الفنان الغزّي وهشاشة الجسد الجائع

كيف يمكن للأعمال الفنية الناجية من الحرب، منذ السابع من تشرين الأول، أن تُحمى من الإبادة، وكيف يمكن لها أن تنجو خارج المكان لتصبح شاهداً على حيوات الضحايا في قطاع غزة؟ منذ ذلك الوقت، بدأ بعضُ الفنانين الغزّيين يقدمون نماذج ومفردات بصرية جديدة تستعرض حياتهم المباشرة أمام الحدث الكبير، في ظل العجز عن تغيير القدر أو تغيير المكان، وأصبحوا كما الجميع في انتظار دورهم في الموت دون سابق إنذار. الدلالات البصرية التي استخدمها الفنانون تعد إشارة غير مباشرة لتفكيك مفهوم العزلة والوحدة، عبر ما يرسمونه أو يعبّرون عنه من تكثيف لمشاهد الشهداء، وما تحمله من ملامح الحيرة والعجز والسكون، وتحولاتها من الطاقة الكامنة في العمل الفني الذي عبّر عنه الفنانون بضربات الفرشاة والألوان اللامعة، إلى خطوط مترددة، ورسومات يتكرر فيها الجسد البشري، وجثث في أكياس وأغطية وأقمشة أخرى.

تذكّر الأجساد التي يعبر عنها بعض الفنانين بأعمال ألبرتو جياكوميتي من خلال تصويره للإنسان ضحيةً وجوديةً تعاني من العزلة والقلق والهشاشة في العالم الحديث، وتعكس حالة الضياع والعبثية التي خلفتها الحروب والتحولات الوجودية في القرن العشرين، فعكست أعمالهم نموذج الضحية غير المحدّدة التي تعبر عن أزمة الإنسان الحديث، الذي يواجه قوى أكبر وأعتى منه، ما يجعله ضحية لشرطه الوجودي نفسه، بينما يحتفظ رغم هشاشته بإحساس صامت بالصمود.

نماذج لتحوّل المفردات البصرية الفلسطينية

يعمل الفنانون في هذه المرحلة على رسم المشاهد اليومية وآثار التدمير والقتل التعسفي يومياً، بالإضافة إلى مشاهد من حالة النزوح الجماعية وامتداد الخيام على مساحات واسعة، إلّا أن أكثر المشاهد التي برزت مؤخراً في أعمالهم، التي نادراً ما جرى التطرق لها سابقاً، هي مشاهد المجاعة التي تستحضر أحداث “أوشفيتز” لكنها تبدو أكثر قسوة بسبب مدتها الزمنية، وحصارها المطبق لحرب التجويع وآثارها على الفلسطينيين.

استدعاء الجسد الأنثوي شاهداً على العنف، ووسيطاً يدوّن التاريخ

في عمل للفنانة عائدة درويش، تظهر فتاة بوجه شاحب وجسد هزيل تجمع بين عمرها العشريني وجسدها التسعيني إثر خلل في وظائف الجسم والمناعة الناتجة عن التجويع، وضغط الدم والذهان مشيرة إلى موتها اليومي بالكرّ والفرّ والخوف والقلق. وإذ تحمل في عملها هذا دلالة مهمة على تخليد مشهد الموت بأبشع أشكاله، وتحويله من صرخة واحتجاج، إلى وثيقة مستمرة تحاكِم جلاديها من خلالها، مثلما جسدت كاثي كولفيتس وجوه الفقد والحرمان في أوروبا زمن الحروب، تلتقي عائدة درويش معها في استدعاء الجسد الأنثوي شاهداً على العنف، ووسيطاً يدون التاريخ عبر المعاناة، ليغدو الجسد مساحة مشتركة بين الأزمنة والثقافات، إذ تنكشف هشاشة الإنسان أمام آلة الإبادة والتجويع. 

كذلك يلجأ الفنان سهيل سالم في أعماله الأخيرة، من بينها مشروعه الأخير “استغاثة” إلى تغيير ملوّنته التي امتازت برسم المناظر الطبيعية والألوان المتعدّدة إلى اللون الأسود، وتكثيف أشخاصه بأجسادهم بين طبقات الإسمنت لبيوت سقطت فوقهم.
 
في المقابل، انتقل الفنان محمد لبّد لتجربته التي امتازت قبل الحرب بالكثافة اللونية وتناغمها، وانعكاسها المشرق، إلى أعمال شاحبة من صور الشهداء، أطفالاً وشيوخاً ونساء وشباباً، بتقنية قلم الرصاص، ويبدو الشحوب على وجوه شخصياته بما يوحي بمعاناتهم من الجوع والتعب والقتل اليومي. أما أعمال الفنان عبد الرؤوف العجوري في لوحته “هذا ليس فقراً… بل هو قرار بالتجويع” في إشارة إلى تقصّد سياسات الاحتلال العسكرية تجويعَ سكان غزة وإخضاعهم لخفض شروط الهزيمة عليه، وقد طغت الألوان الرمادية على أسلوبه الذي يذكّرنا بشخصيات مروان قصاب باشي، وقد غلب على لوحاته السابقة درجات الألوان الصفراء والخضراء والزرقاء، لكنّها تبدو هنا شاحبة كما أصحابها، إذ تعبّر عن مدى الدمار والجراح والنيران التي لم تنطفئ. 

الدلالات : الإبادة الجوع غزة