وطني لو شغلت بالخلد عنه

يسألني كثير من الناس عن مآلات الأمور في الوطن العربي، وإلى أين نحن ذاهبون؟ وماذا تفعل دولة كالأردن حيال أطماع إسرائيل في فلسطين وسورية والأردن نفسه؟ وإلى أي حد سوف ينجح الإسرائيليون وغُلاتهم في تحقيق أحلام بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الذي يبدو تحت زهوة القوة العسكرية طامعاً في تحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”. ويتساءل كثيرون من العرب عن حال الأوضاع في الدول العربية حيث يبدو الماء راكداً على السطح. ولكنه ربما يكون أقرب إلى ما قاله الشاعر سُدَيف بن ميمون: لا يغرنك ما ترى من رجال.. إن تحت الضلوع داء دوياً. وقد أدى هذا البيت إلى مقتل سليمان بن هشام بن عبد الملك من قبل أول الخلفاء العباسيين أبي العباس عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.

وبالمقابل، هناك من ينادي في الوطن العربي بأن يهبوا للمقاومة قائلاً لوُلِاة الأمر في الوطن العربي ما قاله الشاعر عمران بن حطان الشيباني الوائلي، أحد أهم شعراء الخوارج، في بيته الشهير: أسد عليَّ وفي الحروب نعامةٌ.. ربداء تجفل من صفير الصافر.
أو أن يستَفِز الناسَ والحكامَ للقتال متمثلاً بقول شاعر الخوارج قطري بن الفجاءة الذي قال: فصبراً في مجال الموت صبراً.. فما نيل الخلود بمستطاع، ولا ثوب البقاء بثوب عز.. فيطوى عن أخي الخنع اليراع. ومن الناس من يدعو إلى الذكاء والحكمة والصبر، فقدرة العدو أن يفعل بنا ما يشاء لم تأت بين يوم وليلة، فهي أخضعتنا منذ مرض الإمبراطورية العثمانية حتى الآن (أي في آخر قرن على الأقل) لكثير من المؤامرات والانقلابات والاستعمار والاستيلاء على الثروات وتقسيم الوطن العربي إلى دويلات، وخلق إسرائيل وتغيير الأنظمة بالانقلاب لامتصاص حماس الشعوب، وبحرب عام 1967 وبالفتن الداخلية واختلاف النظم السياسية والحروب والربيع العربي وغيرها… حتى أوصلتنا إلى حالة الوهن والتراجع الذي نعيش فيه وتمثله قصيدة أحمد شوقي التي ألقاها يوم تذكر المناضل المصري مصطفى كامل بعد 17 عاماً من وفاته. ويقول شوقي: إلام الخُلْف بينكم إلاما.. وهذي الضجة الكبرى علاما؟ وفيم يكيد بعضكم لبعض.. وتبدون العداوة والخصاما.

فهل دودُنا في عودنا؟ وهل نسهل على أعدائنا مهمتهم في تجزئتنا وتهديد وجودنا وثقافتنا وحضارتنا ومستقبلنا؟ وعلى الجانب الآخر، نرى الناس بين من يقول لك إن إسرائيل قد هيأت نفسها ليوم عظيم تحاربنا فيه وتحقق احتلالها لنا وطردها أناسنا من أوطانهم حتى تصبح الأوطان ملكاً لها. ويقول إن استعمال الحكمة والذكاء والرؤية غير كاف في زمن يحتلون فيه كل يوم أراضي جديدة لنا. فهاهم قد احتلوا أجزاء من ريف دمشق ومن جنوب سورية على امتداد الحدود مع الأردن، ويقايضون على اعتراف النظام السوري الجديد باحتلالهم هضبة الجولان. وهم مستقرون في جنوب لبنان ويتوسعون في التنكيل بأهل غزة ودفعهم من شمال القطاع إلى جنوبه، وماضون في مصادرة آلاف الدونمات في الضفة الغربية. فما الذي ننتظره بعد ذلك؟ إنهم يحققون مكاسب على الأرض ويستثمرون الفرصة السانحة لهم. فهل نمنحهم هذه الفرصة ونحن ندرك نياتهم وعمق الشرور التي يظهرونها ويضمرونها لنا؟ 

ولكن فلنتوقف للحظة، لماذا تقوم دولة عملاقة كالولايات المتحدة ورئيسها ووزير خارجيتها بالإصرار على عدم منح الوفد الفلسطيني والرئيس محمود عباس تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة من أجل حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ وما هو الهدف من وراء ذلك؟ واضح أن الهدف في أساسه هو بإيعاز من إسرائيل. ولا أستبعد دوراً لجاريد كوشنر ورئيس وزراء المملكة المتحدة الأسبق توني بلير في هذا المنع لتصغير قدرة الجانب الفلسطيني على المناورة لزيادة عدد الدول التي ستعترف بدولة فلسطين هذا الشهر. وإذا كان العرب الحاضرون عندهم الاستعداد، فإنهم قادرون على أداء هذا الدور دعماً لفلسطين وتأمين عدد محترم من الأصوات الأوروبية واللاتينية والأفريقية المعترفة بفلسطين دولةً مستقلةً على كامل الأرض المحتلة عام 1967.

