رحلة الدحيح من تبسيط العلوم إلى تسويق الترند

مع ظهوره عام 2014 على منصة يوتيوب، شقّ أحمد الغندور، الشاب الجامعي المتخصص في العلوم، طريقه ليصبح وجهة إعلامية مفضلة لجمهور واسع من الشباب. جاء برنامج “الدحيح” في لحظة فراغ، بعد توقف برنامج “البرنامج” لباسم يوسف، ليقدّم تجربة مختلفة تمامًا عن السائد في الإعلام المصري: محتوى علمي مُبسّط، يعتمد على سرد قصصي مشوّق، بعيد عن السياسة المباشرة. ما جذب الشباب الجامعي تحديدًا لمحتوى الدحيح كان شخصية الغندور نفسه: نموذج الطالب الباحث، الهادئ، المُجتهد، الذي يعاني تحديات التمييز داخل منظومة التعليم الحكومي التقليدية. بدا كأنه النسخة التي كان كثيرون يتمنون أن يكونوا عليها لو كانوا أكثر انطوائية أو أصغر سنًا.

بحلول أيار/أيار 2017، تطوّر البرنامج من مبادرة فردية إلى عمل شبه احترافي، مع انضمام فريق صغير وتوقيعه عقد عرض مع شبكة AJ+ كبريت التابعة للجزيرة. هذا الانتقال أتاح للدحيح مساحة انتشار أوسع، إذ صار أكثر حضورًا على الشاشات العربية والمصرية، وبدأت حلقاته تصل إلى قاعدة جماهيرية أوسع بكثير. ورغم أن طموح منافسة برامج عالمية ضخمة مثل Cosmos لم يكن حاضرًا بقوة، فإن الحلقات الأولى تميزت بتجريبية واضحة وجودة بحثية عالية، مع طرق موضوعات غير متوقعة في معارفنا الراسخة، ما جعل تلك المواسم الأولى الأهم في مسار البرنامج.

قدّم الدحيح نموذجًا جديدًا للعلوم الشعبية أو Pop Science، وهو تيار كان غائبًا عن الساحة الإعلامية المصرية. عبره، دخلت النقاشات العلمية إلى الفضاء العام، وبدأ الشباب يتداولون موضوعات فيزيائية وفلسفية وفكرية بلغة مبسطة. هذه التجربة ألهمت ظهور برامج أخرى مشابهة مثل “إيجيكولوجي” للمهندس أحمد سمير، و”الإسبتالية” للطبيبة إيمان الإمام، زميلي الغندور في الجامعة الأميركية بالقاهرة.

لاحقًا، تنقّل البرنامج بين جهات إنتاج خليجية متعددة، كان أبرزها قناة متحف المستقبل في أبوظبي. هذا التحول حمل معه تغييرات كبيرة في الهوية والجمهور المستهدف، إذ صار البرنامج أداة ترويجية لمؤسسات تسعى لبناء صورة حديثة عبر المحتوى الرقمي. ومع توسّع الانتشار، تغيّرت المعايير: صارت الأولوية هي الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المشاهدين، ولو على حساب التجريب والعمق. شيئًا فشيئًا، تحوّل الدحيح إلى منتج قابل للتقطيع والنشر عبر ريلز ومقاطع قصيرة؛ صارت النكات أكثر حضورًا من المعلومة نفسها، وأصبحت مواكبة “التريند” غاية بحد ذاتها.

ظلّ الدحيح مؤديًا بارعًا، أقرب إلى الكوميديان في عرض ستاند أب، حيث يجذب المشاهد بأدائه لا بمحتواه فقط. ومع ذلك، فإن جودة الحلقات المبنية على بحث علمي عميق بدأت تتراجع لصالح قوالب مكررة يمكن لأي فريق صغير إنجازها، مثل حلقات الرياضة، والسير الذاتية للمشاهير، والحوادث التاريخية الشهيرة. المواسم الأولى، التي تميزت بالهواية والتجريبية، فقدت بريقها مع الانتقال إلى إنتاج ضخم مُوجّه، ليتحوّل البرنامج تدريجيًا إلى جزء من الإعلام السائد بعد أن بدأ كبديل عنه. ازدادت كفة الترفيه على حساب القيمة العلمية، وتراجع حضور الأفكار المركبة أو الطروحات الفلسفية العميقة.

بلغ هذا التحول ذروته مع عرض حلقة “المصارعة الحرة” بالتزامن مع وجود الغندور في الرياض، حيث أُضيف صوت خارجي مختلف عن صوت البرنامج لذكر مباريات أقيمت في “موسم الرياض” السعودي. لاحقًا، انفتح البرنامج أكثر على الجمهور السعودي، فخصص حلقات عن تاريخ حضارات الجزيرة العربية، وتطور الخط واللغة، وسير الشعراء القدماء، في انسجام مع رواية رسمية جديدة تعيد تقديم المملكة كأرض حضارات عريقة ضمن رؤية 2030.

في كتابه “الدحيح ما وراء الكواليس”، يكشف الكاتب طاهر المعتز بالله أن البرنامج دخل مرحلة الرقابة الذاتية بعد الهجوم العنيف الذي تعرّض له عام 2019، حين اتُهم بنشر أفكار “إلحادية” على يد الداعية الأردني إياد القنيبي. ورغم أن الأزمة انتهت سريعًا، فإن آثارها كانت عميقة، إذ أعادت تشكيل هوية البرنامج، ودفعته أكثر نحو الترفيه الخفيف.