شهد المجتمع العراقي بروز نمط جديد من الوساطة في الزواج يُعرف بـ”الخطّابة الإلكترونية“، مدفوعة بتوسع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وتفشّي البطالة، إلى جانب تراجع الرقابة المجتمعية وغياب الضوابط القانونية. يقوم بهذا الدور وسطاء ووسيطات عبر الإنترنت، ينشطون على صفحات وحسابات في منصات مثل فيسبوك وتلغرام وإنستغرام وواتساب، إذ يُروّجون خدمات “التوفيق بين الشباب والفتيات” بهدف الزواج.
وبينما يُنظر إليها أحياناً كامتداد رقمي لدور الخطّابة التقليدية، فإنها تنطوي في كثير من الحالات على أبعاد مقلقة، تمتد من التجاري إلى الاحتيال، بل وتصل في بعض الحالات إلى الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي.
في هذا المجال، تبرز “أم سمية”، وهي سيدة عراقية تدير منذ عام 2021 صفحة متخصصة في الوساطة للزواج على فيسبوك. تقول في حديثها لـ”العربي الجديد”: “أدير صفحة تضم أكثر من 200 ألف متابع، وكل ما أقدمه يندرج في إطار الستر والزواج بالحلال. تصلنا طلبات يومية وبعضها من أهالٍ يبحثون عن زوجات لأبنائهم الذين يواجهون صعوبات في العثور على شريكة مناسبة”.
وتشدّد على أن نشاطها لا يخرق القانون، بل يسعى لمساعدة الراغبين في الزواج، مؤكدةً أنها تتقاضى أجراً رمزياً، وأنها تملك من الخبرة ما يؤهلها لتمييز الباحثين الجادين عن الزواج من غيرهم. وتقول: “لا أُزكّي أي فتاة إلا بعد التأكد منها ومن أسرتها، ولم أُجبر أحداً يوماً على القبول بشخص لا يرغب فيه. وقد ساعدتُ في إتمام أكثر من 70 حالة زواج ناجحة”.
لكنها لا تُخفي امتعاضها من بعض الصفحات المشبوهة التي أساءت إلى هذا المجال، قائلة: “المشكلة في من دخلوا المجال بدافع الربح فقط، دون ضوابط أو أخلاق. هؤلاء يجب أن يُحاسَبوا قانونياً”.
من جهته يقول رائد الموسوي، الباحث المختص في علم الاجتماع الرقمي وشؤون الأسرة، لـ”العربي الجديد”، إن “انتشار ظاهرة الخطابة الإلكترونية في العراق لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة طبيعية لتشابك عدة عوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية”. ويضيف: “الوضع الاقتصادي السيئ جعل من الزواج حلماً بعيد المنال لكثير من الشباب، فبات يُنظر إليه كنوع من الصفقة الاجتماعية التي يجب إنجازها بأي وسيلة ممكنة، حتى لو عبر وسطاء مجهولين على الإنترنت. كما أن العادات والتقاليد الصارمة في بعض المحافظات، لا تسمح للشاب أو الفتاة بالتواصل الحر مع الطرف الآخر، فيلجأ كثيرون إلى الوساطة الإلكترونية باعتبارها حلاً وسطاً بين الرغبة في الزواج وبين القيود الاجتماعية”.
يتابع: “غياب الرقابة القانونية سمح بتحول هذه الوساطة إلى تجارة غير مشروعة أحياناً، إذ لا يوجد قانون عراقي صريح ينظم عمل هذه الصفحات، ولا رقابة فاعلة من الدولة أو من المؤسسات الدينية والاجتماعية، فضلاً عن التكنولوجيا التي سهّلت الأمر على الجميع، وفتحت الباب أمام التزوير، وإنشاء حسابات وهمية، وانتحال الصفات. فإن الشاب أو الفتاة قد لا يعرفان مَن الطرف الآخر أصلاً، وهذا يفتح الباب للاحتيال أو الابتزاز”.
ويشير إلى “الضغط المجتمعي الهائل الذي تخضع له الفتيات، إذ إن الكثير منهن يبحثن عن زواج يحفظ كرامتهن، لكنهن يخشين من رفض الأهل أو نظرة المجتمع، فيلجأن إلى وسائل يُعتقد أنها آمنة، بينما قد تكون أكثر خطورة من المواجهة الصريحة. وهذا الأمر بحاجة إلى إعادة تنظيم من خلال تشريع قانوني واضح، إلى جانب حملات توعية تُظهر المخاطر، وتعيد الاعتبار لمؤسسات الزواج الرسمية والمجتمعية”.
منهل مشتاق، المختص في الأمن السيبراني وتصميم المواقع الإلكترونية، يوضح كيف تتم الخطابة الإلكترونية. ويبيّن أن “الخطوة الأولى تكون عن طريق إعلان إلكتروني في هذه الصفحات (صفحة خطابة) أو صفحة (نخطب لك)، مثلاً، وتُنشر فيه صور لفتيات، وهي غالباً وهمية أو رمزية وليست للشخصية المعنية، مع معلومات العمر، الحالة الاجتماعية، والطول والوزن والملامح وغيرها، وكذلك المهر المطلوب وأي شروط أخرى، ومن ثم يتم التواصل عبر الدردشة، حيث يطلب الوسيط بيانات الطرف الآخر، مع ذكر مبلغ مالي على هيئة رسوم تسجيل”.
