بين طوابير السيارات أمام محطات الوقود وازدحام المتسوقين في الشوارع، تعيش العاصمة الليبية طرابلس منذ مساء الاثنين الكثير من القلق، بعد انتشار آليات عسكرية ثقيلة في أطرافها الجنوبية. شوهدت دبابات وشاحنات محملة بالأسلحة في قصر بن غشير وطريق الشوك ببلدية عين زارة، إضافة إلى أصوات رصاص متقطع سُمعت في حي الإسلامي، غرب العاصمة.
على مواقع التواصل، تداول السكان مقاطع مصوّرة تُظهر تحركات مماثلة في جزيرة الغيران، ما ضاعف منسوب المخاوف لدى الأهالي، الذين اندفعوا نحو الأسواق لشراء المواد الغذائية وتخزين الوقود، فضلاً عن الإقبال الكبير على الدولار. وفي بيان عاجل، دعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا جميع الأطراف إلى “وقف التصعيد فوراً” و”الامتناع عن أي أعمال قد تعرّض المدنيين للخطر”، معبرة عن “انزعاجها البالغ” إزاء التقارير التي تتحدث عن استمرار التعبئة العسكرية واحتمال اندلاع مواجهات مسلحة.
في سوق المشير، وسط العاصمة، قال صهيب بن مسعود (33 عاماً)، الموظف في شركة خاصة، لـ”العربي الجديد”: “اشتريت الدولار من السوق الموازي، فلا يوجد ملاذ آمن آخر للمدخرات. إذا تطورت الأحداث سأفكر في النزوح خارج البلاد، ولا شيء يحمي مدخراتي سوى العملة الصعبة”.
ورغم ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية إلى 7.8 دنانير للدولار مقابل السعر الرسمي البالغ 6.4 دنانير، تزايد الإقبال على العملة الصعبة، ما تسبب في ازدحام ملحوظ أمام محال الصرافة. في سوق المهاري، بدت الحركة صباح أمس الثلاثاء غير اعتيادية، إذ تنقلت العائلات بين المحال التجارية بسرعة بحثاً عن الطحين والزيت والمعلبات.
تموين استعداداً للأسوأ
يقول عبد المعين الجبالي (55 عاماً)، لـ”العربي الجديد”: “أتيت منذ ساعات الصباح الباكر، أشتري ما أستطيع لتخزينه في البيت. لا أحد يعرف ما سيحدث غداً، نخشى فقط أن تختفي السلع أو ترتفع أسعارها أكثر”. إلى جانبه، كانت أم نزار (42 عاماً)، تدفع عربة محملة بالسكر والحليب، قبل أن تهمس: “لقد عشنا أزمات كثيرة، لكن هذه المرة أشعر بالخوف أكثر. أصوات الرصاص قريبة من بيتنا، وأطفالي يسألونني لماذا نشتري كل هذا الطعام… بماذا أجيبهم؟”.
رأى المحلل الاقتصادي عبد الهادي الأسود أن المشهد يعكس هشاشة البنية الاقتصادية أمام أي اهتزاز أمني، موضحاً أن كل توتر عسكري يترجم مباشرة إلى ضغط على سوق العملات، وزيادة في الطلب على السلع الأساسية والوقود، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
وأضاف في حديث لـ”العربي الجديد”، أن هذا النمط أصبح متكرراً في ليبيا، حيث تتداخل الحسابات الأمنية مع المخاوف المعيشية، في ظل اعتماد شبه كامل على الواردات وتقلب إيرادات النفط، وحذّر من أن استمرار الوضع قد يفتح الباب أمام “دوامة تضخمية قصيرة الأجل” تضعف القوة الشرائية للمواطنين أكثر فأكثر. أما الخبير المالي عبد الحكيم عامر غيث، فأكد لـ”العربي الجديد” أن الشارع الليبي يميل إلى لغة “الأرقام والرصاص”، قائلاً إن “الفارق بين السعر الرسمي والموازي للعملة يعكس عمق الأزمة النقدية، فيما تعكس طوابير الأسواق حجم القلق الشعبي”.
ورغم التوتر الأمني، حافظت المؤسسات الحكومية على وتيرة عملها الطبيعية. فقد أعلنت وزارة التربية والتعليم إجراء امتحانات الشهادة الثانوية (الدور الثاني) بشكل اعتيادي في جميع المناطق، وفق الجدول والمواعيد المحددة مسبقاً، “دون أي عراقيل تُذكر”.
كما تسير حركة السير في الشوارع بشكل اعتيادي، في مشهد يعكس التعايش مع الأزمات. لكن الأزمات المعيشية اليومية لا تزال تضغط على السكان، إذ يتواصل وجود طوابير طويلة أمام محطات الوقود بسبب نقص البنزين، إلى جانب انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي، فضلاً عن غياب السيولة النقدية في المصارف التجارية. في هذا السياق، أعلن مصرف ليبيا المركزي بالتعاون مع وزارة المالية عن صرف رواتب أكثر من 2.3 مليون موظف حكومي عبر منظومة “راتبك لحظي”، مؤكداً إنجاز معاملات نحو 950 ألف موظف حتى الآن.
ويستفيد الموظفون من المنظومة الجديدة، حيث سيجري تحويل رواتبهم عن طريقها، كما سيمكنهم التحري والتأكد من وصول الرواتب إلى حساباتهم المصرفية عن طريق تطبيق خاص عبر هواتفهم المحمولة، بحسب تصريحات ناجي عيسى، محافظ مصرف ليبيا المركزي. لكنّ المنظومة اصطدمت بالخلاف بين الحكومتين في شرق ليبيا وغربها، فيما قال المصرف المركزي إنّ النظام الجديد تمكن حتى الآن من مطابقة نحو مليوني حساب، على أن تُستكمل بقية الحسابات تدريجيًا، مؤكدًا أنه سيقضي على المرتبات الوهمية ويسرّع عمليات التحويل ويؤسس قاعدة بيانات دقيقة يمكن الاعتماد عليها.
لكن ديوان المحاسبة الموازي حذر في مذكرة رسمية موجهة إلى مجلس النواب من “المخاطر القانونية والإدارية والفنية” للمنظومة، معتبرًا أنها “تتجاوز اختصاصات السلطات المالية وتخالف قانون النظام المالي للدولة، وقد تؤدي إلى هدر المال العام وفقدان السيطرة على بند المرتبات الذي يمثل أكثر من 45% من الإنفاق العام”.