سورية ولبنان من وصاية الماضي إلى صراع السيادة

منذ دخلت القوات السورية إلى لبنان عام 1976 تحت عنوان “قوات الردع العربية”، دخل البلدان في علاقة معقّدة امتدّت لنحو ثلاثة عقود، غلب عليها طابع الوصاية السياسية والأمنية التي فرضها نظام الأسد على القرار اللبناني حتى الانسحاب عام 2005. كانت تلك الوصاية تتجاوز الحدود الجغرافية لتطاول بنية الدولة اللبنانية نفسها، وكانت تلك المرحلة إعادة صياغة للدولة اللبنانية وفق منطق “الدولة الوصائية”؛ دولة ضعيفة السيادة يُعاد إنتاج قرارها السياسي عبر دمشق، غير أن سقوط النظام في دمشق في كانون الأول/ كانون الأول 2024 فتح الباب أمام حقبة جديدة لم تتضح ملامحها بعد، ويقوم عنوانها الأساسي على انتقال البلدين من إرث الوصاية إلى اختبار السيادة.

ترك النظام السوري السابق وراءه شبكة معقّدة من العلاقات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي لا تزال تلقي بظلالها على البلدين، فلبنان عاش سنوات طويلة رهينة التدخل السوري المباشر في شؤونه، من التحكّم بانتخابات رئاسة الجمهورية، إلى رسم ملامح الحياة البرلمانية، وحتى تفاصيل الاتفاقات الاقتصادية. أمّا النظام السوري، فقد شَكَّل عن لبنان تمثّلاً مزدوجاً يقوم على جدلية الاستيعاب والتهديد؛ فمن جهة، اعتُبر لبنان مجالاً حيوياً للنفوذ وامتداداً اقتصادياً يتيح للنظام توسيع فضاءاته الريعية والتخفيف من عزلاته. ومن جهة أخرى، عُدّ نموذجاً مقلقاً للشرعية، إذ شكّلت تعدّديته السياسية وحيويته الإعلامية والاجتماعية مرآةً نافية لخطاب السلطة الأحادية في دمشق. لم ينته هذا التمثّل مع سقوط النظام، بل أُعيد إنتاجه عبئاً تاريخياً يقيد مساعي البلدين في إعادة تعريف العلاقة ضمن أفق سيادي متوازن.

ما خلّفه النظام السوري في لبنان كان بنية متكاملة أعادت تشكيل الدولة نفسها ضمن إطار السيادة المبتورة. القرار السياسي في بيروت ظلّ ملحقاً بالاستراتيجية السورية، بحيث أُدمِج في حسابات سلطة إقليمية أكبر من قدرته على الاستقلال. ويمكن إدراج هذه الحالة في إطار “السيادة المجتزأة”، أي حين تُدار الدولة من داخلها، لكنها مقيّدة بإرادة خارجية، تضع حدوداً صارمة لحركتها. عاش لبنان هذا الوضع كما عاشته دول أوروبا الشرقية في ظل النفوذ السوفييتي، أو كما عانته بعض الجمهوريات العربية التي تماهت قراراتها مع مراكز قوى إقليمية. غير أنّ خصوصية التجربة اللبنانية أنها ارتبطت بعلاقة جغرافية– تاريخية مع سورية جعلت الوصاية أقرب إلى اندماج قسري، إذ عومل لبنان على أنه امتداد أمني واقتصادي ضروري لبقاء النظام السوري، وليس جاراً ذا سيادة مكتملة.

لم يكن الاقتصاد على هامش ديناميات السيطرة التي نسجها النظام السوري، بل شكّل أحد أعمدتها الأكثر رسوخاً

لم يكن الشعار الذي رفعه حافظ الأسد، “شعب واحد في بلدين”، صياغة وحدة فعلية بقدر ما كان أداة لإضفاء شرعية على الهيمنة. أما اليوم، في ظل التحوّلات الجارية، فالحاجة باتت ملحّة للانتقال إلى علاقة جديدة تقوم على العقد الاجتماعي العابر للحدود؛ علاقة مؤسّساتية تعترف بالاستقلال المتبادل، وتضع احترام السيادة شرطاً لأي تعاون سياسي أو اقتصادي.