كذلك، فإن قيام أي دولة باتخاذ إجراءات قد توصف بأنها ذات طبيعة عسكرية أو قتالية أو دفاعية، فالأميركان والإسرائيليون يرصدونها ويسجلونها. وعلى سبيل المثال، فقد تلقيت طلبات من عدة جهات لمقابلات حول مشروع “خدمة العلم” الذي طرحه الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد، قبل أكثر من أسبوعين. وكذلك، فإنهم يتساءلون عن سبب زيارة وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي إلى روسيا، وإلغاء التأشيرات بين البلدين والدخول في استثمارات كبيرة مشتركة خاصة في مجال السياحة وغيرها. وهذا طبعاً لن يحول دون إصرار الأردن على السير في الأمرين بغض النظر عن مواقف الريبة التي تبديها إسرائيل والولايات المتحدة.

ومن قال إن إسرائيل قادرة على أن تضع جنوداً على أراض عربية تحتلها في لبنان وسورية بالإضافة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد قام كثير من المعلقين الإسرائيليين الصهاينة بالكتابة عن أضغاث الأحلام التي تراود نتنياهو بإسرائيل الكبرى قائلين إن هذا يتعارض ويتنافى مع الأيديولوجية الصهيونية. وقال أحدهم إن حلم الصهيونية كان خلق دولة لليهود تكون غالبية أهلها من اليهود لتكون لهم ملاذاً ومأوى من الشرور التي عانوا منها في أوروبا، وبخاصة إبان الحرب العالمية الثانية. وفي مقابلة مع “سي أن أن” على برنامج كريستيان أمان بور، قال نمرود نوفاك: “إن إسرائيل ستشهد تغيرات تسونامية خاصة إذا اعترفت دول كثيرة بدولة فلسطين، وعلى إسرائيل أن تقبل حل الدولتين، وتعيد أراضي للفلسطينيين لكي يبنوا دولتهم، وعلى تقليل عدد السكان من غير اليهود في إسرائيل لتبقى غالبية المواطنين فيها منهم”.

لا نستطيع، نحن العرب المحللين، أن نركز على ما يقوله بنيامين نتنياهو الذي أرى أنه لا يمكن أن يبقى متزعماً في الصدارة داخل إسرائيل وننسى ما يقوله علماؤهم ومؤرخوهم، وما نشهده من تغيرات في المزاج العالمي ضد إسرائيل، وسقوط الأوثان التي كرسوا مئات الملايين من الدولارات لتثبتها في عقول الناس مثل: “إن انتقاد إسرائيل هو انتقاد لليهود، وإن كل ما يقال عن سلوك بعض اليهود في العالم من نقد سلبي هو نوع من اللاسامية”. هذه الأوثان البالية ليست إلا ما قاله فرانسيس بيكون في رسالته الشهيرة بعنوان Idols of the Minds أو أوثان العقل، وهي كلمات يكتفى بقولها لكي تدمغ إنساناً بنعوت سلبية أو تجعل منه أيقونة تستحق الاحترام وهو لا يساوي شروى نقير.

وادعاء نتنياهو أن إسرائيل هي الضحية وأنها تدافع عن نفسها ما عاد مصدقاً من أحد إلا مَنْ عميت بصيرته عن رؤية الحقائق وإدراكها. والصور التي تبث عن غزة، التي تكرر تدميرها، تذكر بالأحياء اليهودية التي دمرها النازيون. ويستطيع سموتريتش وبن غفير والمتشددون من وزراء إسرائيل ومن أحبائهم الذين يحرفون الكلام عن موضعه أن يتباهوا، وأن يعيثوا في باحات الأقصى وميادين القدس فساداً كما يشاؤون، ولكن قصر الزمان أو امتد قليلاً، فقد بدأت الحلقات تضيق حول رقابهم، ولا بد لهم إن كان لديهم ذكاء أن يستدركوا أمرهم قبل فوات الأوان.

وعلى العرب ألا يقوموا بأعمال تعطي المتطرفين من يهود إسرائيل والعالم الطاقة ليحدثوا فساداً أكبر، بل لا بد أن يتعاونوا مع العقلاء والمعتدلين من اليهود الذين يريدون أن يعيشوا في أمن وأمان مع جيرانهم. هؤلاء يجب أن يجدوا من يؤازرهم في الوطن العربي لا حُباً بهم بالضرورة، ولكن لأن فكرهم كما عكسه نمرود نوفاك، مستشار شمعون بيريز، يتفق مع هدفي حل الدولتين، والعيش بسلام وإنهاء حالة الحروب وإعطاء المنطقة الفرصة لكي تحل أزماتها ومشاكلها الحالية التي تتبلور يوماً بعد يوم، مثل نقص المياه والأمن الغذائي وبطالة الشباب وتحسين الانتاج وإبقاء كلف الإنتاج في متناول يد الجميع.

لا يمكن للوضع الراهن غير المستقر أن يبقى على حاله، وليس المطلوب من العرب الحرب، ولكن رفع مستوى أدائهم في الدفاع عن أوطانهم كي لا تحتل، وعليهم أن يتبنوا مواقف من أصدقائنا في العالم، وعليهم أن يصروا على بناء أوطانهم وتحسين مستوى التعليم ورفع الوعي بأهمية التربية الوطنية حتى لا نعتدي على كل ما هو مال عام، وأن نحافظ على أوطاننا نظيفة، وأن نستثمر مواردها على أفضل شكل ممكن. هذه هي القوة الخفية المطلوبة للمقاومة.