لم تنجح شاحنات البضائع التي دخلت إلى قطاع غزة مؤخراً في كسر حدة التجويع، كونها محدودة للغاية مقارنة بحجم الحاجة، وأسعارها تفوق القدرة الشرائية لغالبية العائلات التي فقدت مصادر رزقها وسط الحرب الإسرائيلية المتواصلة منذ نحو 23 شهراً.
يخيم شبح التجويع على آلاف العائلات الفلسطينية في قطاع غزة، والتي لم تستفد كثيراً من دخول أعداد محدودة من شاحنات المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم في رفح (جنوب)، ومنطقة زيكيم في الشمال، ولا تزال موائدهم أسيرة أطعمة مكررة لا تكفي لمسك رمق الأطفال أو الكبار، ولا تحمي أجسادهم من الأمراض، تنحصر في العدس والأرز وبعض المعلبات. ويفيد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بأن الاحتلال يواصل منع أكثر 430 صنفاً من المواد الغذائية الأساسية، والمواد المحظورة تشمل اللحوم الحمراء والبيضاء، والأسماك، والأجبان، ومشتقات الألبان، والفواكه والخضراوات، والمكملات الغذائية، إلى جانب أصناف ضرورية مثل المدعمات التي تحتاج إليها الحوامل وأصحاب الأمراض المزمنة.
ويوضح المكتب الإعلامي الحكومي في بيان، أن الاحتلال لم يسمح خلال الثلاثين يوماً الماضية إلا بدخول 14% فقط من الاحتياجات، ما سبَّب العجز القائم، وأن أكثر من 95% من سكان القطاع بلا مصادر دخل، في حين يمنع الاحتلال تنظيم عمليات توزيع المساعدات أو تأمينها، ويواصل سياسة (هندسة التجويع) ضد نحو 2.4 مليون فلسطيني في قطاع غزة، ما أدى إلى ارتفاع عدد ضحايا الجوع وسوء التغذية، وسط مخاوف من تفاقم الأعداد خلال الفترة المقبلة، خاصة بين الأطفال وكبار السن والمرضى.
وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، السبت، تسجيل 10 وفيات جديدة، من بينهم 3 أطفال بسبب التجويع وسوء التغذية في القطاع خلال 24 ساعة، ليرتفع عدد ضحايا التجويع إلى 332 شهيداً، من بينهم 124 طفلاً. وأعلنت الأمم المتحدة في 22 آب/آب، المجاعة في مدينة غزة، اعتماداً على تقييم للمبادرة العالمية للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي.
تجلس الفلسطينية أم نزار ريان (35 سنة) على باب خيمتها في وسط مدرسة لإيواء النازحين غربي مدينة غزة، وقد بدا على ملامحها الإعياء، توزع نظراتها صوب أطفالها السبعة، وتقول لـ “العربي الجديد”: “اليوم كان طعامنا أرزّاً من التكيّة الخيرية. إذا كان هناك أرز نتناول وجبة، وإذا لم يصل الأرز إليهم فلا نأكل. نعيش طوال الأسبوع على وجبة الأرز اليومية، وأحياناً معلبات إن توفرت. الأولاد يطلبون اللحوم أو البطاطا أو الخضراوات، لكنّ الأسعار باهظة، ولا نملك ثمنها. حتى الملابس والأدوية لم نعد قادرين على توفيرها”. ويزيد مصاب ريان وضع زوجها الذي فقد بصره على إثر تعرضه للضرب المبرح خلال اقتحام قوات الاحتلال للمدرسة التي نزحوا إليها سابقاً في مخيم جباليا شمالي القطاع، قبل توجههم إلى حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، فالزوج لا يستطيع إعالة أسرته، وأصبح أسير الفراش، لذا أصبحت العائلة أسيرة المساعدات المحدودة التي تقدّمها التكيات الخيرية.
نزح الفلسطيني بدري معروف (44 سنة) مع أفراد أسرته الستة من بيت لاهيا إلى مدرسة إيواء في حي الشيخ رضوان المهدد بالإخلاء، ويختصر حال أسرته قائلاً: “أكلنا طوال الأسبوع الأرز والعدس فقط. دخلت بعض البضائع، لكن لا يتوفر لدي أموال لشراء أي منها كوني مُعطلاً عن العمل منذ بداية الحرب، ولا أستطيع توفير قوت يومي”. ويضيف معروف لـ “العربي الجديد”: “أولادي يطلبون بندورة أو بطاطا أو حلاوة، لكني لا أقدر على تلبية مطالبهم، وزوجتي مريضة قلب، وتزداد حالتها سوءاً من قلة الطعام، ولا أملك حتى ثمن دوائها. دخول بعض الأصناف لم يغيّر شيئاً في واقع التجويع، فالبضائع غالية، ونحن بلا مصدر دخل”.
