مع تفاقم الأزمات التي تشهدها قطاعات الصحة والتعليم والنقل في تونس، وتصاعد نسبة البطالة، خصوصاً في صفوف حملة الشهادات العليا، يتردّد السؤال بشكل دائم عن الدور الاجتماعي للدولة، سيما في ظل الخطاب الرسمي الذي يعلن بوضوح أن الدولة لن تتخلى عن مجالات تدخّلها الواسعة في المجتمع والاقتصاد.
في أعقاب الاستقلال، سنة 1956، أخذت الدولة التونسية (ككل الدول المستقلة حديثا) على عاتقها إعادة بناء الاقتصاد المتهالك الموروث من الحقبة الاستعمارية. ولعبت الدولة دوراً اجتماعيّاً مفصليّاً من خلال إطلاق برنامج شامل لتنمية الاقتصاد الوطني، وجرى توجيه الجانب الأكبر من الموارد إلى قطاعات الصحة والتعليم الذي تحوّل إلى مصعد اجتماعي، خصوصاً أن غالبية الخرّيجين يلتحقون بوظائف مختلفة في أجهزة الدولة.
رغم نظامها السياسي المغلق وسيطرة الحزب الواحد طوال الزمن البورقيبي، إلا أن السلطة حينها ظلت حريصةً على ترسيخ مفهوم “دولة الرعاية”، وهو مفهومٌ للدولة، يُفترض أن يُوسّع نطاق تدخلها وتنظيمها في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. لذا، فإن “دولة الرعاية” هي التي تتولى مسؤولية تطبيق مجموعة من التدابير الرامية إلى إعادة توزيع الثروة المُنتجة داخل المجتمع، ومعالجة جميع المشكلات المجتمعية، كالمرض والشيخوخة والأمية والبطالة والفقر والمجاعة، وغيرها. لذا، تقوم “دولة الرعاية” على المبدأ الأخلاقي للتضامن بين مختلف الطبقات الاجتماعية، والسعي إلى العدالة والإنصاف الاجتماعي. وهي تُشجع على قيام دولة أكثر اجتماعية وأخلاقية، لأن همّها الوحيد هو ضمان رفاهية مواطنيها، وخدمتهم. على الأقل هذا ما كانت تبشر الدعاية الرسمية لولا الأزمات الاجتماعية الكبرى التي حصلت سنوات 1978 (المواجهة مع العمّال) و 1984 (ثورة الخبز) التي كشفت عن عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية.
يرتكز الخطاب السياسي للسلطة الحالية على رفع شعار تعزيز الدور الاجتماعي للدولة والاعتماد على الذات من دون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، في حين يرى مراقبون أنها مجرّد شعارات
وكانت التحولات المتسارعة التي شهدتها تونس وفشل الدولة في حل المشكلات الاجتماعية، وفي مقدمتها بطالة حملة الشهادات العليا وانتشار الفساد من الأسباب التي أدّت إلى اندلاع ثورة 2011 وإطاحة نظام زين العابدين بن علي. وعجزت حكومات ما بعد الثورة عن حل المشكل الاقتصادي بوصفه المصدر الذي ترتّبت عنه كل المشكلات الاجتماعية. وهكذا جرى تحميل النظام التعددي والديمقراطي مسؤولية الفشل، واتخذت البلاد طريقاً آخر في ظل مسار جويلية (25 تموز) 2021.
يرتكز الخطاب السياسي للسلطة الحالية على رفع شعار تعزيز الدور الاجتماعي للدولة والاعتماد على الذات من دون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، في حين يرى مراقبون أنها مجرّد شعارات سياسية لا تجد ترجمة فعلية على أرض الواقع وأن السياسات الاقتصادية المطبقة متناقضة مع أهداف السلطة. بل يتقلص الدور الاجتماعي للدولة بشكل واضح، كما يتجلى ذلك في ارتفاع الأسعار بشكل مستمر، ما أدّى إلى تآكل القدرة الشرائية لدى التونسيين، فضلا عن تدهور خدمات المرافق العمومية، مثل النقل والصحة والتعليم، ناهيك عن ضعف النمو الاقتصادي واستقرار معدلات البطالة بمستويات مرتفعة.
التنمية الاجتماعية والاقتصادية في جوهرها مسؤولية تقع على عاتق السلطات العامة
توضح كل التجارب التي خاضتها الأنظمة السياسية المختلفة أن التنمية الاقتصادية ورفاهية المواطنين تعتمدان بشكل كبير على التزام الدولة الجاد بتهيئة الظروف المواتية لتحفيز النمو وزيادته. وبالمثل، لا يمكن ضمان السلام والأمن الاجتماعي والحرّية والسعادة الفردية والجماعية، وهي شروط أساسية للتنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية، للسكّان إلا من خلال “دولة الرفاه” التي تحمي القوانين والحريات المدنية، بالإضافة إلى المنافع العامة.
التنمية الاجتماعية والاقتصادية في جوهرها مسؤولية تقع على عاتق السلطات العامة. أما الجهات الفاعلة التنموية الأخرى، مثل الشركاء من القطاع الخاص وحتى فئات السكان الشعبية، فلا تأتي إلا في مرتبة ثانوية مقارنةً بأسبقية دور الدولة ومسؤوليتها. الدولة هي المحرّك الرئيسي للنمو وتقدّم البلاد ورفاهية المواطنين. … على أي دولة معنية بالرفاهية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية أن تلتزم التزاماً راسخاً بدعم أي مبادرة فردية أو جماعية، عامة أو خاصة، تُسهم في ذلك وتعزيزها. لا يمكن للدولة أن تآذار هذه المسؤولية الأساسية تجاه سكانها وتجاه نفسها بالوكالة، لا من الأفراد ولا من المواطنين أنفسهم. إن مسؤولية الدولة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، على المستويين الوطني والدولي، أو في المناطق الحضرية أو الريفية، هي مسؤولية فريدة ومتميزة عن مسؤولية أي طرف آخر. المشكلة أن هذا الدور الذي كان ينبغي أن تقوم به الدولة تراجع ولم يعد يتجاوز مستوى الشعارات، أما الوقائع على الأرض فشيء آخر.