لم يعد مجدياً. لذلك، نرفع الآن هذا الحق (الفيتو)”. وتُعد الدنمارك من بين دول شمال أوروبا التي تبدي حساسية خاصة تجاه وضع الضفة الغربية المحتلة، حيث تعتبر أن الاستيطان الإسرائيلي والمساس بالوضع القانوني للأراضي الفلسطينية يُعدّان من أبرز العوائق أمام تطبيق حل الدولتين.
وترتبط كوبنهاغن بعلاقات دبلوماسية مع السلطة الفلسطينية، إذ تمتلك تمثيلاً رسمياً في مدينة رام الله، وتشارك من خلال “البيت الدنماركي” في برامج تنموية واجتماعية وثقافية، تركز على الحقوق المدنية ودعم المجتمع المحلي. كما تحتفظ فلسطين بممثلية دبلوماسية في كوبنهاغن، يترأسها السفير مانويل حساسيان.
تغيير في ثوابت السياسة الخارجية
لطالما التزمت الدنمارك، على غرار عدد من الدول الأوروبية، بموقف يُرجئ الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى حين التوصل إلى اتفاق سلام على أساس حل الدولتين. لكن هذا الموقف بدأ يتآكل، خاصة مع تعثر المفاوضات وتصلّب الحكومة الإسرائيلية الرافضة لهذا الحل. في هذا السياق، أشار راسموسن إلى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، برئاسة بنيامين نتنياهو، لا تُظهر أي نية للسير في مسار الدولتين، مؤكداً أن الدنمارك “لا يمكنها أن تنتظر موافقة إسرائيل إلى الأبد”.
كما تشهد الدنمارك حراكاً إعلامياً وشعبياً متزايداً يصف ما يجري في قطاع غزة بـ”الإبادة الجماعية”، إلى جانب موجة انتقادات شديدة بسبب تصريحات لوزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش حول نية ضم 83% من الضفة الغربية، ما عمّق الشعور بغياب أي أفق سياسي للحل، وعزز الدعوات داخل البرلمان والأحزاب السياسية لفرض عقوبات على الاحتلال، ومراجعة العلاقة مع إسرائيل.
الاقتراب من الاعتراف دون حسمه
رغم الزخم المتصاعد، أكد راسموسن أن بلاده لم تتخذ بعد قراراً نهائياً بشأن الاعتراف بدولة فلسطين، لكنها “تقترب من هذه الخطوة”، وتدرس حالياً الشروط المناسبة لتنفيذها. كما أعلن راسموسن نية انضمام الدنمارك إلى “إعلان نيويورك”، وهو مبادرة دولية تسعى إلى وقف إطلاق النار في غزة، واستعادة الحكم الفلسطيني في كل من الضفة الغربية والقطاع، وتهيئة الطريق نحو تسوية سياسية شاملة تقوم على حل الدولتين.
دولة فلسطينية بشروط واضحة
في رؤيته لحل الدولتين، أوضح وزير الخارجية الدنماركي أن بلاده لا تكتفي بالاعتراف الرمزي، بل تطالب بقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح، تُجري إصلاحات مؤسسية، ولا تكون خاضعة لسيطرة حركة حماس. وقال راسموسن: “الدولة الفلسطينية التي نتخيلها هي دولة بلا حماس، بلا جماعات مسلحة، تُطلق سراح الرهائن، وتلتزم بالقانون الدولي. وجود حماس في غزة، المصنفة منظمة إرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي، يُعقّد المشهد، لكنه لا يمنع تغيير نهجنا السياسي”.
تحرك أوروبي متسارع
يأتي هذا التغير في الموقف الدنماركي في سياق أوسع يشهده الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن في تموز/ تموز الماضي، أن بلاده ستعترف بدولة فلسطين “في الوقت المناسب”، وقد يتبلور ذلك خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نهاية أيلول/ أيلول الجاري. كما عبّرت دول أخرى مثل بلجيكا وأستراليا وكندا عن استعدادها لاتخاذ خطوات مشابهة، فيما تتحضر فرنسا والسعودية لعقد اجتماع دولي خاص بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وفي هذا الإطار، قال راسموسن: “لا جدوى من ربط قرارنا باعتراف إسرائيل. لو بقينا ننتظر، فلن يحدث شيء. آن الأوان لإعادة النظر”، وذلك ربما يعكس جدية ما طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خسارة الاحتلال الإسرائيلي في معركة الرأي العام والعلاقات العامة حول العالم.
وفي حين سبق أن وصفت الحكومة الدنماركية الاعتراف بالدولة الفلسطينية بأنه “خطوة رمزية”، يبدو أن المزاج السياسي في كوبنهاغن آخذ بالتغير. فقد باتت الرمزية، في هذا السياق الدولي الضاغط، تُعد ذات أثر سياسي ملموس، خاصة مع تصاعد الغضب من الجرائم الإسرائيلية في غزة، وتعطل العملية السياسية. وكانت وزيرة الخارجية الفلسطينية فارسين شاهين قد دعت، في وقت سابق، الدنمارك إلى الاعتراف الفوري بفلسطين، وردّ عليها راسموسن آنذاك بقوله: “الاعتراف في الظروف الحالية يعني الاعتراف بنصف الحقيقة فقط، فهناك سلطة في رام الله، لكن حماس تسيطر على غزة، وهذا واقع لا يمكن تجاهله”.
التصريحات الأخيرة الصادرة عن وزير الخارجية الدنماركي، والقرار بإلغاء “الفيتو الإسرائيلي” الضمني، والانخراط في المبادرات الدولية الداعمة لحل الدولتين، كلها مؤشرات إلى أن كوبنهاغن بصدد إعادة رسم سياستها الخارجية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ورغم أن الاعتراف الرسمي لم يُعلن بعد، إلا أن الدنمارك باتت، كما يبدو، أقرب من أي وقت مضى إلى اتخاذ هذه الخطوة، خاصة إذا ما استمر الزخم الأوروبي والدولي في هذا الاتجاه.
ويبقى أن نترقب ما ستسفر عنه الجمعية العامة للأمم المتحدة بنهاية هذا الشهر، وما إذا كانت كوبنهاغن ستنضم رسمياً إلى الدول التي اعترفت بدولة فلسطين، أم ستواصل السير تدريجياً نحو ذلك في إطار سياسة محسوبة.