تواجه فاطمة الهواري الجمهور، وهي تروي تفاصيل يوم الثامن والعشرين من تشرين الأول/ تشرين الأول 1948، حين قصف طيران العدو بلدتها ترشيحا في الجليل الفلسطيني، وتسقط بعد مقاومةٍ شرسة استمرت لأكثر من عشرة أشهر، بينما يقف في الخلف الطيار الإسرائيلي آبي ناتان الذي شارك في المعركة، يروي التفاصيل ذاتها من موقع العدو حتّى لحظة احتلال ترشيحا.
مشهدٌ أساسي في مسرحية “فاطمة الهواري.. لا تصالح” للمخرج غنام غنام، التي عُرضت أول أمس في ساحة مسرح أسامة المشيني في عمّان، في ختام الدورة الرابعة من مهرجان الرحالة الدولي للفضاءات المغايرة، التي استمرت لخمسة أيام.
الممثلان التونسية أماني بلعج والأردني أحمد العمري يؤديان وقائع قصة حقيقية جرى تقديمها سابقاً في فيلم “عروس الجليل” (2006) لباسل طنوس، لكن الأحداث تُختصر على الخشبة لتبدأ من نهايتها، في اللقاء الذي جمَع الجلّاد بالضحية؛ الأول أتى ليعتذر عن جرائمه بحضور إعلام غربي وينتهي شعوره بالذنب بوصفه داعية سلام، بينما تستدعي الثانية حكايتها منذ أن أصيبت بشلل في رجليها بينما كانت تستعد لحفل زفافها، وفقدت أغلب أفراد عائلتها، وبقيت على كرسي العجلات أربعة وخمسين عاماً، إلى أن جرى هذا اللقاء.
شخصيتان مركّبتان
يلجأ المخرج إلى البعد الرمزي المتمثل في رفض فاطمة اعتذار آبي ناتان، فلم تعد المسألة بالنسبة إليها شخصيةً رغم أن سلطات الاحتلال لم تمنحها حق العلاج، وكانت بحاجة إلى اعتذار عدوها الذي يعني الاعتراف بفعلته وتنال تعويضاتها وعلاجها، إذ كانت الرواية الإسرائيلية الرسمية تصرّ على أن ترشيحا قُصفت بطيران عربي. لكن فاطمة لم تؤمن بأن الجزاء عادل بعد أن ضاع وطن بأكمله، وهجّر معظم أبنائه قسراً، ولا يزال الكيان يقتل وينتهك ويتوسّع.
يلجأ المخرج إلى بعد رمزي متمثل في رفض فاطمة اعتذارعدوّها
في الجهة المقابلة، لا تبدو شخصية آبي ناتان مركبة على هذا النحو، وهو الذي حطّ بطائرته في مدينة بورسعيد المصرية عام 1966، داعياً عبد الناصر الذي لم يلتقه يوماً إلى السلام، ليعتقل بعد رجوعه إلى إسرائيل، ثم أسس إذاعة أسماها صوت السلام كانت تبثّ من البحر الأبيض المتوسط بدعم من جون لينون، التي تسخر منه فاطمة في العرض على طريقتها، فهي تحب سماع أغانيه إلّا أنها تمقت شراكته مع عدوها. ربما لم يهتمّ العمل بفهم تحولات آبي ناتان التي تعكس في جانب منها خوف القاتل وعجزه عن استيعاب ذاته التي نجت من محرقةٍ لتبيد شعباً وتحلّ مكانه وتطمس ذاكرته.
الشكل والمعالجة
لم يوظّف المخرج الإضاءة والديكور وشاشة العرض وغيرها من العناصر السينوغرافية لصالح العرض الذي اعتمد أساساً على الحوار عبر سرد الحكاية للحاضرين الذين كلما اتضحت ملامحها أكثر لديهم زاد ثقلها في التلقي، وغدا التفاعل معها محصوراً في تتبع وقائعها وتسلسلها، بينما يمكن لأدوات أخرى أن تنوب عن الممثل، في تقديم دلالات موازية للحدث وتأثيره.
وينسحب الأمر على كمّ المعلومات والشخصيات والأحداث التي ترد على لسان الشخصيتين، سواء أسماء القادة العرب الذين قاتلوا في ترشيحا وعلى رأسهم اليمني مهدي صالح والسوري أديب الشيشكلي، وكذلك استحضار فصول القتال بين المقاومين وبين العصابات الصهيونية، وغيرها من المعطيات التاريخية التي يتطلّب تقديمها معالجة تكثّف الحوار/ الحدث لصالح عناصر مسرحية أخرى.
نهاية وسؤال
التزم العمل بمسار القصة كما جرت على أرض الواقع، والتي تبدو نهايتها الحقيقية بحصول فاطمة على حقها حين تقابل آبي ناتان مشلولاً عقب إصابته بجلطة دماغية، بما يظهر انحيازاً لقناعة غيبية تعفي القاتل من تحمّل كامل جرائمه، طالما نال الجزاء الفردي ذاته، وأصيب بما أصيبت به الضحية!
سؤال يُطرح في نهاية عرضٍ قدّم خارج المسابقة الرسمية للمهرجان الذي اشتمل برنامجه على عروض عربية عدّة منها “كل عار وأنت بخير” من تأليف وإخراج وتمثيل الأخوين ملص (سورية-فرنسا)، و”نبات” إخراج نجاة نجم وتأليف دلشاد مصطفى (العراق-فرنسا)، و”اغتراب” من إخراج انتصار عيساوي وتأليف وليد الدغسني (تونس).