سامية حلبي… التجريد لغة المستقبل

“من خلال مقاربتها المبتكرة للتجريد، استكشفت سامية حلبي أشكالاً جديدة، مبتعدةً عن الإطار التقليدي للقماش إلى التجربة الرقمية”. بهذه الكلمات يقدّم القيّم الفني الفرنسي جان-مارك بريفو أعمال الفنانة الفلسطينية في معرضها الجديد “تجريد متحرّك” المقام حالياً في “غاليري صفير-زملر” ببيروت، ويضمّ لوحات حركية تعكس رؤيتها التجريدية وأثر التكنولوجيا التي غيّرت علاقتنا بالفنّ.

يجمع المعرض أعمال حلبي (القدس، 1936) منذ ثمانينيات القرن العشرين وحتى اليوم، ويفرد مساحة للجانب الرقمي منها، إذ تُعرف أنها من أوائل الفنانين العالميين الذين نجحوا في تحويل لوحة المفاتيح وشاشة الحاسوب إلى أدوات للرسم الرقمي. في حين تمزج لوحاتها المشغولة بالأكريليك بين اللون والضوء والحركة، لتخلق تجربة تتجاوز حدود القماش التقليدية، كما ينبّه بريفو، وتدفع للتفكير في العلاقة بين الفن والمكان والإنسان.

ترسم لوحتها عبر طبقات متراكمة تجعل الأشكال وكأنها تتحرك

التجريد عند سامية حلبي ليس محطة عابرة في تجربتها، بل خلاصة رؤيتها للفن أو لنقُل إنّه أعلى مراحل الرسم. ففي مقابلاتها المتعددة، تشدّد على أنّ “التجريد هو المستقبل، حركة لا يمكن التنبؤ بها”، معتبرة أن السريالية، في المقابل، تمثّل اتجاهاً رجعياً يعاكس الثورة العمّالية التي تحلم بها. هذا الموقف يتجسّد بوضوح في أعمالها المعروضة اليوم، إذ يتحوّل التجريد إلى لغة بصرية تتجاوز القوالب الجامدة.

تتجلّى في لوحات الفنانة المقدسية “غابة” لونية متشابكة، تتداخل فيها درجات الأخضر والأزرق والأصفر، وتلمع بينها لمحات من الأرجواني والوردي، في مشهد يحيل إلى إيقاعات الطبيعة. ومن خلال هذه التوليفة، تنبثق الأشكال الهندسية الصغيرة من مربعات ومستطيلات وخطوط مائلة لتتراكب فوق بعضها البعض في تكوين بصري متداخل، إذ لا يفضي هذا البناء إلى صورة مغلقة، بل يشي بإحساس دائم بالنمو والحركة.

يمكن أنّ تُقرأ تجربة سامية حلبي، إلى حدٍّ ما، ضمن سياق التجريد الهندسي، إلا أن تقنياتها تتجاوز مجرد ملء المساحات بالألوان على غرار رائد هذا التيار الهولندي موندريان، أو حتى الفنّانَين التجريديّين العرب، كالراحلَين جبران طرزي وشاكر حسن آل سعيد، على سبيل المثال، بل ترسم اللوحة عبر طبقات متراكمة تجعل الأشكال وكأنها تتحرك. تنزع حلبي إلى التكثيف والتعقيد، محاكية تنوّع الطبيعة وإيقاعها الداخلي، فتتحول اللوحة إلى إطار ذي احتمالات لا نهائية.

كذلك تقترب تجربتها، في سياق عربي، من تجريدية مجايلها الفنان اللبناني نبيل نحاس، وهو تقاطُع قد يكون مردّه إلى إقامتهما الطويلة في الولايات المتحدة وانفتاحهما المبكر على تيارات الفن الحديث فيها. هكذا تنتهي تجربة حلبي إلى موقع فريد، بين الشرق والغرب، لتؤكد أنّ التجريد بالنسبة لها ليس اتجاهاً عابراً بل خلاصة مستقبلية للفن.