احتلال اقتصادي ناعم يتسلّل إلى الجنوب اللبناني

يتردّد في لبنان خبر يثير الجدل: دخول إسرائيليين إلى بعض القرى الحدودية، ودفعهم أثمان مشترياتهم بالشيكل. قد يبدو الأمر تفصيلاً محلياً في بلد يرزح تحت أزمات معقّدة، لكنّه يفتح باب الأسئلة الواسعة: هل هو مجرد حادثة عابرة؟ أم أنّه يحمل مؤشرات على محاولة احتلال اقتصادي ناعم يتسلّل إلى الجنوب اللبناني بهدوء، ويختبر قابليته للتكيّف مع واقع جديد يُراد له أن يترسّخ بمرور الوقت؟

وإذا عدنا بالذاكرة قليلاً إلى تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن “منطقة ترامب الاقتصادية” في جنوب لبنان، يصبح الربط بين الأمرين مشروعاً وضرورياً. فالمشهد النقدي الحالي قد يكون الحلقة الأولى في مشروع أكبر يستهدف تغيير طبيعة الجنوب وربطه بدائرة نفوذ إقليمي جديد.

من حادثة محلية إلى سؤال استراتيجي

الدفع بالشيكل الإسرائيلي داخل لبنان يمكن أن يُقرأ على مستويات عدة. أولاً، هو اختراق رمزي للسيادة، إذ يدخل العدو إلى السوق المحلي بأدواته النقدية، بما يوازي رفع علمه في مساحة حساسة. ثانياً، هو إشارة إلى قابلية التبعية، فالعملة ليست محايدة، بل تخلق دوائر نفوذ تجعل الطرف الأضعف جزءاً من دورة اقتصادية لا يتحكم بها. ثالثاً، هو تجربة اجتماعية – اقتصادية، إذ يختبر الطرف الآخر مدى استعداد السكان للتعامل مع رموزه في تفاصيل حياتهم اليومية. وعليه، فإن ما يبدو شراءً عادياً في متجر حدودي قد يكون جزءاً من اختبار طويل المدى: إذا تقبّل الناس العملة الإسرائيلية اليوم، فهل يتقبّلون غداً البضائع والخدمات والاستثمارات، ثم في مراحل لاحقة بنية اقتصادية موازية لما تقدّمه الدولة؟

منطقة ترامب الاقتصادية: رؤية لم تمت

حين تحدّث ترامب قبل أيام قليلة عن إنشاء “منطقة اقتصادية” في الجنوب اللبناني، بدا الطرح أقرب إلى استفزاز سياسي منه إلى مشروع واقعي. لكنّ الفكرة كانت واضحة:

1- تحويل الجنوب من ساحة مقاومة إلى منطقة مصالح اقتصادية.

2- فكّ ارتباط الجنوب عن بيروت وربطه بشبكة إقليمية تقودها تل أبيب.

3- فتح الباب للتطبيع التدريجي عبر الاقتصاد لا عبر السياسة المباشرة.

اليوم، مع شيوع أخبار عن دخول إسرائيليين جنوب لبنان ودفعهم بالشيكل، تبدو هذه الرؤية وكأنها تجد طريقها إلى التطبيق غير المباشر، فالمنطقة الاقتصادية التي لم تولد رسمياً، قد تُزرع بذورها عبر وقائع صغيرة ومتكررة تفرض نفسها على الأرض.

من الإشاعة إلى المخطط

الشيكل في القرى الجنوبية ليس مجرد “عملة دخيلة”، بل يمكن اعتباره خطوة أولى في اتجاه جعل الجنوب جزءاً من دائرة نفوذ اقتصادي أوسع. وإذا وضعنا هذا الحدث في سياق “منطقة ترامب الاقتصادية”، يصبح المشهد أكثر وضوحاً:

• العملة بَوابة: قبل أي مشاريع أو استثمارات، تبدأ عملية الاحتلال عبر دخول عملة العدو.

• الاعتياد التدريجي: كل عملية دفع بالشيكل تُرسّخ فكرة أن التعامل مع إسرائيل أمر واقع.

• إحياء فكرة ترامب: عبر تطبيق عملي صامت لما طُرح يوماً خطة سياسية.

بهذا، يصبح الحدث اليومي – المحلي انعكاساً لاستراتيجية أعمق، قاعدتها الاقتصاد وأداتها النفوذ النقدي.

