“إذا نظرتَ طويلاً في الهاوية، فستنظر الهاوية إليك أيضاً”. بعبارة الفيلسوف الألماني نيتشه هذه، يلمّح التونسي مهدي هميلي، مُقدَّماً، إلى المصير المُنتظَر لمحمد (غانم زرلي)، بطل “اغتراب” (2025)، حين يتخيّله مُحدِّقاً طويلاً في الهوّة السحيقة التي يحفرها رجال دولة فاسدون، وأصحاب مصالح اقتصادية، يدفعونه وزملاء له في مصنع وطني للحديد والصلب، عنوةً، إلى قعرها العميق. وبفعل الرغبة في الانتقام منهم، تغدو دواخله سوداء، كسواد أعماق الهاوية السحيقة.
يؤجّل نص “اغتراب” (سيناريو هميلي) فعل الانتقام إلى النهاية. في نصفه الأول، ينشغل أكثر بالتمهيد لفهمه وفق الظروف المحيطة بوجود بطله وزملائه، في ذاك المصنع العملاق، ومناخاته المعتمة، التي تطغى على المشهد العام كلّه. اللون البُنّي الصدئ، الطاغي على الشاشة، ينقل ذاك الإحساس الثقيل “الحديدي”، المتأتي من فعل ضخامة آلات الصَّهْر والقطع، المصحوب عملها من دون انقطاع بفورات كتل حديدية مُسالة، يتعامل عمّال المصنع معها بحذر ومرونة.
لتعميق رؤيته الإخراجية للمادة، المُقترح معالجتها سينمائياً، يوسّع هميلي مساحة المناخ المكفهرّ إلى خارج المصنع، إلى الحياة في تونس، كما يراها، مُتصدّئة قاسية، مُصوّراً مَشاهِدَها ببراعة لافتة بقوة تعابيرها الحسّية، ورهافتها البصرية (تصوير فاروق العريض).
ثقل المناخ العام، والحذر الدائم للعمّال من احتمال تعرّضهم للخطر، يفرضان إيقاعاً سردياً بطيئاً، يقارب حركتهم وحركة الآلات. بالعمل عليه، وتجسيده بإقناع يستوجب انضباطاً إيقاعياً واختياراً أسلوبياً مناسباً، يبدو مهيلي، عند الأخذ بهما، كأنّه يتراجع عن أسلوبه الذي اختاره في إنجاز فيلمه الأول “أطياف” (2021)، الآخذ منحىً سردياً تقليدياً، ينقل عبر ديناميكيته وسرعة إيقاعه حكاية أمٍ تونسية تكافح لإنقاذ ولدها من عصابات المخدرات.
أسلوبه البطيء، الذي يعاين مقدار الاغتراب الحاصل بين الكائن المستلَب والمكان المقيم فيه، يُثير سؤالاً عن اختيار النوع الفيلمي المناسب للفكرة، المُقترح معالجتها سينمائياً، حين تتقارب بينها المساحات الجارية فيها أحداثها، كما يحصل بين التونسي “اغتراب” والمصري “المستعمرة” (2025) لمحمد رشاد. يخرج مُشاهد الأخير بانطباعٍ مفاده أنّ النوع الوثائقي لا الروائي أنسب إلى فكرته.
في “اغتراب”، الأمر مختلف تماماً. فرغم التوقّف الطويل لكاميرته أمام تفاصيل المكان ـ المصنع وحركة آلاته وعمّاله، المدعوّة إلى التأمّل في ما وراءها، يميل مهدي هميلي إلى التوافق مع الإيقاع البطيء والحسّي، العاكس ركود دواخل عمّاله ورتابتها، الذين تكاد علاقاتهم بالخارج مقطوعة. أحياناً كثيرة، ينامون في المصنع. يسهرون ويشربون معاً لتبديد رتابة مساءاتهم الحزينة. حتى الجنس، يشترونه ليبدّدوا حاجتهم إليه بسرية في عنابرهم. لهذا، وبفعل عملهم ومكوثهم الطويل بين جدرانه، يُصبحون جزءاً منه، لا تعني لهم الحياة خارجه كثيراً، إذ تكفيهم رفقتهم الحاصلة في المكان.
خسارة أحدهم أثقل عليهم من خسارات أخرى في الحياة. هذا الشعور يُلازم محمد منذ موت صديقه عادل (محمد قلصي)، بانفجار حاملة حديد عملاقة كان يُسيّرها، تسبّبت بموته، وبإصابة محمد بجروح جراء اختراق شظية متطايرة أصابت رأسه. لم يقتنع بالأسباب الواردة في التقرير، المُقدّم من إدارة المصنع القديم التابع للدولة، التي تُقرّ بخطأ تسبّب العامل الفني به، وتستند بهذا إلى شهادات غامضة لعمّال، يؤكّدون مسؤوليته الشخصية عما جرى.
يشرع محمد في البحث عن الحقيقة. جرّاء ذلك، يتعرّض لعقوبة مهنية. يُنقَل من العمل في المصنع إلى خارجه، بصفة حارس أمني. على الخطّ، تظهر ليلى (مرام بن عزيزة)، زوجة العامل المتوفّى، الراغبة في قبول الحاصل خوفاً من تبعات، والتي بحضورها تكسر هيمنة ذكورية على المشهد العام، المشغول بالرجال، عمّالاً ورجال أعمال فاسدين ومتورّطين. يتداخل النص السينمائي بين الإثارة والفانتازيا، المتجسّدة بفكرة تحوّل محمد إلى “كائن حديدي”، بسبب تشظّي قطعة الحديد الباقية في رأسه إلى بقية جسده، ويتغلغل صديدها بطيئاً بين مسامات جلده. لم يعد بعدها خائفاً على وظيفته. يُخطّط لمعرفة الجاني الحقيقي، المُتسّبب بموت صديقه.
إطالة البحث، وكثرة ما فيه من كليشيهات مُكرّرة، تضعفان الجانب الفانتازي والجميل فيه. كشف المخفي من حقائق فاضحة لأسباب موت العامل، المتورّط بتخريبٍ متعمّد يهدف إلى تعطيل المصنع، لعرضه بعد ذلك إلى البيع ضمن سياسة الخصخصة، المُراد بها استبدال الملكيات والمشاريع الصناعية العامة بأخرى يملكها أثرياء وفاسدون من رجال الدولة.
فعل الانتقام من المخطّطين لتخريب المصنع قاسٍ، كجسده الذي أضحى حديدياً، ينزّ قيحاً يشبه صدأ المعادن، وثقيلاً كرأسه المليء بالكوابيس والأصوات المخيفة. ليودّع ذلك العالم الذي أحبّه، يزور رفاقه ليلاً. كانوا نائمين. يراقبهم، فيرى آثار تسرّب الحديد الصدئ إلى أجسادهم. يضحون مثله بعد موته: يحدّقون طويلاً في الهاوية، والهاوية تحدّق بهم أيضاً، كما حدّقت به، وحوّلته من عامل طيب إلى كائن حديدي مليء بالقسوة والرغبة في الانتقام من الذين حطّموا حياته، وأنهوا حياة من كان يحبّهم.