حبر على ورق… تشريعات إيرانية أسقطها الشارع

يتجاهل الشارع الإيراني الامتثال إلى تشريعات قانونية غضت الدولة الطرف عن تطبيقها، وإن كانت لم تلغها لتفعّل بشكل انتقائي في ظروف بعينها، في حالة من السيولة تحكم علاقة ضبط الدولة للمجتمع وإنفاذ تصوراتها وأنظمتها.

– يقطن الخمسيني الإيراني سعيد رضوي في حي ثري يقع شمالي طهران، تنتشر على أسطح منازله أطباق استقبال القنوات الفضائية، رغم أنها محظورة بموجب القانون، ومع ذلك لم يتعرض السكان إلى أي متاعب تذكر، باستثناء حادثة واحدة قبل ثلاثين عاماً، حينها تدخلت الشرطة وصادرت بعض الأطباق، ومن وقتها لم يتكرر الأمر، كما يقول رضوي لـ”العربي الجديد”.

لم يعتقل سعيد وجيرانه ولم يسددوا الغرامات المفروضة على من يضبط متلبساً باستخدام الأطباق، وإن كان البعض قد عوقب لدى بدء تطبيق الحظر، “ووقتها كنا نخفي أطباق الاستقبال ولا نجرؤ على الإفصاح عن وجودها. أما اليوم، فالأمر مختلف تماماً”، يؤكد سعيد.

ولا يعد قانون حظر اقتناء أطباق استقبال القنوات الفضائية التشريع الوحيد غير المطبق في إيران؛ فثمة قوانين في مجالات مختلفة بقيت مجرد حبر على ورق. ويشرح المستشار القانوني السابق في السلطة القضائية حميد رضا إبراهيمي طبيعة تلك التشريعات قائلاً: “القانون المهجور في إيران هو تشريع لا يُنفَّذ من قبل الهيئات الرسمية المختصة، وفي الوقت ذاته لا يتم تعطيل تطبيق القانون رسمياً. ولكنه يبقى ضمن حالة تعتبر عملياً أنه جرى إلغاؤه وعندما يُفعَّل يتم ذلك بشكل انتقائي”.

ومن بين تلك التشريعات قانون “زيادة عدد نواب مجلس الشورى الإسلامي” المُقر عام 1999 وينص على إضافة 20 مقعداً كل عشر سنوات للعدد الحالي البالغ 290 نائباً، لكنه لم يطبق وصار مُعطَّلاً ومهجوراً. كذلك قانون إلزامية ارتداء الحجاب وهو من النوعية التي تخضع لتنفيذ جزئي ويتأثر بالتغيرات المجتمعية؛ فلا يمكن اعتباره من بين القوانين المتروكة والمهجورة، إذ يُفتَح أو يُغلَق باب تنفيذ هذه النصوص من السلطات القضائية والأمنية حسب الظروف السياسية والاجتماعية في البلاد.

يضيف إبراهيمي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن قانون حظر استخدام معدات استقبال بث الفضائيات، الصادر عام 1995 والمكوّن من 11 مادة، ينص في مادته التاسعة على مصادرة هذه الأجهزة وفرض غرامة مالية تراوح بين مليون ريال (1.22 دولار أميركي)، وثلاثة ملايين ريال (3.64 دولارات).

غير أن القانون لم يُطبَّق باستمرار طوال العقود الثلاثة الماضية؛ وأحياناً استعانت الشرطة بقوات خاصة لمصادرة بعض الأطباق من على أسطح البيوت، وفي أحيان أخرى لم تتخذ أي إجراء حيال المخالفين. “ومع ذلك، لا يمكن القول إن هذا القانون قد أُهمل بالكامل، فحتى الآن رسمياً يُعتبر اقتناء هذه التجهيزات مخالفة قانونية، ما قد يسبب مشكلات لمن يعمل في الأجهزة الحكومية أو يسعى للالتحاق بها والتوظيف فيها”.

 

تطبيق ظرفي

أدى الانتشار الواسع لمخالفي تلك القوانين، بحسب إبراهيمي، إلى صعوبات في التطبيق جعلت القانونين “يتأثران بالتقلبات السياسية في البلاد، فتشتد الرقابة أو تضعف تبعاً للظروف”.