الجنوب وتحديات جديدة

عاش الجنوب اللبناني عقوداً من المواجهة العسكرية المباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي، ودفع أثماناً باهظة من الضحايا والدمار. لكنّ التحدي اليوم مختلف: إنه تحدي الاحتلال الناعم، الذي لا يعلن نفسه بالدبابات والمدافع، بل يتسلّل عبر الأسواق والمحافظ وعادات الاستهلاك. هذا النوع من الاحتلال أخطر لأنه أقل ضجيجاً، وأكثر قدرة على التمدد من دون أن يثير ردات فعل فورية. ومع مرور الوقت، قد يجد السكان أنفسهم جزءاً من دورة اقتصادية إسرائيلية، من دون أن يدركوا أنّ ذلك يعادل فقداناً تدريجياً للسيادة.

خلفية تاريخية: احتلال 1982

تجربة الاحتلال العسكري الإسرائيلي للجنوب عام 1982 تشكّل خلفية ضرورية لفهم المشهد الحالي. حينها، اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت دباباتها إلى بيروت، وأقامت “الحزام الأمني” في الجنوب، مستعينة بمليشيات متعاملة معها لضبط المنطقة. الهدف كان واضحاً: تحويل الجنوب إلى منطقة عازلة تخدم مصالحها الأمنية والسياسية.

غير أنّ الدرس الأبرز من تلك المرحلة أنّ الاحتلال العسكري، رغم عنفه، لم يستطع أن يفرض واقعاً دائماً. واليوم، بعد أربعة عقود، يبدو أنّ إسرائيل تعود إلى الجنوب بوسائل مختلفة: ليس بالدبابة والمدفع، بل عبر محاولات احتلال ناعم يتسلّل من بوابة الاقتصاد، تماماً كما يُشاع عن الدفع بالشيكل في القرى الحدودية. الفارق أنّ الاحتلال الصلب كان يُواجه بالسلاح، أما الاحتلال الناعم فيحتاج إلى وعي ومقاومة اقتصادية – تنموية لا تقل شراسة.

معركة جديدة: الاقتصاد بدل المدفع

إن ما يجري اليوم على الحدود الجنوبية ليس إشاعة عابرة، بل مؤشر على احتلال إسرائيلي يجد غطاءً في مشروع “منطقة ترامب الاقتصادية”. فالعملة التي تُدفع في متجر حدودي قد تكون الشرارة الأولى لتغيير أوسع يستهدف هوية الجنوب وموقعه الاستراتيجي.
الجنوب الذي صمد أمام الاحتلال العسكري لا يجوز أن يُترك رهينة لمحاولات الاحتلال الاقتصادي. المطلوب اليوم مقاومة من نوع جديد: مقاومة اقتصادية وتنموية، تضمن بقاء الجنوب جزءاً من الوطن، لا مشروعاً اقتصادياً مفصلاً على قياس الاحتلال.

المعركة لم تعد فقط في السماء وعلى الحدود، بل في الأسواق، في الجيوب، وفي تفاصيل الحياة اليومية. والرسالة يجب أن تكون حاسمة: الجنوب ليس للبيع، والاحتلال الناعم لن يمر. فمن فشل في 1982 وفشل في 2006 لن ينجح اليوم بثوب التنمية والعملة.
إلى جانب السياسات الرسمية، تبقى المناعة الاجتماعية خط الدفاع الأهم. فالوعي الشعبي بما يحمله التعامل بالشيكل من أبعاد سياسية وسيادية يحدّ من قدرة الاحتلال الناعم على التمدّد. وهنا على الدولة أن تقوم بدورها في بناء ثقافة اقتصادية – وطنية، تشرح للناس أنّ المسألة ليست مجرّد ورقة نقدية، بل قضية كرامة وانتماء. فحين يدرك المواطن أنّ خياره في الدفع أو الشراء يعادل موقفاً سياسياً، يتحوّل السلوك الفردي إلى خط دفاع جماعي. هذه الشراكة بين الدولة والمجتمع تجعل أي محاولة اختراق أكثر كلفة وأقل قابلية للنجاح، لأنها تواجه جبهة متماسكة من القوانين من جهة، والوعي الشعبي من جهة أخرى.