كيفك عفراقي؟

تشبه علاقة فضل شاكر مع الجمهور العربي علاقة الجمهور نفسه مع الراحل زياد الرحباني، فبعد تصريح الأخير قبل سنوات عن رأيه المضادّ للربيع العربي وللثورة السورية، تحديداً، حاول إعدامه (معنوياً) محبّون وكارهون له، حيث قام هؤلاء بنشاط واضح يهدف إلى شيطنة زياد وتسفيه منجزه الفني، وتباروا بمن يتمادى أكثر في كرهه وأعماله، وكأن للرأي السياسي المستجد للفنان أثره الرجعي على الذائقة الفنية للجمهور الذي يحاول التبرّؤ من ذائقةٍ كانت مغرمةً به، كي لا يوصم بأنه غير ثوري. لكن محبّة جمهور زياد عادت بقوة مع رحيله المفاجئ في تموز/ تموز الماضي، كما لو أن الموت يجبّ ما قبله، أو ربما مآلات الثورة السورية وحالة الانحدار الفاضحة في دول الربيع العربي أعادت ضبط الذائقة الفنية إلى وضعها الصحيح.

حدث الأمر نفسه مع فضل شاكر، لكن من الطرف المقابل، إذ ثمّة تحوّل كبير حصل في شخصية شاكر خلال العقد الماضي، حين اعتزل الغناء فجأة وأعلن التحاقه بالشيخ السلفي أحمد الأسير (المفارقة أن هذا ينتمي إلى عائلة غناء وموسيقى). وحصلت أحداث صيدا (معركة عبرا) التي اتهم فضل شاكر بالمشاركة بها، فلوحق أمنياً، ثم اختبأ في مخيم عين الحلوة الفلسطيني سنوات طويلة ملاحقاً بتهم قضائية وجنائية، قبل أن يظهر على الإعلام مجدّداً عبر منصّة شاهد في فيلم وثائقي عن تحوّلاته السياسية والإنسانية. وقد لاقى هذا التحول في شخصية فضل شاكر استحساناً كبيراً لدى جمهور عربي سيبقى طويلاً يصنّف الفن نوعاً من الزندقة، وفي التوبة عنه عتقاً من النار. كما كان لموقف فضل شاكر وقتها من الثورة السورية دور كبير في استحسان تحوله، وجعل كثر ممن لم يكونوا معنيين بفنه يستعيدون أغنياته التي أعلن هو نفسه التبرّؤ منها، في مفارقة مدهشة تتيح سؤالاً آخر: هل الموقف الثوري، حتى لو كان متطرّفاً، ينتج ذائقة فنية جديدة؟

لم يكن فضل شاكر مؤدلجاً كزياد الرحباني، اليساري الشيوعي. هو ابن بيئة شعبية محافظة، ليس لديها أي حصانة فكرية أو نفسية لمقاومة خطاب ديني طائفي سياسي ينشط في الأزمات الوجودية، كحال الربيع العربي والثورة السورية، وتأثر لبنان بها. ويبدو أن الفن لم يكن كافياً له لملء فراغ روحي تشكّله أزمة هوياتية أو أسئلة وجودية لا إجابات شافية لها. كان الخطاب الديني لفنان رومانسي مثله الإجابة الوحيدة المتاحة وسط العواصف التي كانت على وشك إطاحة كل البديهيات والمسلّمات عن انتصار الحق على الباطل، وعن مساندة الخالق المظلوم ووقوفه معه. كان الواقع عكس ذلك، فالباطل هو السيد وهو المنتصر. مع شخصية مركّبة أيديولوجية، مثل زياد الرحباني، سوف يكون الالحاد تمرّداً على منطق القوة والظلم، بينما شخصية بسيطة مثل فضل شاكر سوف يكون التطرّف الديني إجابة وبحثاً عن هوية واضحة، تحافظ على الذات من التشظّي.

يبدو أن ذلك التطرف لم يكن أصيلاً في شخصيته، حيث بدا كما لو أنه أجرى مراجعة ذاتية لموقفه من الفن، فعدل عن قرار الاعتزال شيئاً فشيئاً، حتى ظهر في ألبوم “بجامل ناس 2022″، بقي صوته فيه هادئاً وحسّاساً وراقياً. وبقيت خياراته في الكلام واللحن متفوّقة على أقرانه وزملائه من اللبنانيين والعرب.

ظهر ألبومه من دون ضجيج إعلامي مرافق له (كما لو أن الإعلام العربي ما زال يخشى من اتهامه بالانحياز للتطرّف)، ومع ذلك، حصد الألبوم ملايين المشاهدات على “يوتيوب” في مدّة قصيرة جداً. ليتبعه بأغنيات متفرقة ظهرت خلال الأشهر الماضية وصورت بكاميرا عادية ظهر فيها هذه المرّة مع نجله محمد الذي ورث عن أبيه خامة الصوت الحسّاسة، كما لو أن شاكر يعلن قطيعة نهائية مع فترة التطرّف بتقديم ابنه هدية للفن والطرب. وحققّت أغنية “كيفك عفراقي” نجاحاً منقطع النظير خلال أيام قليلة من بثها على “يوتيوب”. بدا فيها فضل شاكر كما لو أنه يستفسر إن كان جمهوره قد اشتاق له، وإن كان قد سامحه عن خطيئته التي ارتكبها في حقّ الفن.