يُجسّد حزب الله المعضلة الأبرز في العلاقات بين البلدين، فقد ارتبط عقوداً بالنظام السوري أداة نفوذ، ثم اندمج في مشروع إقليمي تقوده إيران، بما جعله فاعلاً يتجاوز حدود الدولة اللبنانية، ويخترق سورية نفسها. ومع سقوط النظام، برز الحزب عائقاً أمام بناء السيادة في البلدين معاً. ففي لبنان يقيّد قدرة الدولة على احتكار العنف المشروع، وفي سورية يذكّر بإرث دموي تركه خلال الحرب. ويتطلب التعامل مع هذه العقدة تفكيك علاقات النفوذ التي نسجها الحزب، وتحويلها إلى مسار سياسي يخضع لمعايير الدولة. وبذلك لا يقتصر دور الحزب على كونه فاعلاً محلياً مرتبطاً بميزان القوى اللبناني، بل يتجلى بوصفه نموذجاً لـ”الفاعل ما فوق الدولة” الذي يعيد تعريف الحدود والسيادة معاً، فوجوده المسلح يجعل السيادة مفهوماً متنازعاً عليه، إذ تُآذار الدولة سلطتها في ظل منافس داخلي يرتبط بمشروع إقليمي يتجاوزها.

لم تُشكّل الحدود بين لبنان وسورية في تاريخها الحديث خطاً فاصلاً واضحاً بين دولتين مستقلتين، بل تَكرّست مجالاً تتحكّم فيه شبكات التهريب والعصبيات المحلية. وقد جسّدت هذه الرخاوة الجغرافية نموذجاً من “حدود الدولة الضعيفة”، حيث تفقد المؤسّسات الرسمية قدرتها على الضبط وتترك المجال مفتوحاً أمام قوى ما فوق وطنية. ومع استمرار هذا الوضع، تتحوّل الحدود إلى مساحة تكشف عن “السيادة الممزّقة” التي تُدار عبر شبكات غير رسمية أكثر مما تُدار عبر مؤسّسات الدولة. يعدّ نجاح البلدين في إعادة إنتاج الحدود، بكونها خطاً سيادياً مؤسسياً، يُعدّ اختباراً جوهرياً لجدّية مشروع بناء الدولة، في حين أن بقاءها رخوة يعني استمرار استنزاف الكيان السياسي وإخضاع العلاقة الثنائية لمنطق المصالح العائمة خارج مفهوم السيادة.

يتجاوز ملف اللاجئين السوريين في لبنان إطاره الإنساني، ليكشف عن هشاشة الدولة في البلدين، ففي لبنان يُنظر إليهم عبئاً ديمغرافياً واقتصادياً يهدّد التوازنات الداخلية، بينما تعاملت دمشق مع وجودهم بقدر كبير من التجاهل، ولم تُبدِ أي استعداد حقيقي للتعاطي مع عودتهم باعتبارها استحقاقاً وطنياً. ويبرز هنا ما وصفها ميشيل فوكو بالسياسات الحيوية، حيث تتحوّل حياة الجماعات إلى مادّة لإنتاج السلطة وإعادة تشكيل المجال السياسي. استمرار إدارة هذا الملف بآليات مؤقتة أو انتقائية يجعله مساحة لإعادة إنتاج التوتر بين منطقي الوصاية والسيادة، ويحوّله إلى أحد أخطر عوامل استنزاف فكرة الدولة نفسها.

السيادة لا تُبنى داخلياً عبر مؤسّسات الدولة فقط، بل تُعاد صياغتها باستمرار عبر التفاوض بين القوى الإقليمية والدولية التي تسعى لفرض خرائطها على المنطقة

… لم يكن الاقتصاد على هامش ديناميات السيطرة التي نسجها النظام السوري، بل شكّل أحد أعمدتها الأكثر رسوخاً، فقد تحوّل لبنان، بمصارفه ونظامه المالي المفتوح، إلى منفذ رئيسي للسلطة في دمشق، من أجل الالتفاف على العقوبات وتسييل الموارد بطرق غير خاضعة للرقابة. وارتبطت هذه الشبكات بوجود رجال أعمال سوريين اندمجوا عضوياً في بنية النظام، فتحوّلوا إلى واجهة مالية عابرة للحدود، تخدم مصالح السلطة، وتعيد إنتاج منظومة الريع. هكذا أصبح الاقتصاد فضاءً كاملاً لما يمكن تسميته الاقتصاد السياسي للوصاية، حيث تتحوّل التبعية الاقتصادية إلى ركيزة للنفوذ السياسي وأداة لإدامة السيطرة.

