العجز عن تفسير اللامتوقع

ربما كان أحد أفضل الدروس، التي يمكن للإنسان أن يتعلمها خلال مسيرة حياته، وأن من المستحسن تعلّمها في وقت مبكر، التخلي عن وهم السيطرة المطلقة على مسار الأحداث، أو الإيمان الراسخ بديمومة الحاضر إلى حدّ إلغاء الماضي والمستقبل.

الحياة، كما تشير التجارب، ليست خطاً مستقيماً، تنطلق من مكان لتنتهي إلى مكان وفق مخطط دقيق، بل هي سلسلة من الأحداث، تتخللها مفاجآت غير متوقعة، أو ما يبدو لنا مفاجآت، تغير مجرى الأمور كما ألفناها، تعيد رغماً عنا تشكيل واقعنا الشخصي، وقد تتمدّد إلى دائرتنا الاجتماعية والسياسية والإنسانية. ويتضخم تأثيرها المعاكس، في حال اعتقادنا بدوام وهم الاستقرار.

هناك من يتوهم أن الحاضر، بما يحمله من استقرار نسبي، ولو شابه أحياناً اضطراب بسيط بين فترة وأخرى، سيبقى على حاله، ويمكن التنبؤ بالمستقبل استناداً إلى معطيات الحاضر. هذا الإيمان بدوام اللحظة الراهنة يجعل الإنسان يخطط، يحلم، وربما يطمئن. غير أن هذا النوع من الطمأنينة هش للغاية، لأنه يتجاهل الحقيقة الأساسية التي أثبتها التاريخ، وتجارب الأفراد على حد سواء: أن المفاجآت جزء أصيل من نسيج الحياة.

فجأة وجد السوريون أنفسهم في وضع لا يقلّ عن انقلاب

فكمْ من شخص استيقظ صباحاً وهو يظنّ أن يومه سيكون اعتيادياً، فإذا بخبر أو حادثة تغيّر مجرى حياته بأكملها. ماذا لو فكرنا فيه على مستوى الشعوب، فالسوريون استيقظوا يوم 8 كانون الأول/كانون الأول على سقوط النظام، بينما كانوا يسيرون في انحدار رتيب سياسياً واقتصادياً، في أفق مسدود تماماً، وانعدام للإرادة، بعدما أوقع النظام في يقين الشعب أنه مستمر إلى الأبد، والمتغيرات تأتي من فوق، بشكل محسوب لا علاقة لهم به على الإطلاق، حتى بات الاعتقاد أن لا شيء سيحدث، ولا انفراج في الأفق المنظور، فالخراب شامل، وعليهم التعايش معه.

فجأة وجد السوريون أنفسهم في وضع لا يقلّ عن انقلاب، لقد سقط نظام الأبد بسهولة، وعلى غير توقع. وكأنه لم يسبقه 14 عاماً من ثورة وحرب داميتين، كلّفت آلاف التضحيات، لا تقل عن مليون شهيد. الانتصار لم يكن سهلاً أبداً، وأحدث انفراجاً كبيراً، لكنه وضع البعض في خضم أزمة تحول جذري غامض، لم يستطيعوا التكيف مع انبثاقة مباغتة، قلبت الاستقرار المخادع والطمأنينة القلقة إلى أزمة، وكأنه كان لديهم ما يعملون عليه، ثم أصبحوا بلا عمل، وفقدوا خططهم الافتراضية للمستقبل، ما الذي يفعلونه؟ مع أن الحدث لم يمنع عنهم الحرية كي يتحركوا، لكن إلى أين؟ هذا ما طاول طبقة النخبة الكسيحة.

أمام هذا الواقع المتغير، تسابقت الجماعات التي تطمح إلى الانفصال، وبتعبير آخر محبب إلى الاستقلال، بينما كان دور المثقفين، الفشل في الانفتاح على الممكن، ومن دون مرونة، ولا نعني الاستسلام، لم يتقبلوا التغيير، مع إحساس بالقلق، وبلا خطط عملية بديلة، سوى الرفض لما فوجئوا به. 

ما غاب عنهم، أو ما رفضوا الانخراط فيه، هو أن اللامتوقع لا يتجه دوماً نحو الأسوأ. في الكثير من الأحيان، يفتح أبواباً كانت مغلقة، وفرصاً كانت مستحيلة. هذا هو اللامتوقع السوري، فاجأ رهطاً من المثقفين، وهبَط محملاً بإمكانيات هائلة في التغيير، وكشف عجزهم عن التعامل معه، رغم قناعتهم أن النظام الساقط كان كارثة على البلاد، ارتدوا إلى أجنداتهم الأيديولوجية بعد تحديثها، بينما في الجوهر، أسفرت عن الفوضى الذي تحمله، وتبشر به.

منذ اليوم الأول، صرخوا هذه مؤامرة، كي يفسروا هذا الذي لم يتوقعوه. لم يفهموا أن البلد غير محصن من التحولات، ولن ينتظر. لهذا سيمضي مخلفاً وراءه، هؤلاء الذين قصروا عنه.

* روائي من سورية