قرّرت الحكومة البريطانية (الجمعة الماضي) منع مسؤولين إسرائيليين من المشاركة في معرض الأسلحة الدولي (DSEI UK 2025)، الذي سيقام في لندن (9 – 12 أيلول/ أيلول الجاري). ما زالت الشركات الإسرائيلية الكبرى قادرةً على عرض منتجاتها، لكنّ لغياب وفد رسمي من جناح دولة الاحتلال دلالات سياسية ودبلوماسية، ولا يأتي القرار البريطاني بمعزل عن مشهد أوروبي أوسع يتدرّج من خطوات رمزية إلى إجراءات أكثر جذرية، تُترجم انتقادات متكرّرة لجرائم الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة أفعالاً دبلوماسية في مجالات التجارة والدفاع والتسليح. فهل يمكن للضغوط الأوروبية أن تغير فعلياً السلوك الإسرائيلي العسكري في قطاع غزّة؟
يبدو الموقف البريطاني في ظاهره متقدّماً، فحتى كتابة هذه السطور علّقت لندن نحو 30 رخصة تصدير من أصل 350 رخصة، وجمّدت محادثات تجارية ثنائية، وجاءت الخطوة أخيراً بإغلاق الباب أمام كبار المسؤولين الإسرائيليين في معرض السلاح الأكثر أهمية عالمياً. مع ذلك، يظلّ الضغط جزئياً إن أبقت لندن على استثناءٍ أساسي يتعلّق بمكوّنات برنامج F-35، المشروع المشترك بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، إذ قضت المحكمة العليا البريطانية (حزيران/ حزيران الماضي) بجواز استمرار التصدير، وهو استثناء يحفظ لإسرائيل شرياناً استراتيجياً لسلاحها الجوي. تحمل البيانات الرسمية البريطانية بعداً رمزياً من رفض التصعيد والمطالبة بوقف إطلاق النار إلى حديث عن ضرورة إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، لكنها لا تذهب أبعد إلى حدّ الحظر الشامل أو العقوبات الاقتصادية الأوسع، فترفع الدبلوماسية البريطانية الكلفة المعنوية والسياسية لكن من دون خطّة متكاملة لقطع سلاسل التوريد. كان الموقف الألماني أكثر تقدّماً حين أعلنت برلين (آب/ آب الماضي) وقف تصدير أسلحة إلى دولة الاحتلال، وهو ليس تفصيلاً بسيطاً حين نعلم أن ألمانيا تحتلّ المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة مورّدة للأسلحة إلى إسرائيل. وجاء القرار استجابةً لضغط من الرأي العام (أكثر من 70% من الألمان يريدون قيوداً مشدّدة على صادرات السلاح إلى إسرائيل، وثلثهم مع حظر كامل)، وفي وقت كانت فيه إسرائيل تتحضّر لتوسيع عملياتها في غزّة، ما يشير إلى أن برلين تريد مآذارة ضغط استثنائي ملموس لا الاكتفاء ببيانات قلق إنساني، لكن قرارها يركّز في الأسلحة التي يُحتمل استخدامُها في غزّة، من دون حظر شامل لصادرات الأسلحة. قرار مؤقّت حتى إشعار آخر.
اضطرت شركات إسرائيلية في معرض باريس للطيران (حزيران/ حزيران 2025) لإزالة أسلحة هجومية من أجنحتها (أُغلقت أخرى رفضت ذلك). إجراءات فرنسية ترتبط بالمعارض والفعّاليات لم تصبح سياسة ثابتة في التراخيص، ونقضت محاكم فرنسية قرارات حظر “دفاعية” مع إسرائيل، ما عكس تبايناً بين السلطتَين التنفيذية والقضائية، وبين المصالح التجارية واعتبارات السياسة، ما يجعل الموقف الفرنسي ضغطاً تكتيكياً متقطّعاً لا يعبّر عن توجّهات استراتيجية أصلية. وحده القضاء الهولندي لعب دوراً مهماً في احتكاك موقف لاهاي بسلاسل التوريد لمشروع F-35، حين أمر (شباط/ شباط 2024) بوقف تصدير قطع غيار تلك الطائرات إلى الاحتلال، لكن هولندا مورّداً وسوقاً للسلاح تأثيرها محدود إذا بقيت وحيدة في أوروبا، لكن مع إلغاء إسبانيا مبكّراً صادرات السلاح إلى إسرائيل، ولاحقاً بعض تراخيص الذخيرة (وكذلك إقليم فالونيا في بلجيكا)، ودفْع كلٍّ من أيرلندا وسلوفينيا ومالطا بالتشريعات التي تحظر التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية، ومع توجّهات أوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، تتعزّز الصورة بأن إسرائيل لم تعد تحظى بإجماع أوروبي داعم بلا تحفّظ.
يبدو الاتحاد الأوروبي مقيّداً بقانون “الموقف الأوروبي المشترك”، الذي يضع معاييرَ لتصدير السلاح، لكنّه يترك القرار لكل دولة على حدة، لكن تحديثات نيسان/ إبريل 2025، شدّدت على مراقبة “مخاطر ما بعد الشحن”، وزادت شفافية منح التراخيص، لكن ذلك يوفّر ضغوطاً في حدود المبادرات الوطنية بتأثير تكتيكي يرفع الكلفة ويبطئ سلاسل التوريد، لكنه استراتيجياً يبقى دون تغيير المعادلة العسكرية الإسرائيلية فعلياً، في غياب خطّة أوروبية موحّدة واستمرار التدفّق العسكري الأميركي بلا قيود تذكر، وهو ما يهم إسرائيل التي لا تعبأ ببيانات القلق الأوروبي، بل بخطواتها العملية الناجعة، لا سيّما بخصوص تدفّق السلاح. لو نجحت أوروبا في توحيد موقفها لربما أدركت إسرائيل أن حربها في غزّة (وتوسيعها) غير ممكنة من دون ثمن، وأن سلاسل التوريد لم تعد في مأمن من حسابات الأخلاق والسياسة… لكن الوقت (للأسف!) ليس في صالح غزّة.