وهذا النمط من الاقتصاد الريعي القائم على التهريب والتحويلات غير الرسمية أدّى إلى إضعاف الدولة نفسها، إذ فقدت القدرة على إدارة مواردها بصورة مستقلة. ومع سقوط النظام في دمشق، يواجه البلدان استحقاقاً بالغ التعقيد يتمثل بإعادة صياغة العلاقة الاقتصادية بما يتجاوز التبعية القديمة. المطلوب اليوم تأسيس نموذج تكاملي مؤسّساتي يربط الاقتصاد بالسيادة ويقطع مع إرث التهريب وغسل الأموال والاعتماد الطفيلي على المنظومات الريعية. الرهان الفعلي، إذن، هو الانتقال من اقتصاد يخدم السلطة وشبكاتها، إلى اقتصادٍ يعيد الاعتبار للدولة بوصفها مؤسّسة سيادية.

لم تكن العلاقات اللبنانية – السورية يوماً معزولة عن محيطها، بل شُكِّلَت باستمرار داخل شبكة إقليمية كثيفة، فالمبادرات السعودية لترسيم الحدود تعبّر عن محاولة لإعادة ضبط الإقليم على قاعدة سيادة جديدة، والضغط الأميركي لنزع سلاح حزب الله يتجاوز الملف اللبناني، ليصبح مدخلاً لإعادة هيكلة التوازن السوري – اللبناني في آن واحد. أما الحضور الإيراني عبر الحزب وأذرعه، فيمثّل صياغة موازية لفكرة السيادة نفسها، حيث يتحوّل القرار الوطني إلى وظيفة ضمن مشروع إقليمي أوسع.

الخطر الأكبر في تحوّل هذه العلاقة إلى فضاء لـ”صراع الشرعية”، حيث يناضل لبنان من أجل تثبيت استقلاله الهشّ، بينما تنخرط سورية في إعادة تعريف موقعها الإقليمي

بهذا المعنى، السيادة لا تُبنى داخلياً عبر مؤسّسات الدولة فقط، بل تُعاد صياغتها باستمرار عبر التفاوض بين القوى الإقليمية والدولية التي تسعى لفرض خرائطها على المنطقة. لبنان وسورية معاً يشكّلان ساحتي اختبار لهذا المنطق؛ فكل محاولة لبناء سيادة وطنية تواجهها قوة معاكسة تُدرج القرار المحلي داخل توازنات فوق – وطنية. وتكمن المعضلة في سؤال جوهري: كيف يمكن لدولتين مثقلتين بإرث الوصاية أن تبنيا علاقة طبيعية في فضاء إقليمي يعيد إنتاج الوصاية بصيغ جديدة؟

يظلّ الانتقال من عقود الوصاية إلى مرحلة السيادة المتبادلة مساراً شديد التعقيد، فالعلاقة بين بيروت ودمشق مثقلة بذاكرة الجراح والخيبات، وأي محاولةٍ لإعادة بنائها تتطلب مقاربة شجاعة تعترف بالماضي وتفككه من دون أن تُعيد إنتاجه. ويكمن الخطر الأكبر في تحوّل هذه العلاقة إلى فضاء لـ”صراع الشرعية”، حيث يناضل لبنان من أجل تثبيت استقلاله الهشّ، بينما تنخرط سورية في إعادة تعريف موقعها الإقليمي، في مشهدٍ يعبّر عن سيادة ممزّقة يتنازعها الداخل والإقليم معاً.

ختاماً، يمكن القول إن سقوط النظام في دمشق لم يغلق ملف العلاقة الملتبسة بين بيروت ودمشق، بل أعاد فتحه ضمن سياق أكثر تعقيداً، فالمسافة بين إرث الوصاية وآفاق السيادة طويلة ومحفوفة بالمنعطفات، غير أن إدراك البلدين طبيعة تشابك المصير قد يشكّل عاملاً حاسماً في توجيه هذه المرحلة نحو علاقة أكثر توازناً واستقراراً.