مأساة أخرى يعيش تفاصيلها الفلسطيني سامي غبن (44 سنة)، والذي يعيل أسرة مكونة من 10 أفراد، وبات عاجزاً عن توفير أدنى مقومات الحياة لأطفاله، ما يدفعه إلى الذهاب لمناطق دخول المساعدات الإنسانية في أقصى شمالي القطاع، رغم أن الرحلة “مقامرة بالحياة”. ويقول غبن لـ “العربي الجديد”: “نضطر إلى الذهاب قرب حاجز زيكيم كي نحصل على كرتونة غذائية، لكن المكان هناك عبارة عن مصيدة موت. اليوم أكلنا جميعاً علبة حمص واحدة، وطعامنا المعتاد هو أرز أو عدس من التكيات. كيلو الحطب بـ7 شواكل، ولا نستطيع شراءه، وبالتالي نأكل من دون تسخين. حياتنا بائسة. نفس الأكل كل يوم، والنتيجة أمراض جلدية والتهابات وضعف مناعة عند الأطفال. ابني يسألني عن ملوخية أو جبن أو طماطم. لكن إذا أردت أن تطعم أولادك فعليك أن تخاطر بحياتك”.
من جانبها، تقول الفلسطينية هناء أبو العيش، وهي أم لأسرة مكونة من 6 أفراد: “نعاني عدم القدرة على شراء الأطعمة، رغم دخول بعض البضائع في الفترة الأخيرة، ونعتمد على الأطعمة المعلبة مثل الحمص والفول، وطوال أيام الأسبوع لا أطبخ، وأعتمد على الأرز الذي توزعه التكيّات الخيرية في مدرسة النزوح”. وتحكي لـ “العربي الجديد”: “في كل أيام الأسبوع طعامنا مكرر، ولا يتغير عن العدس والأرز والمعكرونة وبعض المُعلبات. لا أذهب إلى السوق لأنني لا أملك مالاً لشراء أي شيء. سعر كيلو البندورة 120 شيكلاً، فكيف أشتريها؟ أنا مريضة قلب، وطعام المعلبات مضر لحالتي، لكننا لا نملك غيره. المجاعة مستمرة في قطاع غزة رغم دخول أصناف من البضائع، والغالبية يواجهون صعوبات في توفير الطعام بسبب عدم وجود مُعيل”.
ولا يختلف حال الفلسطيني موسى عطية كثيراً، فهو أب لثمانية أطفال، وبات عاجزاً عن تلبية أدنى مقومات الحياة، خصوصاً المأكل والمشرب. ويقول لـ “العربي الجديد”: “دخول بعض البضائع لا يغير الواقع الصعب الذي نعيشه، خاصة أنني عاطل، ولا أملك أموالاً لشراء مستلزمات العائلة. أولادي أنفسهم في المربى أو العسل، أو حتى البسكويت. بعد دخول البضائع لم أقدر على شراء الخضراوات أو الفواكه. زهقنا من العدس والفاصوليا والأرز، والمجاعة لا تزال موجودة”.
تعيش الفلسطينية سامية طشطاش مع أشقائها الثلاثة من ذوي الإعاقة داخل خيمة في مدرسة إيواء بمدينة غزة، وهم بلا مُعيل، وتقول لـ “العربي الجديد”: “إذا جاءنا أرز من تكية المدرسة نأكل، وإذا لم يأتنا فلا نأكل، وطوال الأسبوع نعيش على العدس والمعكرونة والأرز. نفسي أذوق الدجاج أو البطاطا أو الباذنجان. البضائع وصلت إلى السوق، لكننا لا نستطيع الشراء لأنه ليس لدينا أموال”. وتضيف طشطاش: “البضائع التي دخلت قطاع غزة أسعارها مرتفعة، وتفوق مقدرة الجميع، وحتى الآن لم أستطع شراء أي شيء منها. نحلم بتغيير روتين الطعام اليومي، ونعود إلى تناول الدجاج والخضراوات، لكن حتى اللحظة تظل هذه مجرد أمنية لا نملك تحقيقها”.
من جهتها، تؤكد اختصاصية التغذية، سماهر أبو عجوة لـ “العربي الجديد”، أن “غياب التنوع الغذائي الذي يشمل البروتينات والخضراوات والفواكه، يؤدي إلى ضعف المناعة، والإصابة بالأمراض المزمنة، وتأخر نمو الأطفال، وانتشار أمراض مثل فقر الدم والهزال، وما يتوفر حالياً في قطاع غزة لا يلبي أدنى مقومات الصحة السليمة”. وتضيف أبو عجوة : “الغذاء الصحي يعتمد على التنوع الذي يشمل الكربوهيدرات، والبروتينات، والدهون الصحية، وفي غزة حالياً، ما يتناوله الناس يومياً يقتصر على العدس والأرز والمعكرونة وبعض المعلبات، بينما الخضراوات والفواكه معدومة تقريباً، واللحوم غائبة تماماً، وهذا يعني نقصاً خطيراً في الفيتامينات والمعادن الأساسية، ما يؤدي إلى ضعف المناعة وانتشار الأمراض”.
وتحذر الطبيبة الفلسطينية من خطورة الاعتماد على تناول الأطعمة المُعلبة لفترات طويلة، مؤكدة أن “المعلبات مليئة بالأملاح والمواد الحافظة، وهي تسبب مشكلات في القلب والكلى والجهاز الهضمي، كما تؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، وارتفاع مستوى سكر الدم، وصولاً إلى الأورام السرطانية. الأطفال الذين يتغذون على هذه الأطعمة سيعانون الهزال وضعف النمو، وربما التأخر العقلي”. وتشدد أبو عجوة على أن “غياب البروتين الحيواني والخضراوات والفواكه سيترك آثاراً طويلة المدى على الصحة العامة لأهالي غزة، خاصة الأطفال والمرضى وكبار السن، ونتحدث عن جيل كامل مهدد بالإصابة بسوء التغذية الحاد”.