فلسطين في الشوارع والموانئ والمدرجات

انهار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حين غدت صورته أثقل من أن تُحمل في الضمير الغربي. لم يسقط ذلك النظام بطلقة واحدة ولا بمعركة فاصلة، سقط ببطء، تحت ضغط ثقافي وشعبي وسياسي أخذ يتراكم مثل مياه سرّية تنحت الصخر، حتى صاغ خطاباً واحداً، جعل من التضامن قوة ملموسة تُترجم إلى مقاطعة وعزلة وعقوبات. في تلك اللحظة كان المشهد شديد الوضوح: شعب يطالب بمساواة لا لبس فيها، والغرب يجد أمامه لغة أخلاقية صافية تسمح له بإدانة بريتوريا ونزع الشرعية عنها. اليوم تعود فلسطين لتطرح السؤال نفسه على ذاكرة العالم، لكن في سياق أكثر التباسًا. ما كان طويلاً استثناءً محروسًا بسردية الكارثة النازية وبوظيفة استراتيجية في قلب الشرق الأوسط، بدأ يتصدع تحت ضغط آخر: الشوارع التي تفيض من سيدني إلى مدريد، الأساطيل المدنية التي تبحر من الموانئ محمّلة بالمتضامنين، المهرجانات الفنية التي تتحول إلى منصّات احتجاجية، والجامعات الغربية التي تهتز على وقع اعتصامات لا تهدأ. ليست هذه مجرد انفعالات عابرة، بل شبكة اجتماعية جديدة، متشابكة العروق، تعيد كتابة حضور فلسطين في المخيال الكوني، لا بما هي ملف سياسي تفاوضي، بل بوصفها أيقونة للتمييز الممأسس وسؤالا أخلاقيا.

لم تعد فلسطين ملفّاً دبلوماسيّاً يتداول في مكاتب مغلقة أو بنداً عابراً في مفاوضات متعثّرة؛ صارت استعارة مكثفة للتمييز الممأسس في هذا الزمن اللامعقول المنتشر على امتداد البسيطة، حيث تفوز الصورة على البيان، ويعلو صوت الاحتجاج العابر للحدود على حساب لغة الدبلوماسية المترددة. الدم المسكوب الذي يطل عبر الشاشات، الأجساد المحترقة والممزقة، الوجوه الهزيلة المحاصرة، والقرى المعزولة خلف جدران وأسلاك، لم تعد مجرد أرقام في تقارير المنظّمات الحقوقية، لقد تحوّلت إلى مادة يومية تتناقلها الهواتف، تضع المتلقّي في مواجهة سؤال أخلاقي عارٍ: كيف يمكن الدفاع عن نظام يصرّ على فرز البشر وفق هوياتهم، ثم يزعم لنفسه صفة الديمقراطية؟ الحكومات الغربية ما زالت تترنّح في ترددها، أسيرة معايير مزدوجة ترى في إسرائيل وظيفة استراتيجية أكثر منها كياناً سياسيّاً قابلاً للمساءلة. لكن كلفة هذا الموقف تتزايد؛ ما يجري في الشوارع والمهرجانات والجامعات يصوغ كوابح أخلاقية جديدة، حدودًا لما يمكن تبريره علناً. قد لا تكون العقوبات قد طرقت الأبواب بعد بما يكفي، لكن الشرخ في السردية قائم بالفعل، وصورة الاستثناء الإسرائيلي باتت أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

مئات الآلاف التي تخرج اليوم من أوسلو إلى سيدني، ومن طوكيو إلى ريو دي جانيرو، ليست مجرّد حشود عابرة، بل علامات على أن التاريخ بدأ يخطّ مقدماته من جديد. ما كان يُنظر إليه قبل عقود كأفق مستحيل، عاد ليطل اليوم احتمالا مطروحا: فأنظمة الفصل لا تسقط حين تُهزم عسكريًا ،لكنها تبدأ تعد خطواتها نحو النهاية، حين يعجز العالم عن تحمّل صورتها في مرآته الأخلاقية، وفلسطين تمضي نحو تلك اللحظة بخطى بطيئة. الشعوب العربية التي تقف اليوم على هامش هذا الحراك العالمي، مثقلة بإرث طويل من القمع والانكسار، محكومة بخرابٍ تركته أنظمة جعلت من العجز سياسة ومن الانكفاء قدراً. ما زالت تنظر إلى فلسطين من مسافة، متذرّعة بحاجة أولى إلى بناء أوطانها الممزّقة، وكأن الحرية قابلة للتجزئة، وكأن العدالة والسيادة قابلة للتفصيل على مقاس الحدود. لكنها ستكتشف، عاجلاً أم آجلاً، أن هذا المنطق كان وهماً؛ أن الابتعاد عن فلسطين لن يحصّن الأوطان، وأن ما يكبّل الفلسطيني عن نيْل حريته هو ذاته ما يعطّل قدرة العربي على تأسيس دولته كما يشتهيها.

لا يكرّر التاريخ نفسه نسخةً مطابقة، بل يعود كصدى متحوّل. كما تحولت جنوب أفريقيا في أواخر القرن الماضي إلى رمزٍ يستحيل على الغرب التعايش معه، تلوح فلسطين الآن مرآةً جديدة تكشف أزمة القيم الكونية ذاتها. القضية ليست في مضاهاة الآلام، بل في قياس العدالة بمعيار واحد. وما يتشكل في الساحات والجامعات والموانئ والمدرّجات ليس سوى الفقرة الأولى في نصّ جديد، يذكّر بأن لا نظام فصل يُكتب له الخلود، وأن لحظة الاختناق الأخلاقي التي أطاحت بريتوريا بدأت تتكثّف، هذه المرة في سماء الشرق الأوسط.