وسط أزمات اقتصادية متلاحقة وانقسام سياسي مزمن، انتعشت تجارة الدولار، وتحوّل سوق الصرف الموازية للعملة في ليبيا إلى مرجع يومي يحدد أسعار الصرف ويؤثر مباشرة في معيشة المواطنين، متقدّمة بذلك على المصارف الرسمية التي عجزت عن تلبية الطلب المتزايد على النقد الأجنبي. في العاصمة طرابلس، كما في مدن أخرى مثل بنغازي وزليتن، تنتشر عمليات بيع الدولار وشرائه في العلن. سيارات بلا لوحات تتوقف قرب الأسواق، يترجل منها رجال يحملون أكياساً مملوءة بالدنانير والدولارات، قبل أن يوزعوها على سماسرة الصرف الذين يديرون نشاطاً بات يوازي المصارف في حجمه، وربما تفوق عليها في مرونته.
وفي السياق، يقول عبد الهادي كلباس، أحد سماسرة العملة في طرابلس لـ”العربي الجديد”: “نحن نقدم خدمات تحويل فورية داخل البلاد وخارجها، ونوفر النقد بالدولار واليورو، وحتى بالدينار. المصارف لا تستطيع مجاراتنا”. ويضيف أن شركات سياحة وسفر تلجأ إليهم لتسديد الحجوزات وتحويل الأموال.
شباب كُثر وجدوا في تجارة النقد الأجنبي مصدر رزق سريع. أحمد الغرياني (22 عاماً)، خريج كلية الآداب، يوضح لـ”العربي الجديد” أنه يحقق يومياً نحو 100 دينار (سعر الصرف 5.5 دنانير للدولار) من المضاربة بالدولار في سوق المشير وسط طرابلس: “لم أجد وظيفة، فصرت أتردد يومياً على السوق وأشتري من محلات الصرافة غير المرخصة”.
ورغم الإجراءات التي أعلنها مصرف ليبيا المركزي للحد من نشاط السوق السوداء للعملة، بقيت أسعار الدولار في سوق المشير المؤشر الحقيقي للعملة الصعبة. هنا، يؤكد الخبير الاقتصادي محمد الشيباني لـ”العربي الجديد” أن “السوق الموازية باتت المحرك الفعلي لسعر الصرف، فيما تحولت الإجراءات الرسمية إلى رد فعل متأخر”، مشيراً إلى أن الانقسام السياسي ساهم في ترسيخ هذا الواقع.
وفي السنوات الأخيرة، تحوّل هذا السوق إلى مركز رئيسي لتجارة العملة الصعبة في ليبيا. تسيطر السوق الموازية على حركة البيع والشراء، بينما يجد مئات الشباب العاطلين من العمل فرصة لدخول مهنة الصرافة، التي أصبحت “ملاذاً سريعاً” لتأمين مصدر دخل في بلد يرزح تحت أزمات اقتصادية متلاحقة.
وتمتد الانعكاسات إلى السلع الأساسية، حيث ترتبط أسعار المواد الغذائية والدواجن والوقود بسعر الدولار الموازي. يقول المواطن محمود التير لـ”العربي الجديد”: “أصبح السوق الموازي حياة كل ليبي.. إذا أردت الكاش أو تحويلاً أو حتى منحة الأبناء، لا خيار أمامك سوى السوق”. ورغم طابعه غير القانوني، يعتبره كثيرون وسيلة عملية لحل أزمات السيولة وتلبية احتياجات سكان المناطق النائية.
ويكشف صاحب مكتب صرافة غير مرخص في منطقة الظهرة، مسعود راشد، عن آلية توزيع الدولار في السوق المحلي، موضحاً لـ”العربي الجديد” أن “مصدر الدولارات أحياناً يأتي من كبار السوق، حيث تصل السيارات يومياً وتحمل الأموال في أكياس قمامة سوداء توزع على المحلات، ونحن نعمل حسب كمية العملة، سواء كانت أجنبية أو محلية، مع حصولنا على نسبة من المبلغ المبيع”.
من جانبه، يؤكد خليفة الرجباني، صاحب محل صرافة لـ”العربي الجديد”، رواية مشابهة، لافتاً إلى أن “مصادر تغذية سوق العملة تشمل بطاقات الأغراض الشخصية، والطلبة الموفدين للخارج، والعاملين في السفارات، الذين يأتون إلينا بالدولار النقدي للبيع. كذلك يشارك رجال أعمال في بيع كميات كبيرة، ما يشكل السوق من كبار السوق الذين يشترون ويبيعون كميات ضخمة، بينما نعمل نحن صغار السوق وسطاء، ونبيع حسب ما يصلنا عبر غرف واتساب، ونرفع الأسعار لنحصل على رواتبنا أو نسبة من المبيعات”.
ويشير الرجباني إلى أن “العمليات اليومية أحياناً تصل إلى 10 آلاف دولار، مع تحويلات للأجانب”، ما يعكس حركة نشطة وواسعة في سوق العملة الموازية، وسط غياب رقابة فعالة من الجهات المختصة. ووفقاً لوزير المالية الأسبق فرج بومطاري، تستحوذ السوق الموازية على نحو 10 مليارات دولار سنوياً، بما يعادل 57% من التداول النقدي الأجنبي عام 2020. وتشير تقديرات رسمية إلى أنها شكّلت نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي بين 2013 و2020، فيما تتحدث دراسات غير رسمية عن وصولها إلى 88% مطلع 2021.
تاريخياً، كان حجم الاقتصاد غير الرسمي في ليبيا محدوداً، إذ لم يتجاوز 3.1% عام 2006 بعد سلسلة إجراءات اتخذها المصرف المركزي، غير أن الفوضى السياسية والانقسام بعد 2011 سمحا بتمدده على نحو غير مسبوق. ويطرح مصرف ليبيا المركزي خطة تهدف إلى تقليص الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي إلى بضعة قروش قبل نهاية العام، عبر تفعيل مكاتب الصرافة رسمياً وإشراف مباشر على عمليات البيع والشراء. مصادر مطلعة تعتبر أن “المصرف يمتلك القدرة على احتواء السوق، لكن نجاح الخطة مرتبط بمدى التزام المؤسسات الرسمية التنسيق الفعلي”.
ويثير الخبير المالي وعضو مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي، مراجع غيث، تساؤلات حادة عن دور المصرف في تغذية السوق السوداء بالدولار. وقال لـ”العربي الجديد” إن “الأغلبية تؤكد أن السوق السوداء تتغذى على الفساد في الاعتمادات وبطاقات الأغراض الشخصية، التي تصدر جميعها عن المصرف المركزي”، متسائلاً: “هل يعني ذلك أن المصرف، عن وعي أو عن جهل، يغذي هذه السوق؟ ولماذا لا يتخذ إجراءات بالتعاون مع مؤسسات الدولة المختصة لمحاربة هذه الآفة، التي يسميها البعض ‘السوق الموازية’ وكأنها سوق شرعي مقابل السوق الرسمي؟”.