بين قسوة الجفاف الذي يطبع مناخ المغرب منذ سنوات، وتقلبات الطقس التي تجود بأمطار رعدية متقطعة لا تكفي لسد العجز، يجد المغرب نفسه أمام معضلة صعبة: تأمين مياه الشرب للمواطنين، حتى لو كان ذلك على حساب الزراعة. وتتجلى هذه الأزمة بوضوح في تراجع مخزون السدود والموارد المائية، واضطرار السلطات إلى فرض قيود على التزود بالمياه في بعض المدن، بينما يعيش المزارعون تحت ضغط حرارة قياسية ونقص مياه السقي، الأمر الذي يُنذر بخسائر فادحة في الإنتاج الزراعي.
فقد شهد إقليم الحوز (جنوب غرب) في الآونة الأخيرة، أمطاراً رعدية غزيرة تسببت في فيضان بعض الأودية. وهذه الأمطار، وإن أثارت المخاوف لدى القرويين من انجراف التربة وتضرر الحقول والأشجار المثمرة، فقد أعادت في الوقت نفسه الأمل بإمكانية تحسن الموارد المائية. وفي هذا الصدد، يقول المزارع الحسن بن عدي من منطقة إمليل لـ”العربي الجديد”: “مشاعرنا متأرجحة بين الخوف من الأضرار والفرح بقدوم هذه الأمطار. والصحيح أن العواصف الصيفية تحمل معها خسائر، لكننا نعتبرها في النهاية نعمة، فهي تترسّب في القمم لتتحول لاحقاً إلى مياه عيون وجداول تساعدنا على السقي وتوفير مياه الشرب”.
قيود التزود بالمياه في المغرب
ورغم التدابير الحكومية التي أُطلقت هذا العام لتدبير ندرة المياه، إلا أن بعض المناطق ما زالت تواجه اضطرابات في التزود. ويوضح رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك بوعزة الخراطي، أن الوضع في بعض المدن بات مقلقاً، إذ شهدت مدينة واد زم مثلاً تقليص فترة التزود بالمياه الصالحة للشرب إلى خمس ساعات يومياً فقط، نتيجة ندرة المياه وصعوبة استخراجها من الآبار بعد تراجع منسوب المياه الجوفية.
ويضيف رئيس الجامعة الوطنية لجمعيات المستهلك وديع مديح، في تصريح مماثل، أن جمعيته تلقت شكايات متعددة من مواطنين في مدن مختلفة بعد تحديد فترات التزود بالمياه خلال اليوم أو خفض الصبيب. لكنه يؤكد أن الوضع الحالي يظل أفضل مما كان عليه العام الماضي، إذ لم تُسجل خصاصات (فجوات) حادة رغم القيود المفروضة. ويعزو ذلك إلى التساقطات المطرية في ربيع العام الجاري، وإلى التضامن المائي بين الأحواض عبر نقل الفائض من بعضها إلى أحواض أخرى تعاني عجزاً، فضلاً عن اللجوء إلى المياه المحلاة حلاً بديلاً.
أزمة الجفاف والمياه في المغرب بالأرقام
الأرقام الرسمية التي نشرتها وزارة التجهيز والمياه تكشف حجم التحدي. فحتى تاريخ 18 آب/آب المنصرم، لم يتجاوز المخزون المائي في السدود 5.8 مليارات متر مكعب، أي ما يمثل 34.4% فقط من الطاقة الإجمالية. ويُقدر الطلب السنوي على المياه العذبة في المغرب بنحو 16 مليار متر مكعب، منها 1.7 مليار موجهة للشرب و14 ملياراً للفلاحة، بينما لا يتعدى استهلاك الصناعة 300 مليون متر مكعب.
غير أن الواردات المائية السنوية تراجعت بشكل حاد من 11 مليار متر مكعب سابقاً إلى نحو خمسة مليارات فقط حالياً، بفعل انخفاض التساقطات المطرية وارتفاع درجات الحرارة، ما يتسبب في تبخر يصل إلى 1.5 مليون متر مكعب يومياً. وفي ظل هذا التراجع، تُعطى الأولوية لتأمين مياه الشرب عبر توفير مليار متر مكعب من السدود و700 مليون متر مكعب من المياه الجوفية.
الزراعة أكبر الخاسرين
والقطاع الزراعي هو الخاسر الأكبر من هذه السياسة. فبعدما كانت الزراعة تستفيد من ثلاثة مليارات متر مكعب من مياه السدود، لم تعد تحصل إلا على مليار واحد يُوزَّع بين الأحواض الزراعية وفقاً لمستوى العجز، وهو ما أحدث تفاوتاً بين المناطق وأضرّ مباشرة بمحاصيل عدة.
منتجو الحوامض، على سبيل المثال، رفعوا الصوت مجدداً، محذرين من أن الحرارة القياسية وتراجع حصص مياه السقي سيؤديان إلى خسائر جسيمة في الإنتاج هذا العام. ويشيرون إلى أن الوضع دفع عدداً من المزارعين إلى اقتلاع أشجارهم أو التخلي عن نشاطهم الزراعي كلياً، بعدما باتت الأولوية المطلقة لدى السلطات لتأمين مياه الشرب. ويؤكد المنتجون أن مطالبهم بالاستفادة من برامج المياه، خصوصاً تلك المتعلقة بتحلية مياه البحر وإنشاء “طرق سيارة للمياه”، لم تتحقق بالقدر الكافي، ما عمّق معاناتهم.
وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن المغرب يتجه إلى إعادة صياغة سياساته المائية جذرياً، عبر التوسع في مشاريع تحلية مياه البحر، وتكثيف عمليات نقل المياه بين الأحواض، وتشديد إجراءات ترشيد الاستهلاك. غير أن هذه الحلول، على أهميتها، تحتاج إلى سنوات قبل أن تظهر نتائجها على الأرض. وإلى ذلك الحين، ستظل البلاد عالقة في معادلة صعبة: بين عطش الإنسان وجوع الأرض.
ولا يقتصر شبح الجفاف وندرة المياه على المغرب، بل يخيّم على مجمل المنطقة العربية التي تُعد من أكثر مناطق العالم جفافاً. فبحسب تقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي، يعيش أكثر من 60% من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحت ضغط مائي شديد، أي بأقل من ألف متر مكعب من المياه العذبة للفرد سنوياً، وهو ما يقل كثيراً عن المعدل العالمي البالغ خمسة آلاف متر مكعب. ومن الأمثلة القوية على شدة الأزمة، العراق وسورية ومصر، رغم وجود ثروة نهرية هائلة فيها.