تحوّل مهرجان البندقية السينمائي، أحد أعرق المهرجانات في العالم، هذا العام إلى مساحة واضحة للتضامن مع الفلسطينيين الذين يتعرضون لحرب إبادة متواصلة منذ السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول 2023 في قطاع غزة. ففي دورته الـ82، لم تقتصر الأضواء على الأفلام والنجوم، بل امتدّت لتغطي واحدة من أوسع المظاهرات المؤيدة لفلسطين في تاريخ الفعاليات السينمائية الكبرى. أمام الكاميرات التي لطالما اعتادت التقاط صور الفساتين الفاخرة والابتسامات اللامعة، علت أصوات المحتجّين، ملوّحين بالعلم الفلسطيني ومطالبين بوقف حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، فيما قدّم المهرجان مساحة غير مسبوقة لأعمال سينمائية تناولت جرائم الحرب والمعاناة الإنسانية.
احتجاجات غير مسبوقة
شهدت البندقية مسيرات شارك فيها آلاف المحتجين من ضيوف المهرجان وسكان المدينة على حدّ سواء. ورفع هؤلاء شعارات تطالب بوقف الإبادة وتحرير فلسطين، ورفرفت الأعلام الفلسطينية في أرجاء جزيرة الليدو، بينما أغلق الأمن الطرق المؤدية إلى مقرّ المهرجان. الاحتجاج الذي نظّمته مجموعات محلية ودولية، جاء نتيجة خطاب مفتوح وقّعه مئات المخرجين والممثلين والمنتجين يطالبون إدارة المهرجان باتخاذ موقف واضح وصريح ضد جرائم الحرب في غزة.
جاء في البيان: “مهرجان البندقية يجب ألا يبقى حدثًا معزولًا عن الواقع، بل منصة لإدانة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، وللتنديد بتواطؤ الحكومات الغربية، ولدعم الشعب الفلسطيني”.
من بين الموقعين على البيان أسماء بارزة مثل الممثل البريطاني تشارلز دانس (Game of Thrones) والمخرجين الفلسطينيين طرزان وعرب ناصر، إضافة إلى فنانين أوروبيين بارزين. كما طالبت الحملة بمنع حضور ممثلين وفنانين دعموا إسرائيل علنًا، مثل غال غادوت وجيرارد بتلر، وهو ما أدى لاحقًا إلى تأكيد عدم مشاركة غادوت في المهرجان.
صوت هند رجب
أحد أبرز أعمال المهرجان كان فيلم “صوت هند رجب” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، الذي حظي بعرض عالمي أول ضمن المسابقة الرسمية. الفيلم يعيد سرد الساعات الأخيرة في حياة الطفلة هند رجب (6 سنوات)، التي علقت في سيارة تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي في غزة يوم 29 كانون الثاني/ كانون 2024، بعد أن قُتل خمسة من أفراد أسرتها. ظلّت هند تتوسل عبر الهاتف فرق الإسعاف التابعة لـ”الهلال الأحمر الفلسطيني”، قبل أن يُستهدف المسعفون أنفسهم وتُقتل الطفلة برصاص جنود الاحتلال، حيث اخترقت السيارة 335 رصاصة.
بنت كوثر بن هنية فيلمها على التسجيلات الصوتية الأصلية لنداء استغاثة هند، بعد حصولها على إذن العائلة والهلال الأحمر الفلسطيني. واستعانت بممثلين فلسطينيين لتجسيد المسعفين، لكنها أبقت صوت هند الحقيقي كما هو. تقول بن هنية في تصريحات إعلامية سبقت عرض الفيلم يوم أمس في المهرجان: “كنت خائفة أن أفشل في إيصال صوتها، ألا يكرّم الفيلم ذكراها. كان عليّ أن أجد لغة سينمائية للحزن والشهادة، وأن أواجه صمت العالم”.
يحمل الفيلم أبعادًا سياسية متشعبة، إذ يضع المشاهد أمام سؤال مركزي: هل الاكتفاء بالمشاهدة شكل من أشكال التواطؤ؟
كما حظي بدعم تنفيذي من أسماء هوليوودية لامعة مثل براد بيت، ووواكين فينيكس، وألفونسو كوارون، ما منح الفيلم زخمًا عالميًا وأتاح له فرصة أوسع للوصول إلى جماهير جديدة.
من لا يزال حيًّا
الفيلم الوثائقي السويسري “من لا يزال حيًّا” (Who Is Still Alive) للمخرج نيكولا واديموف سجّل حضورًا بارزًا آخر في المهرجان. العمل يعرض في قسم Giornate Degli Autori، ويمثّل شهادة بصرية جماعية لقصص تسعة ناجين من غزة.
في الفيلم، يرسم المشاركون خرائط أحيائهم المدمّرة بالطبشور من ذاكرتهم، بينما يروون تفاصيل ما فقدوه من أحبّاء وأصدقاء، في سردية تجمع بين التوثيق الحميمي والرمزية الفنية. يقول واديموف: “لسنا أمام حرب عادية. ما يحدث في غزة يختبر إنسانيتنا جميعًا. إذا فقدنا إنسانيتنا هنا، سنفقدها في أوكرانيا، وفي الولايات المتحدة، وفي كل مكان”. يقدّم الفيلم مقاربة مختلفة عبر التركيز على الطبقة الوسطى الفلسطينية، من موسيقيين ومصورين ومؤثرين على وسائل التواصل، في محاولة لتقريب المشاهد الغربي من حياة الغزيّين العاديين، وكسر الصورة النمطية التي تحصر الفلسطيني في دور الضحية البعيدة.
البندقية بين الحياد والانخراط
رغم محاولات إدارة المهرجان الحفاظ على “الحياد الفني”، إلا أن ألبرتو باربيرا، المدير الفني، اضطر للرد على أسئلة متكررة حول موقف المهرجان من الحرب. قال باربيرا: “لم نرفض أي فنان بسبب مواقفه السياسية، لكننا في الوقت نفسه عبّرنا بوضوح عن حزننا العميق لما يحدث في غزة، وخصوصًا لمقتل المدنيين والأطفال”. لكن على الأرض، تجاوز المهرجان الحياد التقليدي، فعرض أفلاما تتناول المجازر في غزة، ووضع على جدول أعماله جلسات حوارية عن أخلاقيات التمثيل السينمائي للضحايا، كما فتح مساحاته لاحتجاجات مرئية، حيث حمل الفنانون لافتات دعم لفلسطين على السجادة الحمراء، ما جعله أكثر الأحداث السينمائية انخراطاً منذ بدء حرب الإبادة قبل قرابة عامين.