ويتابع مشتاق: “تتحول عادة هذه الحالة إلى الابتزاز أو الاحتيال بعد الدفع، فقد يختفي الوسيط أو تُستخدم البيانات لاحقاً للضغط أو الابتزاز. لكن هذا لا يعني أن جميعها وهميةً، فهناك حالات يتم فيها ترتيب لقاءات تنتهي بعلاقات مشبوهة، أو زيجات غير قانونية، أو يُستدرج الأشخاص لاستغلال جنسي”.
أما مهند الجابري، الباحث وأستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد، فيرى أن “الخطابة الإلكترونية إفراز طبيعي لتغير البنية الاجتماعية والتواصلية في البلاد”. يقول: إننا “أمام جيل يعيش في فضاء رقمي بالكامل، ويعاني من انقطاع شبه كامل عن آليات الزواج التقليدية التي كانت تعتمد على العائلة أو الجيران أو المعارف”.
ويلفت إلى أن “الخطير في هذه الظاهرة ليس فقط عدم خضوعها لأي رقابة، بل في الطابع التجاري الذي بدأت تأخذه، حتى إن بعض الصفحات باتت تعرض “كاتالوغات” للفتيات أو الشبان، وكأننا أمام سوق زواج مفتوح بلا أي ضوابط أخلاقية أو دينية”. ويتابع “هناك مستخدمون لهذه الصفحات يعانون من وحدة، فراغ عاطفي، أو حتى ضغط مجتمعي مباشر. بعض الفتيات، خاصة الأرامل أو المطلقات أو اللواتي تجاوزن سن الثلاثين، يجدن في هذه الصفحات طوق نجاة من نظرة المجتمع القاسية”.
من جانبه يقول المحامي عبد الله الساعدي، المختص في القانون الجنائي، لـ”العربي الجديد”: “الخطّابة الإلكترونية، بصيغتها المتداولة حالياً، تمثل ثغرة قانونية واضحة في العراق، فنحن أمام نشاط يُآذار خارج إطار الترخيص، وغالباً دون رقابة، ويتورط فيه أفراد مجهولون يختبئون خلف شاشات إلكترونية، في بيئة غابت عنها الضوابط الأخلاقية والتشريعات الصريحة”.
ويضيف، “استقبلنا خلال الأشهر الأخيرة عشرات الحالات، تتراوح بين الاحتيال المالي، والابتزاز، ووصل بعضها إلى استغلال جنسي لفتيات قاصرات، بحجة التزويج الشرعي عبر وسطاء إلكترونيين”. ويتابع، “المشكلة لا تكمن فقط في مَن يدير هذه الصفحات، بل في البيئة القانونية الضعيفة التي لا تُجرّم هذا النوع من النشاط بشكل صريح، فقانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 لم يُحدَّث بما يكفي ليواكب الجرائم الإلكترونية المعاصرة، كما أن قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2012 لم يتطرق بوضوح لمسألة التزويج الوهمي عبر الإنترنت. وهذا ما يجعلنا بحاجة ماسة إلى تشريع خاص يُنظم أعمال الوساطة الإلكترونية، يفرض ترخيصاً، ويعاقب المخالفين بعقوبات رادعة، خاصةً حين يتبين أن هناك قضايا تتعلق بالابتزاز أو الاتجار”.
وترى وزارة الداخلية العراقية أن الفضاء الإلكتروني أحد الأركان الأساسية في التواصل مع المواطنين في وقتنا هذا، لكنه يمثل تحدياً كبيراً في ظل انتشار صفحات إلكترونية تنشر محتوى قد يكون ضاراً بالمجتمع.
ويقول ضابط برتبة مقدم في الشرطة المجتمعية لـ”العربي الجديد”: “دورنا هو تعزيز الأمن المجتمعي، ومراقبة هذه الصفحات بحرص شديد، خاصة إذا كان المحتوى يروج للعنف أو يثير الفتن بين أبناء الشعب العراقي”. ويضيف: “لا نهدف إلى تقييد حرية التعبير، لكننا نولي اهتماماً خاصاً بتلك الصفحات التي تروج لخطابات متشددة أو تحتوي على رسائل تحريضية. تتعاون الشرطة المجتمعية مع الجهات المختصة مثل هيئة الإعلام والاتصالات لضمان أن يكون المحتوى المتداول في الفضاء الإلكتروني متوافقاً مع قيمنا ولا يهدد استقرارنا الداخلي”.
ويضيف، طالباً عدم الإفصاح عن نفسه كونه غير مخوّل بالتصريح وفقاً لقوله، أنه “من المهم أن ندرك أن الخطابة الإلكترونية ليست حكراً على الأشخاص المتطرفين فقط، بل يمكن أن تشمل أيضاً أشياء قد تكون غير مقصودة، مثل نشر معلومات مغلوطة أو تحريضية تحت ستار الدين أو السياسة. لذلك، نحن ملتزمون بالتدخل السريع لحماية أمن المواطن وضمان عدم استغلال هذه المنابر في نشر الأفكار التي قد تقود إلى الفوضى.