ويتضح ما سبق عبر تصريح وزير الثقافة والإرشاد الأسبق علي جنتي (2013 – 2016)، بأن سبعين بالمائة من الإيرانيين (85 مليون نسمة)، يستخدمون أطباق استقبال إرسال القنوات الفضائية، مضيفاً في 12 تموز/ تموز 2016: “تعديل هذا القانون أصبح أمراً ضرورياً للغاية، ويجب حتماً أن يُنفذ”، بحسب ما أورده موقع “جماران” الإخباري التابع للتيار الإصلاحي، وربما تتجاوز النسبة 90%، وفق ما نقلته وكالة إيسنا (إخبارية أسستها عام 1999 منظمة الطلبة)، في الثالث من تموز عام 2015 عن عضو جمعية اختصاصيي علم النفس الإيرانية عظيم دارايي فاضلي.

لا يطبق قانون حظر استخدام معدات استقبال البث الفضائي

تؤيد ما سبق الناشطة والمحامية شيما غوشة، التي ترافعت عن سيدات غير محجبات أوقفن بسبب مخالفة القانون، موضحة أن التشريع أُقر في عام 1983، ثم فُرضت عقوبات عديدة بموجب القانون الصادر عام 1996، استهدفت اللاتي يظهرن في الأماكن العامة والشوارع دون حجاب شرعي بالعقوبة التعزيرية التي تراوح بين أربع وسبعين جلدة أو السجن من عشرة أيام إلى شهرين، أو الغرامة، بحسب الفقرة التوضيحية للمادة 638 من القانون.

طُبقت هذه العقوبات في حالات محدودة، كما تؤكد غوشة لـ”العربي الجديد”، مشيرة إلى أن المادة المذكورة لا تحدد معايير الحجاب الشرعي وطبيعته، موضحة أن دوريات شرطة الآداب خلال العامين الماضيين فرضت عقوبات على المخالفات عبر حجز السيارات الخاصة، أو فرض غرامات مالية برسائل نصية تصل إلى هواتفهن، ثم فتح ملفات قضائية بحقهن، بدلاً من الاحتكاك المباشر في الشوارع بعد سحب الدوريات التي أثارت في وقت سابق جدلاً على نطاق واسع منذ إنشائها عام 2005.

جراء ذلك أضحى خلع الحجاب من الإيرانيات ظاهرة مجتمعية، فباتت شوارع العاصمة ومدن كبرى تختلف كلياً عما كانت عليه قبل احتجاجات 2022 التي أشعلها مقتل الشابة مهسا أميني بعد احتجازها من شرطة الآداب التي نفت تعرضها للضرب أو التعذيب، بينما رفض المتظاهرون وأسرتها الرواية الرسمية ونتائج التحقيق القضائي التي أرجعت الوفاة إلى أمراض سابقة لديها. ولم يعد الأمر مقتصراً على خلع غطاء الرأس، بل بعض الفتيات تخلين عن ارتداء المعطف الطويل الذي يغطي الجسم حتى الركبة، بالإضافة لسيدات حوكمن بعد نشرهن صورهن على وسائل التواصل الاجتماعي بدون حجاب.

 

تدخل رئاسي

توضح المحامية غوشة أن المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يقوده الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان قرر تعليق قانون جديد مثير للجدل كان يفرض تطبيقاً أكثر صرامة لقواعد اللباس الإسلامي بعدما أقره البرلمان في 2024، إذ تضمن عقوبات متدرجة ومختلفة، في ظل مخاوف أمنية من رد فعل الشارع. وتابعت قائلة إن ذلك كان سيؤدي إلى “عواقب عديدة لا تستطيع السلطات مجابهتها، فقد بلغ وعي المواطنين حداً جعلهم يعتبرون أن خلع الحجاب ليس جريمة ويرفضون تدخل الدولة في شؤونهم الشخصية”.

أضحى خلع الإيرانيات الحجاب ظاهرة مجتمعية

ونصّ قانون “العفاف والحجاب” المكون من 72 مادة على أنّ المخالفات البسيطة كالظهور في مكان عام من دون الحجاب تُواجَه بالتنبيه الشفهي أو الخطي، أو غرامة مالية تراوح قيمتها بين ما يوازي خمسة دولارات و22 دولاراً. أمّا في الحالات الجسيمة أو المتكررة، ولا سيما كشف الحجاب الكامل أو الترويج للأمر، فتصل الغرامة إلى خمسة آلاف دولار، وقد تقترن بعقوبات تكميلية، مثل حظر السفر إلى خارج البلاد، وتجميد الحسابات المصرفية، وإغلاق المحال التجارية، أو الحرمان من الخدمات الاجتماعية لمدة تصل إلى عامين.

بموجب القانون، استهدفت أشدّ الغرامات والعقوبات الجزائية التحريض الواسع على خلع الحجاب، أو التعاون مع الشبكات الأجنبية، أو الارتباط بالجرائم الأمنية. فعلى سبيل المثال، يُعاقَب على “الترويج والدعاية للتعري، أو انعدام العفة، أو كشف الحجاب أو سوء اللباس، بالتنسيق مع أشخاص أو حكومات أو شبكات أو وسائل إعلام أجنبية، في حال لم ينطبق الوصف القانوني للإفساد في الأرض، بالسجن من خمس إلى عشر سنوات”.

لكن القانون لم ينجح في إثارة مخاوف عشر فتيات غير محجبات التقى “العربي الجديد” بهن في شوارع طهران، إذ أكدن مخالفة القانون لأنه يتعارض مع حرياتهن الشخصية، بينما ذكرت سبع منهن أنه “حتى لو لجأت السلطات لاستخدام القوة لتطبيق القانون، فلن يرتدين الحجاب”، فيما صرحت ثلاث أخريات باستعدادهن للامتثال إذا أُجبرن على ذلك.

 

لماذا لا تطبق القوانين؟

تصف دراسة أعدها مركز أبحاث البرلمان الإيراني في آب/ آب 2018، حجاب 70% من الإيرانيات بـ”السيئ” أو ما يُعرف بـ”الحجاب العرفي”، ويشمل كشف الرأس جزئياً وارتداء معطف يصل حتى الركبة وأحياناً أقل منها. وتؤكد الدراسة أن هذه الظاهرة شاع انتشارها بمرور العقود وأصبحت السلطات تتقبلها برغم المخالفة.

ويعدد المحامي سلام أرشدي عوامل تجعل بعض القوانين مهجورة بلا تطبيق، منها تضارب المصالح بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وعدم تحديث القوانين لتواكب ظروف المجتمع المستجدة، ورفض الشارع القوانين ذات الأبعاد الاجتماعية، والسعي للحفاظ على صورة الحكومة ومشروعيتها أمام المجتمع الدولي، وكثرة المخالفين، وعدم وجود مصلحة في الدخول في مواجهة شاملة معهم، فضلاً عن الخوف من اندلاع احتجاجات عامة، وغيرها من الأسباب.

الصورة

انعدم الرضا العام بالقانون، يهز ثقة الشارع بالسلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية

يشير أرشدي، الذي نال شهادة الدكتوراه في القانون ويملك مكتب محاماة، إلى أن هذه العوامل أدت لتوقف تنفيذ بعض الأحكام الجزائية الإسلامية، مثل رجم المحكوم عليه بالحرابة (قطع الطريق للسلب) أو قتل المثليين، ويوضح أن التجربة أثبتت أن المجتمعات ترفض عموماً القوانين التي تحظر حريات أساسية يعترف بها المجتمع الدولي وقد تفرض عقوبات على من يطبقها، كما أن كثرة المخالفين تعيق تطبيق القانون باستمرار، ويؤول الأمر في النهاية إلى هجره.

يتعارض ما سبق مع فلسفة عملية التشريع، وهي “إرساء النظام والعدل والأمن في المجتمع” كما يرى الحقوقي والناشط السياسي الإيراني محمود عليزادة طباطبائي، عضو اللجنة المركزية لحزب كوادر البناء الإيراني الإصلاحي، النائب السابق للأمين العام للحزب للشؤون القانونية، قائلاً لـ”العربي الجديد”، إن “ما يدفع المواطن لاحترام القانون والتقيد به هو وجود رضا عام، فإذا انعدم تنشأ مقاومة نفسية ومدنية ضد الامتثال إليه، ما يؤدي إلى اهتزاز ثقة الشارع بالسلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، بل وبالنظام ككل، ويُفضي ذلك إلى استياء اجتماعي، بسبب تراجع شرعية القوانين وفعاليتها”.

ويوضح عليزادة طباطبائي أن مجموعة “القوانين المدنية” التي تتضمن 1350 مادة، تطبق منذ عام 1934 لما لها من تجذر وانسجام مع الأعراف المجتمعية دون الحاجة إلى تدخل أمني وقسري، “لكن تشريعات مثل قانون الحجاب والعفاف وضعت التضامن المجتمعي والنظام العام أمام تحديات، ما دفع أعلى سلطة أمنية (مجلس الأمن القومي) لاعتباره منافياً للأمن القومي، وأمرت بتعليق تنفيذه”، خصوصاً أن المادة التاسعة من الدستور الإيراني تنص على أنه “لا يجوز لأي مسؤول أن يسلب الحريات المشروعة بحجة الحفاظ على استقلال الدولة ووحدتها، ولو من طريق إصدار القوانين والقرارات”.